عبد السلام الأحمر
يشغل الشعور بالفرح حيزا هاما في توجيه سلوك الإنسان، إذ جبلت النفس على حب ما يسعدها ويفرحها، وبغض ما يشقيها ويحزنها، وتختلف أسباب الفرح ودواعيه تبعا لمباديء المرء ومعتقداته وقيمه، التي تربى عليها وتشبع بها داخل البيئة الأسرية والاجتماعية، وحتى نفهم دور التنشئة الاجتماعية والتربوية في تشكيل منظومة ما يفرح وما يحزن، ننبه إلى كون الفرح غير مرتبط دائما بمجال الحق والخير والفضيلة، وإنما قد يغشاه الباطل والدونية والرذيلة من كل صوب، فإذا انكمش صوت الضمير وارتكست الطباع وفسدت الأخلاق، وتدنت الهمم،
فرح السارق بما نالته يداه من ملك غيره، والغاش بخيانة الأمانة، والفاسق بانتهاك الأعراض، والفاسد بشيوع الظلم والفاحشة، وبتراجع العدل وتراخي القائمين على إحقاقه، كما يفرح العاجزون والمتقاعسون بعدم اتقان الواجبات والتحلل من العهود والالتزامات، {فرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 81، 82]
إن الإسلام أعلم الإنسان بأنه خلق لتحمل أمانة الاستخلاف في الأرض ليعمرها بما يختاره من أحد طريقين: اتباع الحق والعدل والهداية، أواتباع الباطل والظلم والضلال، وبعد فترة الابتلاء والامتحان في الحياة الدنيا، كما أوضح الله في كتابه “{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2] يأتي يوم الحساب في الدار الآخرة لينعم بالسعادة الأبدية في الجنة إذا كان قد سلك صراط الله المستقيم وسار على هديه المبين، أو يلقى الخزي والندم والشقاء في عذاب الجحيم، إذا أعرض عن نهج الله واتبع هواه.
فالناس في هذه الدنيا بين من يفرح بالاهتداء إلى فهم مهمته في الوجود، والقيام بالمسؤوليات التي تندرج في إطارها، اعتقاد وعبادة وأخلاقا ومعاملات، وكلما خطى خطوة على درب الله، وأدى فرضا أوسنة أو تطوع بالأعمال الصالحة، أو اتقى المنهيات وتورع عن الشبهات، أحس بلذة الاستقامة وجمال الانقياذ لأمر الله، وانتابته البهجة بالانتصار على نفسه وصيانتها من حبائل الشيطان العدو اللدود وعلى فتن الحياة ومغرياتها المهلكة، واستبشر بالفوز بالنعيم المقيم، الذي لايزول ولا يحول، ولا يعكر صفوه شيء من منغصات الدنيا وجفواتها الغادرة.
وبين من يفرح سفاهة بسفاسف الأمور، ويعتز بقصور نظره في إدراك مغزى وجوده، وجسامة المسؤولية التي تطوق أعناق جميع الآدميين، وهو غافل عنها أولاه أو متهاون ومتجاهل لعواقبها الخطيرة، فيفرح ويمرح بكيفية غير مأذون له فيها ولا مسموح بها في دين الله، {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } [غافر: 70 – 76] قال ابن كثير: أي تقول لهم الملائكة: هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق، ومرحكم وأشركم وبطركم.
وفي هذا الاتجاه تدرك الحكمة التشريعية للأعياد والمواسم الإسلامية ومقصدها الأسمى؛ وهو الارتقاء بفرح الإنسان ليكون في مستوى شكر الله وحمده على ما وفق إليه من الطاعات واغتنام مناسبات العبادة، التي رتب عليها أجرا عظيما يناسب قدر المعبود وجلاله.
فعيد الأضحى يأتي في نهاية الأيام العشرة الأولى من شهرذي الحجة الحرام، التي أقسم الله بها في القرآن تعظيما لفضلها فقال تعالى:” {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 – 3] وفيه تؤدى مناسك الحج ويقف الحجاج بعرفة يوم تاسع ذي الحجة الذي يسن صومه لغير الواقف بعرفة وله من الفضل تكفيرخطايا سنة قبله وسنة بعده، كما جاء عن النبيrأنه قال :” صيام يوم عرفه أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ” [ رواه مسلم .
أماعيد الفطر فيأتي بعد صيام شهر رمضان؛ الذي أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين، وقال عنه الله تعالى في الحديث القدسي “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ” ومعنى وأنا أجزي به أي أعطي عليه أجرا عظيما، وعن أبي هريرة قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):”من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” (البخاري)
وفيه العشر الأواخر التي تلتمس فيها ليلة القدر؛ التي هي خير من ألف شهر، وتنتهي بأداء زكاة الفطر الواجبة على كل مسلم صغير وكبير ذكر وأنثى يملك صاعا من تمر أوحبوب زائد عن قوت يومه، وهي طعمة للمساكين وطهرة للصائم من اللغو والرفث، الذي قد يخالط صومه في حالة غفلة ونسيان.
فالمؤمن وهو يؤدي كل هذه المناسك، يستحضر أثرها في تزكية النفس وتقوية ارتباطها بالله تعالى، وتحقيقها للتكافل الاجتماعي وإشاعة البهجة والسرور والبشر والحبور، على محيا الصغار والكبار أغنياء وفقراء في يوم العيد، ويعتز بإسهامه في تنمية أواصر الأخوة الإسلامية بين مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية.
فمن شمر لاستحقاق ما رتبه الشرع على ممارسة هذه العبادات بصدق وإخلاص، حق له أن يفرح ويهنأ بما يرجوه عند الله من جزيل الأجر والثواب اللامتناهيين في جنات الخلد، والنجاة من سوء الحساب وشدة العذاب في نار جهنم. “{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58].
فالفرح بكل مكسب ينتهي حتما بانتهائه وتلاشيه مع الزمن، لكن فرح المؤمن بانتسابه لحظيرة الإيمان وأتباع القرآن، وانخراطه في عبادة الله والعمل الصالح، يعود إلى النفس ليسعدها ويمد في أملها في رحمة الله ومغفرته ورضوانه كلما تذكرته، ويفضي بها إلى الفرحة الكبرى في عالم الجنة الذي أعده المولى سبحانه للأفراح والمسرات التي لها بداية ولكن ليست لها نهاية، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 – 171].
و كثير من المسلمين يغفلون عن المعنى الحقيقي لفرحة العيد، والتي لاتنحصر في لبس الجديد واللهو واللعب المباح فقط، مع كون ذلك من سمات العيد، ولكن الفرح الحقيقي هومن أجل أداء الركن الرابع من أركان الإسلام الخمس؛ والمتمثل في صيام رمضان إيمانا واحتسابا.
فقد قيل ليس العيد لمن لبس الجديد وإنما العيد لمن خاف يوم الوعيد.
وقال أبو إسحاق الألبيري:
ما عيدك الفخم إلا يوم يغفر لك *** لا أن تجـــر به مستكبــرا حــللك
كم من جديد ثياب دينه خلق *** تكاد تلعنه الأقطار حيث ســـــلك
ومن مرقع الأطمار ذي ورع *** بكت عليه السماء والأرض حين هلك
ومعلوم أن للمسلم فرحة في الدنيا يوم فطره في عيد الفطر، وفرحة في الآخرة حين يتجاوز الصراط، ويدخل الجنة ويرى الله بدون حجاب. فهل نجتهد في جعل فرحتنا بأداء الفرض أهم وأعظم من فرحتنا بالطعام والشراب، الذي رفع عنه المنع بانتهاء رمضان؟ ليبحث كل منا عن الجواب الصادق في دخيلة نفسه وليراجعها إذا استبدلت الأدنى بالذي هو خير وأبقى أو قنعت به.
عبد السلام الأحمر