صوائن فاعلية المؤمن ـ الجزء 1

0

في حوار مع الدكتور زيد بوشعراء

فاعلية المؤمن

المفهوم والصور والعوامل والصوائن

القسم الثالث: صوائن فاعلية المؤمن ـ الجزء 1

       سؤال 19: فصلتم في القسمين الأول والثاني  من الحوار صور الفاعلية وعواملها، وفي هذا القسم الثالث من الحوار نتوقع منكم أن تحدثونا عما يصون فاعلية المؤمن، والحديث عن صوائن الفاعلية  يفترض أن الفاعلية قد لا تستمر على ما بدأت به، فما هو تصوركم لما قد ينتابها في مسيرتها؟.

ينتاب الفاعلية في مسيرتها تحولان أحدهما غير قابل لأن يتحكم فيه الإنسان والثاني قابل للتحكم وقد يكون مقبولا وقد لا يكون وذلك أن العمل عادة يبدأ بنشاط قوي تم ينخفض نشاطه وقد يتوقف انخفاضه وقد لا يتوقف، وبيان ذلك بالنسبة لفاعلية المؤمن:

1 – أن عمل المؤمن الفاعل في العادةيبتدئ مقترنا بدافع من قوة الإيمان بمشروعيته ومناسبته وجدواه وأهميته، وبخوف من إخفاقه فيه، وبرغبة في التغلب على صعوباته وعوائقه، وبحرص على كسب الدربة في العمل الجديد عليه والتحكم في آلياته وضبط مساره وإن كانت له دربة في غيره يمكنه توظيفها فيه .. هذه القرائن النفسية من الإيمان والخوف والرغبة والحرص وغيرها تجعل المؤمن يحبط مرحلة بدئه العمل بعناية فائقة مبالغ فيها ويحترز فيها من تسرب الخلل إليها لكونها مرحلة حاسمة ولكون اختلالها أو صحتها يؤثر في  العمل خلال مراحله التالية، فيستجمع كل قواه النفسية والذهنية والبدنية وقوى غيره ممن يساعده ويوفر وسائله وما يتوقف عليه نجاحه مما يجعل العمل يحظى منه في هذه المرحلة بحماس بالغ ونشاط ملحوظ ويستهلك طاقته استهلاكا استثنائيا.

وعندما يضع المؤمن قطار العمل على سكته وينطلق ويبدأ في كسب الدربة فيه والخبرة يصبح العمل أيسر مما كان وغير متطلب لما كان يتطلبه في البدء ويخف التوتر الأول وينخفظ ضغط الابتداء وتتبدد بعض المخاوف فتعود كثافة العمل وطريقة معالجته ووتيرتهواستهلاكه للطاقة إلى اعتدالها الطبيعي بعد الدفعة الأولى القوية  التي كانت ضرورية للانطلاق،  وهو يشبه في بعض النواحي سير السيارة فإنها تحتاج لكي تنطلق إلى قوة دفع كبيرة تستهلك في عدد من دقائق الانطلاق ما لا تستهلك في مثلها من الدقائق بعد الانطلاق. 

هذا عامل من عوامل فتور عمل بعينه من أعمال المؤمن الفاعل.

وقد يصاب عمله بالفتور بسبب عامل ثان وهو ارتخاء ينتاب المؤمن الفاعل بعد انطلاق عمله عندما تلوح له بشائر نجاحه ويتلقى من الناس إشارات القبول، أو بسبب عامل ثالث وهو ما يجده من عوائق أو صعوبات في تنفيذ مشروعه تكون بمثابة كوابح تمنع استرسال قوته الأولى وتحد من حماسه الأول وتجعله متكيفا مع الحال وواقعيا أكثر ومعتدلا أكثر فأكثر.

وقد يؤثر عامل رابع وهو وجود مساعدين أكفاء مع صاحب هذا العمل ففي هذه الحال تنتقل علاقته بالعمل من مباشرته إلى تفويض بعضه لغيره مع مراقبة أعمال هذا البعض المفوض لهم وما يتطلبه ذلك من  وقت وجهد لتدارك ما يطرأ من الخلل أو الإفراط أو التفريط، وحينئذ ينخفض نشاط العامل تجاه عمله هذا درجة أخرى.

وتمة عامل خامس وهو ألا يكون معه من يحملون بعض العبء بجدارة أو كانوا معه ولكن بعدد غير كاف وهذا أمر وارد جدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحله” أي تحمل الأثقال، إذا كان الحال كذلك فتر العمل أكثر بسبب ما يصرف من جهود ووقت في درء التعثر عنه وفي إزالته أي بسبب الاشتغال بإصلاح العمل ووقايته بدل تنمية العمل وتقويته.

وهناك عامل سادس للفتور وهو أن العمل بعد انطلاقه يولد آثارا جانبية وتظهر بموازاته أعمال أخرى متفرعة عليه أو مرتبطة به وذلك  يجعل قوى العامل التي كانت مركزة في العمل الأول تتوزع على تلك الأعمال الموازية له والآثار الناشئة عنه، ومن ثم لا يبقى هذا العمل على قوته الأولى.

والعامل السابع هو أن العمل تتأثر قوته بقوة القائم به ولما كان الإنسان تنقص قوته البدنية تدريجيا وتزداد أعباء حياته المهنية والأسرية وغيرها شيئا فشيئا، كان من الطبيعي أن يفقد العمل الأول، مع مرور الوقت، جزء ا من قوته الأولى ويصاب بوهن ما.

 2 – إن الفتور في العمل بهذه المعاني شيء عادي، وهو من هذه الناحية، سنة من سنن الله في خلقه إلا أن الفتور بذاته انحدار، والمنحدر قد يجر إلى أسفله، ومن تسيطر عليه الغفلة والغرور يوشك أن تهوي به الجاذبية في مكان سحيق فيسقط على الأرض ويخلد إليها ولذلك نبه الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه ليس كل فتور مقبولا وأن له حدا لا يجوز النزول عنه وأن في النزول عنه هلاكا لدين المرء وأنه مهما قل نشاط المؤمن تجاه عمل من الأعمال لعوامل خارجة عن إرادته أو بسبب التوفيق بينه وبين أعمال أخرى لا بد منها فينبغي له أن يلزم فيه التوسط والاعتدال ويواظب عليه في حد ما وألا يتركه البتة أو بدون عذر أو إلى غير بدل أفضل منه، وألا يفرط في سننه الشرعية. 

ولعل ما ذكرته من معاني النشاط وما يعقبه من الفتور هي من معاني ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرة التي تتبعها فترة وذلك في قوله: “إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك”، أو قوله:”إن لكل شيء شرة ولكل شرة فترة فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه” (أنظر صحيح الجامع الصغير) قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم:”فإن صاحبها سدد وقارب فأرجوه”، “يجعل صاحب الشرة عمله متوسطا ويتجنب طرفي إفراط الشرة وتفريط الفترة” (فأرجوه) أي أرجو الفلاح منه فإنه يمكنه الدوام على الوسط وأحب الأعمال إلى الله أدومها.

وفي القرآن إشارة إلى ما لبعض الأعمال من حد أعلى أمر الله المسلمين بالارتقاء إليه وحد أدنى أمرهم ألا ينزلوا عنه فقد فرض الله على المؤمنين المجاهدين أن تثبت كل مائة منهم أمام ألف من أعدائهم ثم لما علم فيهم ضعفا أمر كل مائة منهم أن تثبت أمام مائتين فذلك حد أعلى وهذا حد أدنى قال الله تعالى: “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن تكن مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين”، وكذلك أمر الله المؤمنين في البدء بقيام نصف الليل تقريبا ثم لما تبدلت أحوالهم وظهرت حاجتهم إلى اكتساب الرزق وحاجة الأمة إليهم في الجهاد خفف عنهم وأمرهم أن يقوموا من الليل ما تيسر لهم وما لا يشق عليهم لكي يوزعوا قواهم ونشاطهم على أعمال تسد حاجات خاصة وعامة قال الله تعالى:” ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا… علم أن لن  تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه.(المزمل)

3 – إن الفتور بهذا المفهوم يصيب العمل في ذاته، أي من جهة الجهد المخصص له، ولا يصيب العامل نفسه بالضرورة، فإن من العاملين من ينمو نشاطهم وتتنوع أعمالهم وتزداد مبادراتهم وإن كان كل واحد منها يبدأ بأقوى مما ينتهي إليه وتنقص مباشرة المرء له وينتقل جزء من أعماله إلى يد غيره، ومن العاملين من يستمر على زخمهم الأول، ومنهم من ينقص نشاطهم ومنهم من ينقص كثيرا ومنهم من يتوقف نشاطهم البته.

السؤال20: إزاء ما ذكرتم من التحول الذي قد يعتري فاعلية المؤمن ماذا يمكنه فعله، في نظركم، من أجل صيانة فاعليته؟.

تبين أن الفتور حتمي بالنسبة للفاعلية الخاصة، أي فاعلية المؤمن في عمل من أعماله، وأنه ليس حتميا بالنسبة للفاعلية العامة، أي بالنسبة لمجموع أعماله، ولما كانت فاعلية المؤمن العامة قد تدوم على ما انطلقت به وقد لا تدوم، كان على المؤمن أن يحرص على ألا تنزل عن الدرجة المقبولة شرعا أو تنهار كلية أو تتحول إلى فاعلية مضادة وعليه أن يعمل على تجديدها منذ حدوث الانقطاع فيها أو الضعف، ويساعد على ذلك مجموعة مما يمكن تسميته بصوائن الفاعلية وفي مقدمتها الصوائن المتعلقة بقلب المؤمن الفاعل ونفسه.

الصائن الأول: تعهد القصد

مما يضعف الفاعلية ويضيعها على المؤمن ويفرغها من مضمونها أن تتحول أعماله إلى سلوكات اعتيادية خالية من قصد التقرب أو التعبد فيجري الله على لسانه ويده خيرا كثيرا ثم لا يكون له أي نصيب منه في الآخرة ولا يكتب الله لهذا الخير الأثر الذي يكتبه لمثله إن رجا به ما عند الله.

ومن أسوأ ما يتلف الفاعلية على المؤمن ويمحق بركتها أن يقسو قلبه فتظل أعمال نفع كبيرة تصدر منه ولكن بقصد دنيوي محض بحيث يصبح راجيا بها رضا الناس والسمعة والشهرة والجاه أو الحفاظ على ما يناله من أجر مالي على عمله وبذلك يصبح دينه وسيلة إلى دنياه بعد أن كان مسخرا دنياه لخدمة دينه، وهو أخوف ما يخافه التقي على نفسه.

ومن ثم كان على المؤمن أن يتعهد قلبه ألا يمرض أو يقسو وقد قال الله تعالى:” ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون”(الحديد 16)، وسبيله إلى صيانة قلبه وقصده تجديده لإيمانه باليوم الآخر، ويعينه على ذلك مواظبته على قراءة القرآن هذا الكتاب الذي جعله الله موعظة للمتقين وذكرى للذاكرين كما قال الله تعالى:” وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا”(طه 113) فبتلاوته لكلام الله واستماعه له يرحمه الله فيحفظ قلبه، وبوقوفه على ما نص الله عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم من ثواب مخصص للعمل الذي يهم به تنشأ في قلبه النيات الصالحة.

        ومن هنا فأنه لا تكفي المؤمن النية الطيبة العامة الأولى التي دخل بها عالم الفاعلية بل لابد له من تجديد الإخلاص وقصد الامتثال أو نية نيل الأجر الموعود به عند كل عمل على حدة، فهو إذن في اجتهاد مستمر يجاهد نفسه دوما وينهاها عن هواها، إيمانا منه بأن الأعمال الصالحة إذا خلت من قصد الامتثال لأمر الله ورجاء ثواب الله لم يكتب لها الاستمرار والاطراد كما قيل” ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل” ويوشك الله أن يجري على لسانه ما في قلبه من قصد غير سليم فيعرف الناس ذلك منه فينفرون منه. ولذلك يتعثر غير المخلص وتنعكس عليه أموره وكما قال ابن القيم: ” كل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة فإن الرب هو الذي يبارك وحده والبركة كلها منه”.

الصائن الثاني: حفظ وجل القلب

إن نمو رصيد المؤمن من أعمال الخير، أي كون المؤمن يزداد عملا صالحا بعد آخر بلا فتور أو توقف، يحتاج منه إلى أن يتناسى ما قدم من عمل صالح وألا يلتفت إلى الوراء بل عليه أن ينظر إلى الأمام بحيث يكون على الدوام معتقدا أنه لا يزال مقصرا وفي ذلك قال الله تعالى:” والذين يوتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ” (المومنون :61 ) ولذلك فإن ذا القلب الوجل مستزيد في الخيرات، ولا مجال عنده للتراجع أو التوقف، وهو في ذلك معتبر بمن مضى من السابقين وهم ” ثلة من الأولين ” الذين حافظوا على ما في قلوبهم من وجل وظلوا طوال حياتهم، وإلى آخر رمق منها، لا يعدون ما عملوا من عمل شيئا، ولا يعدون أنفسهم من الشاكرين لأنعم الله، وكان الواحد منهم يعد يومه الذي هو فيه هو البداية في سيره إلى الله: ينطلق فيه من الصفر نحو أعمال جديدة مجددا فيها حرصه على أن تكون صالحة وخالصة ثم ينتهي يومه وهو غير مطمئن إلى أنه قد وفى شروط القبول خائفا أن يكون عمله قد شابه التقصير أو تكون نيته قد داخلها حظ من حظوظ النفس، وخائفا ألا يكون قد أدى شكر النعمة وعلى رأسها نعمة الهداية، وينهي يومه وهو غير مطمئن أيضا إلى أنه لن يكون من المفلسين يوم القيامة من الذين قد تقبل منهم كثير من الأعمال لكن حسناتها تذهب إلى غيرهم ممن اعتدى عليهم بلسانه أو بيده، وخائفا أن يكون ممن قال الكلمة من سخط الله لم يلق لها بالا فتهوي به في نار جهنم سبعين خريفا، فلقد كان هذا الشعور عندهم من قبيل الشك الإيجابي الذي يدفع صاحبه إلى الإتيان بالمحاولة تلو الأخرى من أجل القيام بالأعمال على الوجه الذي يرضى الله تعالى ومن أجل الاجتهاد في القيام بواجب الشكر بأفضل مما قام به من قبل، ثم كانت الحصيلة في نهاية حياة كل واحد من تلك الثلة المباركة إنجاز أعمال كبيرة وكثيرة، في مجال البناء الحضاري وفي مجال الإصلاح المجتمعي وفي مجال الإبداع المعرفي، يعجب كل مطلع عليها من صدورها كلها من رجل واحد ومثلها يحتاج إنجازه إلى عصبة من الناس.

       وفي مقابل هؤلاء  الكبار المباركين قوم ليسوا للمؤمن الفاعل بقدوة قدموا أعمالا نافعة قليلة ثم لم يحافظوا على قلوبهم وجلة فرضوا بما عملوا وفرحوا بما أتوا وجفت ينابيع الخير في قلوبهم وتوقف بذلهم وعاشوا بعد ذلك ناسا عاديين وماتوا ناسا عاديين .. هؤلاء يحذر المؤمن الفاعل أن يصير إلى ما صاروا إليه .

الصائن الثالث: رد التوفيق إلى الله

لا يستمر مدد الله لعبد نسي أن قوته إنما هي بالله وأن لا توفيق له إلا به عز وجل فإن من شكر النعمة أن  ينسب العبد التوفيق والقوة إلى المنعم سبحانه ومن شكر كان حريا أن يتواصل له العطاء ” لئن شكرتم لأزيدنكم ” وجراء كفران النعمة أن يقطعها الله عن العبد ويكله إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه تعثر واضطربت أموره وتخبط وخسر.

وغالبا ما يواجه الموفق من المؤمنين بالمدح في الوجه فيكون على الممدوح، صيانة لنفسه وعمله أن يواجه المدح بنسب التوفيق إلى الله:”وما توفيقي إلا بالله” ويقول لمادحيه ما كان يقوله بعض السلف: “اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون”، على أن المرء الذي يعرف نفسه وتقصيرها في أداء ما افترض الله عليها وعدم شكرها لنعمه عليها لا ينال من دينه واجتهاده مدح المادحين له لعلمه أنهم إنما يزكونه لأن الله تكرم عليه فستره وحجب عنهم عيوبه قال ابن عيينة:” من عرف نفسه لم يضره المدح”.

الصائن الرابع: لوم النفس

قد يصاب المؤمن في فاعليته أثناء سيره إلى الله فيجد من الناس إعراضا في بعض الأحيان ويلاحظ في أعماله تعكسا وتعثرا وإخفاقا في أحيان أخرى ولا ينبغي له حينئذ أن يجعل للتشاؤم واليأس والشعور بالإحباط والعجز منفذا إلى قلبه بل عليه أن يعلم أن ذلك أمر لم يسلم منه قائد ولا عبقري وأن لمصابه أسبابا ينبغي له أن يفتش عنها في ثنايا نفسه قبل تصرفات غيره كما حكى الله لنا من حكمة سليمان عليه السلام” وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين”(النمل 20)، وذلك أنه لما كان في سفر من أسفاره احتاج إلى الهدهد وتفقد الطير فلم يره فيهم فبدأ بنفسه متسائلا:” مالي لا أرى الهدهد” أي هل هو موجود وأنا لا أراه وذلك قبل أن يتبين له أنه غائب فعلا بدون إذن فقال “أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين”(النمل 21)، ذلك هو الأدب اللائق بالحكماء الصالحين، وهو النظر الذي أرشد الله المؤمنين إلى اعتماده عندما قال: ” أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم”(آل عمران 165)، فالمؤمن إن رجع إلى نفسه أدرك أن مصابه ناتج عن رياء أو عجب أو غفلة عن ذكر الله أو ترك الاستعانة بالله أو تجاوزه لحد من حدود الله أو مخالفته للطريقة الشرعية في العمل المتعثر أو تقصيره في حق من له الحق عليه أو استعجاله في أمر له فيه أناة أو تفريطه أو إفراطه أو غير ذلك من الأسباب التي تدل على أن غضب الله قد حل به وعقوبته قد نزلت به أو أن تنبيها ربانيا قد وجه إليه وحينئذ ينبغي له أن يلوم نفسه على تفريطها وتلك هي طبيعة نفس المؤمن التي أقسم الله تعالى بها: “ولا أقسم بالنفس اللوامة”(القيامة 1)، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم صاحبها”الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت” فإن سارع بعدها إلى الاستغفار والتوبة سارع الله تعالى إلى تجديد فاعليته، بهذا السلوك يصبح أي تعثر طارئ حالة جزئية عابرة وعادية في مسيرة الفاعلية أو محطة لتصحيح السير، وبدونه يتوالى التدهور والتردي حتى تقع الانتكاسة.

وفي لوم النفس حفاظ على خلق التواضع واتقاء للغرور والعجب وهما من المنفرات المهلكات.

على أنه إنما يعود لوم النفس على النفس بالخير والصلاح إن كان خفيا وأما لومها على الملأ فهو بالرياء أشبه.

الصائن الخامس: مراعاة استطاعة المداومة 

مع أن “القلب الوجل” يدفع صاحبه إلى الازدياد في فعل الخيرات فإن الازدياد في حجم العمل ووتيرته وكمه ونوعه ينبغي أن يكون بقدر ومع مراعاة القوة الذاتية، فلا يحمل المؤمن نفسه من الأتعاب ما ينقطع به بذله أو يصيب اجتهاده بالانهيار بعد حين لما يجده من الإرهاق والإجهاد أو السآمة والملل.. يجمع ذلك كله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل” وقوله أيضا:”إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى” (البزار عن جابر).

الصائن السادس: النظر إلى من هو أحسن عملا.

إذا كان المؤمن ينظر دائما إلى من هو دونه علما وعبادة ونفعا ومن هو أبطأ منه في الخير فإن وتيرة سيره إلى الله تعالى تنقص ويصبح قانعا بما يصدر عنه من الإحسان وربما مستكثرا إياه فيقل زخمه وتنخفض درجة عطائه لكنه إذا قصر نظره على من هو أعلى فضلا وأسرع إحسانا فإن فاعليته تصبح في ازدياد بفعل الغبطة التي تحدث في نفسه من جراء هذا النظر، قال ابن بطال:” المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدا فيها إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبدا في زيادة تقرب من ربه” فتح الباري 323/1.

سؤال21: هذا الاعتبار الروحي والنفسي ضروري لصيانة الفاعلية لكن ألا ينال تضعضع التدين من الفاعلية؟ لاسيما وقد ذكرتم من قبل أن التدين الجيد يساعد على تحقيق الجودة في الفاعلية؟

إننا ها بصدد صائن آخر هو الذي يمكن تسميته “حفظ التقوى” وبيانه:

أن كل ذنب يقع فيه المؤمن يحط من درجة فاعليته ويسلب منها عواملها ويجلب لها عوائقها، ولا يزال الذنب ينقص منها مادام مصرا عليه حتى يتوب منه فإذا تاب استعادها إذا الله شاء. 

إن الذنوب كما قال ابن القيم (في الجواب الكافي): تستدعي نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه وهنالك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون”(الحشر 18ـ 19)، فأمر بتقواه ونهى أن يتشبه عباده المؤمنون بمن نسيه بترك تقواه وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه، أي أنساه مصالحها، وما ينجيها من عذابه، وما يوجب لها الحياة الأبدية وكمال لذتها وسرورها ونعيمها فأنساه الله ذلك كله لما نسيه من عظمته وقوته والقيام بأمره فترى العاصي مهملا لمصالح نفسه مضيعا لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا قد انفرطت عليه  مصالح دنياه وآخرته.

   هذا من الناحية الإجمالية أما تفصيلا فإن من آثار الذنوب على الفاعلية ما يلي:

1 – الذنوب تنقص من الإيمان 

إن الذنب ينقص من الإيمان ويزيد في النفاق فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من القلوب الأربعة  “قلب فيه إيمان ونفاق ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه”

والإيمان هو القوة الدافعة إلى العمل الصالح ونقصانه هو نقصان لقوة الدفع ونقصان للعمل الصالح وتراجع في البذل فالعصيان ينال من الطاعة ولا بد، والمعصية تنقص من مساحة الطاعة في حياة المؤمن كما تنقص زيادة النفاق من حجم الإيمان في قلبه وقد قال بعض السلف: “إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ” وقال ابن القيم: “الذنب يصد عن طاعة تكون بادية ويقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه طريق ثالثة ثم رابعة وهلم جرا، فيقطع عليه الذنب طاعات كثيرة كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها”.

2 –  الذنوب تنال من الإدراك.

قال ابن القيم:” فكل ذنب يطفىء من نور العقل بحسبه ويخل بميزان الإدراك والفهم، فإذا تكاثرت الذنوب ووقع الإصرار عليها أصبح القلب منكوسا حتى يرى الباطل حقا والحق باطلا والمعروف منكرا والمنكر معروفا، ويفسد ويرى أنه يصلح ويصد عن سبل الله وهو يرى أنه يدعو إليها…”  

3 – الذنوب تحرم العلم

إن الذنب يحرم العلم” فإن العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور، ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال إني أرى ألله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية، وقال الشافعي:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي……..فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلم فضل………..وفضل الله لا يؤتاه عاصي 

والمؤمن، وهو يسير في طريق الفاعلية، يحتاج إلى أن يكون دائم الصلة بالقرآن الكريم حتى يستمد منه الشفاء لما يعرض له من الأدواء جراء الابتلاءات المتتالية وأثار الذنوب الطارئة ويستمد منه الهدى فيما يجد من الأحداث والتساؤلات ويستمد منه الذكرى لما يحدث له من الغفلة والنسيان ويستمد منه أسباب تجديد الإيمان والتقوى وذلك لأن القرآن هو مصدر المؤمنين في ذلك كله قال تعالى: “قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء”(فصلت 44) وقال: “وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا”(طه 113).

غير أن القرآن إنما يمد بذلك من يؤمن به ويعمل به، فأما العاصي فإنه وإن بقي على صلته بالقرآن، تلاوة وتدبرا، محروم من فوائد القرآن تلك لأن عصيانه جعل في قلبه مرضا يحول دون استفادته من القرآن فإن الذنوب تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضا معلولا لا ينتفع بالأغذية التي فيها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، وقد نص الله تعالى على أن مرضى القلوب لا ينتفعون بالقرآن فقال عن سور القرآن:”فأما الذين في قلوبهم فزادتهم رجسا إلى رجسهم”(التوبة 125).

4- الذنوب تعمي القلب وتضعفه.

الذنوب كما قال ابن القيم: “تعمي القلب، فإن لم تعمه أضعفت بصره ولا بد…فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الهدى ومن قوته على تنفيذه في نفسه وفي غيره بحيث تضعف بصيرته وقوته، فإن كمال الإنسان مداره على أصلين معرفة الحق من الباطل وإيثار الحق على الباطل”.

والذنب يورث في النفس إحساسا بالضعف والعجز يتسبب في ضعف العزم على فعل الخير فيجد المذنب كل عمل شرعي صعبا وكل مشقة دينية ثقيلة وذلك هو الأصل في النفس البشرية وتلك طبيعتها تستثقل التكاليف ولو كانت خفيفة وتستكثر الواجبات ولو كانت قليلة إلا أن تكون نفسا مؤمنة مستعينة بالله فيسهل عليها الصعب ويخف الثقيل ولذلك كان من الدعاء المأثور:” اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إن شئت سهلا “

وعندما يضعف العزم تميل النفس إلى التسويف ويزين لها تأجيل الأعمال إلى أوقات تتوهم أنها مناسبة، وبذلك يتسبب الذنب في حرمان مرتكبه من فعل خيرات كثيرة وتنقص فاعليته مادام على حال العصيان إلى أن يتوب.

5 – الذنوب تعطل إرادة النفع

إن المؤمن بإيمانه وتقواه مرشح لأن يرتاد آفاقا للخير أوسع فأوسع بفضل معية الله عز وجل ولكن عندما يرتكب الذنوب تلو الذنوب ويفقد معها معية الله ويوكل إلى نفسه فإنه يصبح أسيرا لشهواته مشغولا بذاته غافلا عن نفع غيره مصروفا عن تحقيق مصالح دينه قال ابن القيم:”العاصي دائما في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه، فهو أسير مسجون مقيد، ولا أسير أسوأ حالا من أسير أسره أعدى عدو له، ولا سجن أضيق من سجن الهوى، ولا قيد أصعب من قيد الشهوة، فكيف يسير إلى الله و الدار الآخرة بقلب مأسور مسجون؟ وكيف يخطو خطوة واحدة”.

6 – الذنوب تذهب مواهب الفاعلية

كل ما لدى المؤمن من المؤهلات التي تجعله فاعلا وكل ما يصدر منه من خير هو نعم من الله تعالى جلبتها له طاعة الله وتقواه وهي إنما تدوم بدوام الطاعة ومتى بدا منه الزلل وبدأ يخل بالطاعة ويقترف المعصية بدأت النعم في النقصان شيئا فشيئا وفي الزوال واحدة تلو الأخرى وقد تزول بعض النعم دون بعض فتنقص فاعليته وقد تزول كلها فتتعطل فاعليته وهذه قاعدة شرعية قطعية دل عليها قوله تعالى:” ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “(الأنفال 53).

قال ابن القيم:” فأخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمته التي أنعم على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه. فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غير غير عليه، جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد…. وقد أحسن القائل:

إذا كنت في نعمة فارعها…….فإن الذنوب تزيل النعم  

وحطها بطاعة رب العباد……..فرب العباد سريع النقم

وقال في موضع آخر:”فإن نعم الله ما حفظ موجودها ولا استجلب مفقودها بمثل طاعته فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته وقد جعل الله لكل شيء سببا وآفة…سببا يجلبه وآفة تبطله فجعل أسباب نعمه الجالية لها طاعته، وآفاتها المانعة منها معصيته، فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها”.

7 – الذنوب تعدم الغيرة.

إن الذنوب كما قل ابن القيم: ” تطفئ من القلب نار الغيرة ” وكلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من القلب الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جدا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك، وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له، ويدعوه إليه ويحثه عليه، ويسعى له في تحصيله، ولهذا كان الديوت أخبث خلق الله والجنة عليه حرام، وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره، فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة”  

8- الذنوب تعسر الأمور

إن الذنوب كما قال ابن القيم: تتسبب للمسلم في ” تعسير أموره فلا يتوجه لأمر إلا وجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا، ويالله العجب؟ كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لا يعلم من أين أتى؟”.

ومن التعسير أن يمقته المؤمنون، وينفروا منه ويتخلوا عنه أو يقطعوا إعانتهم عليه كتبت عائشة رضى الله عنها إلى معاوية:” أما بعد فإن العبد إذا عمل معصية الله عاد حامده من الناس ذاما وذكر أبو نعيم عن سالم بن أبي الجعد عن أبي الدرداء قال: ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر ثم قال أتدري مم هذا ؟ قلت: لا قال إن العبد يخلو بمعاصي الله، فليقي الله بغضبه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر”.

ويتبع رفع المحبة من قلوب المؤمنين “أن يرفع الله مهابته من قلوب الخلق فيهون عليهم ويستخفون به كما هان عليه أمره واستخف به … وكيف ينتهك عبد حرمات الله ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته؟ وكيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق”.

وذلك أن العبد إذا عصى الله “وخالف أمره سقط من عينه فأسقطه من قلوب عباده وإذا لم يبق له جاه عند الخلق وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك فعاش بينهم أسوأ عيش: خامل الذكر ساقط القدر زري الحال لا حرمة له …”.

والله “جعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة كما جعل أهل طاعته أكرم خلقه عليه وأهل معصيته أهون خلقه عليه، وجعل العزة لهؤلاء والذلة والصغار لهؤلاء كما في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم” وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري”.    

9– الذنوب تمنع استجابة الدعاء

إن إقامة المسلم على الذنب تجعله غير مستجاب الدعوة لما نبه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم  من أنه لا يستجاب لمن مطعمه حرام وغذي بالحرام ولا يستجاب للقوم الذين  لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر كما في قوله” وإن الله يقول لكم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتستنصروني فلا أنصركم وتسألوني فلا أعطيكم “

ومن حرم إجابة الدعوة فقد حرم الخير كله حرم عون الله ومدده وتسديده وحفظه وأصيبت من ثم  فاعليته ولو كان فاعلا في غير المجال الذي يرتكب فيه الحرام أو يترك فيه الواجب كمن يدل الناس على نوع من الخير ويقدم لهم خدمات اجتماعية أو ينفق نفقة طيبة فإنه يعيق فاعليته هذه  أو ينقص منها إذا كان مصرا على ذنب في مجال آخر .. مثل الغيبة وإهمال حقوق الأهل وعدم غض البصر وترك صلاة الجماعة …

10- الذنوب تمحق البركة.

والذنب أيضا يمحق البركة وذلك أن المؤمن إذا اشتغل بالمعاصي “ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية” كما قال ابن القيم فإن بقي له مع ذلك تطلع إلى مصالحه الدنيوية والأخروية “طالت عليه الطريق بسبب العوائق وتعسرت عليه أسباب الخير بحسب اشتغاله بأضدادها وذلك نقصان حقيقي من عمره”

كما أن المؤمن الغني يفقد بركة رزقه وتبدأ ثروته التي كان بها فاعلا ونافعا للعباد في النقصان إذا هو سقط في المعصية ولم يتب منها كما أن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وفي الحديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته”.

وإنما كانت معصية الله سببا لمحق الرزق والأجل لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها فسلطانه عليهم، وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه فبركته ممحوقة ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع لما في مقارنة اسم الله من البركة، وذكر اسمه يطرد الشيطان فتحصل البركة ولا معارض لها.

فمن هنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق والعلم والعمل فكل وقت عصي الله فيه أو مال عصي الله به أو بدن أو جاه أو علم أو عمل عصى الله به فهو على صاحبه ليس له، فليس له من عمره وماله وقوته وطاعته وعلمه وعمله إلا ما أطاع الله به ولهذا من الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو فوقها ويكون عمره لا يبلغ عشرين سنة أو نحوها كما أن منهم من يملك القناطير من الذهب والفضة ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها وهكذا الجاه والعلم.

وهكذا يتبين أن فاعلية المسلم تتضعضع إذا تضعضع تدينه الشخصي، وكما حذر الإسلام  المؤمن من مغبة الزيغ وكشف له ما فيه من مفاسد فإنه أسعفه بالأسباب التي يستعين بها لحفظ تدينه وتحصين نفسه من الشيطان واستدراجاته وإغوائه ومكايده ومصايده وهي باستقراء القرآن والسنة تقارب عشرة أسباب لكن أبرزها:

1 – المحافظة على الصلاة لأن الصلاة تزود المسلم بالوازع الديني كما قال الله تعالى: “وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر”(العنكبوت 45)، ولا تتم المحافظة على الصلاة ولا تقام حق إقامتها إلا إذا كانت في جماعة المسجد ولذلك نبه الرسول صلى الله عليه وسلم على كونها حصنا حصينا للمؤمنين حينما قال: “عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”.

2 – ذكر الله وذلك أن ذكر الله حصن للمؤمن من الشيطان كما جاء في الحديث:” أوصيكم بذكر الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله”.

3 اتخاذ الجليس الصالح واتقاء جليس السوء وهو ما أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أثره في صيانة الدين والخلق بقوله:”إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا كريهة”.

4 – حفظ اللسان من الإذاية وقول الباطل وذلك لما نبه عليه الله تعالى من أن حرص المؤمن على القول السديد يضمن له إصلاح أعماله فقال الله تعالى:”ياأيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم”(الأحزاب 70ـ 71)، وهو أيضا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:”لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”، وبقوله أيضا:”إذا أصبح فإن الأعضاء تكفر اللسان تقول اتق الله فينا فإنما نحن بك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا”.

5 – جعل المؤمن مسافة بينه وبين الحرام وذلك باجتناب الوسائل المؤدية إلى الحرام، وليس باجتناب

الحرام فقط، واتقاء الشبهات التي بين الحلال البين والحرام البين لأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والإسلام لم يحرم على المسلمين مواقعة الحرام فقط ولكن حرم عليهم قربانه أي أنه طلب منهم أن يجعلوا بينهم وبينه حاجزا ومسافة لأن للحرام جاذبية قد لا يستطيعون مقاومتها إذا اقتربوا منه، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.    

سؤال22: معلوم أن المؤمن الفاعل هو في مقام القدوة وهو مقام خطير بواسطته ينتشر الخير أو الشر، وقد يغفل المرء عن مقامه هذا فتصدر منه أمور تؤثر على فاعليته فماذا تقولون في هذا الأمر؟

هذا ملحظ مهم وهو ينبه على صائن آخر هو ” حفظ المقام ” وبيانه كما يلي: 

1 – إن كسب المؤمن الفاعل معجبين بصحيح فكره ومنهجه ومتأثرين بجميل تدينه وفاعليته يجعل الاقتداء به أو الإتباع له نعمة أنعم الله بها عليه بعدما رجاه أن يكون “للمتقين إماما”وهو لذلك  أمانة في عنقه يجب عليه أن يحفظها من الزوال أو النقصان، فإنه قد صار قدوة من يوم صار له ناس يعتبرونه قدوة ويأخذون بقوله وفعله وإن ظن في نفسه أنه ليس أهلا لما يظنون فيه، وبعبارة أخرى إنه يصبح قدوة شاء أم أبى، ويصبح مسؤولا مسؤولية أشد من مسؤولية نفسه قبل أن يصبح قدوة وأشد من مسؤولية سواه ممن ليس بقدوة.

ولقد رتب الله المسلمين ترتيبا تصاعديا فقال:”ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله”(فاطر 32)، وأولى هذه المقامات الثلاث بالمؤمن الفاعل القدوة هو مقام السابق بالخيرات ومن هنا كان عليه أن يحافظ على الصورة المثلى للتدين والتخلق والتعامل مداوما على ما كان عليه من إتيان ما هو مطلوب الفعل شرعا واجبا كان أو مندوبا والانتهاء عما هو مطلوب الترك شرعا محرما كان أو مكروها، بحيث يجتهد أن يبقى في هذا المقام وهو مقام السابق بالخيرات بإذن الله، ولا ينزل إلى درجة المقتصد، وهو مقام المقتصر على فعل الواجبات وترك المحرمات، بلها أن ينزل إلى درك الظالم لنفسه، وهو درك التارك للواجبات والفاعل للمحرمات، فإذا حافظ على ما بدأ به من المقام صان فاعليته وحافظ على المقتدين وتدينهم وفاعليتهم، وإذا لم يفعل حمل أوزار أي تدهور لتدينهم أو سلوكهم أو مواقفهم أو فاعليتهم يحصل بسببه أي بسبب تقهقره وإخلاله بالصورة المثلى للتدين والتخلق والتعامل.

وليس فعل المحرمات أو ترك الواجبات المنصوص عليها شرعا هو المستأثر بالتأثير السلبي في ظنونهم وأحوالهم التي اكتسبوها جراء إتباعهم له، بل إن لترك الواجبات غير المنصوص عليها مما يعده العلماء من المصالح المرسلة وأصدر الناس فيه قوانين ملزمة كقانون السير وما يتطلب منه من الالتزام لاحترام السرعة المحددة والوقوف عند إشارة الوقوف وما إلى ذلك هو مما تعد مخالفته من الخوارم التي تخرم مروءة المؤمن القدوة وتسيء إلى سمعته كما أنها تتسبب في نشر هذا السلوك الفوضوي المشين وأسوء منه في أوساط المقتدين به.

وكذا ترك الإيفاء بالعقود المبرمة مع أي جهة فإنه ترك لواجب شرعي، والإخلال ولو بجزء يسير من مقتضياتها يطعن في عرض المؤمن القدوة متى عرف به ويجعل هذا الإخلال ينتشر بصور أقبح وأفظع في الناس الذين يتأسون به.

 بل إن لما قد يصدر منه من فعل المكروه أو ترك المندوب أيضا سيء الأثر في ظنون المقتدين به وأحوالهم تلك.

وإذا فرضنا أن مؤمنا قدوة ترك بعض المندوبات أو فعل بعض المكروهات اختيارا وبدون عذر وهو قادر على ضبط نفسه ومنعها من أن تستدرج إلى الأسوأ الذي هو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، وهو شيء نادر الوجود، فإن المقتدين به هم أضعف منه في هذا الضبط فإنهم إذا اقتدوا به فاجترءوا على فعل المكروه انزلقوا في الغالب إلى فعل الحرام وإذا اجترءوا على ترك المندوب انزلقوا، في الغالب، إلى ترك الواجب وذلك لعجزهم عن ضبط أنفسهم، والوقوف عند الحد الذي وقف عنده ذلك القدوة المفترض فبقاء القدوة في مقام السابق بالخيرات يبقي المقتدين في مقام المقتصدين، ونزوله إلى مقام المقتصد ينزل بهم إلى درك الظالمين لأنفسهم.

ولو لم يكن في فعل المكروه وترك المندوب سوى التسبب في نشوء ظاهرة هجران المندوبات وفشو المكروهات، ولو في أوساط المتأثرين به، وما في ذلك من تضييع لمصالح أراد الشارع حفظها بذلك لو لم يكن في ذلك إلا هذا المآل لكان كافيا لأن يتوقاه المؤمن الفاعل.

إن هذا التأثيرات السيئة لا تأتي من ترك المندوبات أو فعل المكروهات في مجال العبادات فحسب بل تأتي من ترك مندوبات الأخلاق، وعلى رأسها مكارم الأخلاق، من مثل أن يترك المؤمن الفاعل الإيثار والإكرام أو يترك العفو عمن ظلمه أو صلة من قطعه أو إعطاء من منعه فإن ترك ذلك وأمثاله ينقص من التأثير الحسن في عموم الناس وينزل بأخلاق المقتدين إلى درك الهلع بحيث يفقدون خلقي التحمل والبذل ويعودون للمستوى الذي قال الله فيه:” إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا”(المعارج 19ـ 20ـ 21).

ومن ذلك إقلال المؤمن الفاعل من ذكر الله ونزوله عن درجة ” الذاكرين الله كثيرا والذاكرات” (الأحزاب 35) فإنه يؤثر فيه سلبا وينتقل ذلك منه إلى المقتدين وقد يجعلهم من الغافلين والقاسية قلوبهم.

ومن ذلك أيضا عدم استمرار المؤمن الفاعل في الأخذ بالآداب الشرعية فإن ذلك من سوالب الفاعلية ويتسبب، عن طريق الاقتداء، في فشو ظاهرة سوء الأدب والسلوكات غير المتحضرة؛ فمن الإخلال بالآداب الشرعية ترك المؤمن الفاعل أدب حسن الإصغاء، واستعماله أسلوب التهكم ولو مع غير معين، واستعماله الكلمات الغير اللائقة بالقدوة كبعض الألفاظ الدارجة السوقية، واتخاذه بعض الألبسة أو اختياره بعض تصفيفات للشعر غير مناسبة لسنه ومقامه أو مخالفته لعرف بلده، وعدم قصده في المشي وعدم غضه من الصوت، وتركه السماحة في البيع والشراء وفي قضاء الدين واقتضائه، وتركه التؤدة في معالجة أموره وتركه آداب الجلوس والمجلس وآداب الأكل والشرب والضيافة وسائر الآداب الإسلامية التي أرشد إليها القرآن وتخلق بها الرسول صلى الله عليه وسلم وندب إليها والتي يعتبر المؤمن الفاعل أولى الناس للتمسك بها وعدم التفريط فيها.

على أنه لا يدخل في هذا المحذور ما إذا قدر المؤمن الفاعل أن في ترك بعض المندوبات في بعض الأوقات درء لمفسدة راجحة أو تصحيح لتصور خاطئ لاحظه عند المقتدين به وعموم الناس من مثل اعتقادهم وجوب تلك المندوبات فذلك من سد الذريعة وقد فعله صالح سلف هذه الأمة.

كما أنه لا يدخل في هذا المحظور ما إذا رجح المؤمن فعل المندوب متعدي النفع على المندوب ذي النفع القاصر لعلمه أنه ليس كل مندوب تطلب المواظبة عليه بل منه ما إذا تكرر من المؤمن القدوة كان له تأثير سلبي علي غيره ويتعلق الأمر بالمندوب الذي يتطلب أداؤه نفقة كبيرة ونفعه قاصر على فاعله كنوافل العمرة والحج فإنها بالنسبة لمن تكلفه مالا كثيرا “أي لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام” تكون مرجوحة ويكون المطلوب من القدوة أن ينفق ما لديه من مال في نفع الناس والدين، وفي ذلك إرشاد للمقتدين وتزكية لهم.

إن المؤمن الفاعل، بصفة عامة، لا يتشبث بالمندوبات من غير نظر إلى المآلات فذلك إساءة للدين وجهل بمنهج سلف الأمة أئمة المتقين بل هو مرن يفعل المندوبات ما لم تمنع مما هو أولى منها ويترك فعل بعضها إذا وجد أن فعله قد يفوت بعض الواجبات أو بعض المندوبات التي هي أفضل منها فهو أبدا مرجح للمصلحة الدينية العامة على المصلحة الدينية الخاصة وللمصلحة الضرورية على ما دونها من المصالح الحاجية أو التحسينية، وكل ذلك مع حسن فهمه للوسط الذي ينتسب إليه والمجال الذي يتحرك فيه وخصائصه واحتياجاته وأولويات إصلاحه بحيث ينشىء الفاعلية فيه بمستوى من التدين مناسب له مساعد على النجاح فيه غير معسر للاهتداء ولا منفر منه.

2– المؤمن الفاعل، كما هو محترز من الإخلال بالمطلوبات الشرعية “المطلوب فعله والمطلوب تركه” محترز من آفات بعض ما ليس مطلوبا شرعا مما يسمى مباحا، فلئن كان المباح مخيرا فيه بين الفعل والترك وأنه لا تكليف فيه فإن هذا التخيير بالنسبة للقدوة ليس على إطلاقه، وبيان ذلك من جوانب:

vأن من المباحات ما هو مكروه الفعل بالنسبة للمؤمن القدوة كالأكل في الطرقات وكشف بعض ما ليس عورة من الجسم ونحو ذلك مما يدخل عند العلماء في”خوارم المروءة” وما يسقط العدالة، وبعض ذلك يختلف حكمه باختلاف العرف زمانا ومكانا وبعضه يختلف باختلاف مجال الفاعلية إذ الفاعل مثلا في مجال المساجد وعظا أو إرشادا أو خطابة أو تعليما ليس في ذلك كالفاعل في غير مجال المساجد.

vأن المباح يبقى مباحا ما لم يتجاوز فيه الحد فأما التوسع فيه والإكثار منه فيجعله مكروها بالنسبة لجميع  المكلفين ويجعله في حق المؤمن الفاعل  القدوة أشد كراهة مثل توسعه في الترفهات وإكثاره من اللعب ومن التفرج على اللعب والإكثار من الضحك ومن مشاهدة ما يضحك فذلك وأمثاله إذا صدر منه كان سببا في نقصان الجد في العمل والاجتهاد للآخرة.

vأن من المباحات ما ينهى عنه القدوة لما فيه من الضرر على فئات من المسلمين وإن لم يكن فيه ضرر على فئة المقتدين نفسها وذلك مثل زواج القدوة بالكتابية فإنه يؤدي إلى مفسدة كبيرة وهي ترك التزوج بالمسلمات وإن كان لا يضر بمن اقتدى به في ذلك وشاهده منع عمر لحذيفة بن اليمان من التزوج باليهودية وتعليله لمنعه بقوله:” أخاف أن يقتدى بك المسلمون فيتزوجوا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين”.

3– المؤمن الفاعل شأنه شأن سائر المسلمين يجوز له الأخذ بالرخص التي رتبها الشارع على أحوال المرض والسفر والخطأ والنسيان والحاجة والضرورة مع تقيده بشروط الترخص ولكنه محترز من الترخص فيما يعود ترخصه فيه بالضرر على عموم الناس من المقتدين وغيرهم ممن يشهد ترخصه أو يطلع عليه، فالإكراه مثلا لا يبيح للمكره فعل بعض المحرمات ولو كان ضررها محدودا فكيف إذا كان في الاستجابة للإكراه ضرر عام، ورفض الإمام أحمد الترخص عندما أكره على القول بخلق القرآن خوفا من أن ينجو بنفسه ويضل من سمع كلامه بعد ما رأى الناس متأهبين لنقل ما سيصرح به .. رفضه لهذا الترخص شاهد آخر على ما نحن بصدده من وجوب حفظ القدوة لمقامه وعدم تساهله في بعض الأمور.

وقد يفضل القدوة أن ألا يترخص في أمور قدر أنه لا يشق عليه فعلها ولا يجد حرجا فيها، ولكن غيره إذا اقتدى به في ترك ذلك الترخص ربما شق عليه ولم يستطع المداومة على تركه، قال الشاطبي:” قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط … ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه، فربما اقتدى به من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع، وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا وكان عليه الصلاة والسلام قدوة، فربما اتبع بظهور عمله فكان ينهى عنه في مواضع، وقد قال تعالى:”واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم”(الحجرات 7) … ولهذا  – والله أعلم – أخفى السلف الصالح أعمالهم لئلا يتخذوا قدوة، مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه (260/4).

وقد يترخص فيفعل ما ليس جائزا في الأصل عندما تقتضي الحاجة العامة أو الخاصة ذلك كأن يذكر، تحت ظرف ما بعض أعماله وإنجازاته قصد تحفيز سامعيه على الاقتداء أو إصلاح ظن من ظنونهم السيئة أو الرد على شائعة من الشائعات قال العز بن عبد السلام:”لا يمدح المرء نفسه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك” قال:”وقد يمدح المرء نفسه ليقتدى به فيما مدح به نفسه كقول عثمان رضي الله عنه:”ما تعنيت منذ أسلمت وما تمنيت وما مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مختص بالأقوياء الذين يأمنون التسميع ويقتدى بأمثالهم”(قواعد الأحكام في مصالح الأنام:210/2).

4– المؤمن الفاعل القدوة، في خطابه الذي يوجهه لمن يقتدون به، يراعي هذا المنهج وينظر هذا النظر فيميز فيهم بين من هم قدوة لغيرهم ومن ليسوا كذلك، ويحترز من إجابة من كان والدا أو أستاذا أو مسؤولا عن رعية من رعايا المجتمع بما يجيب به الأولاد أو التلاميذ أو الشباب الذين ليس لهم بعد ناس يتأثرون بهم، وذلك تفاديا للإضرار بفاعلية المقتدين القدوات التي هي جزء من فاعليته هو نظرا لأن الفاعل هو من يجعل غيره فاعلا ويحافظ على هذه الفاعلية التي أنشأها فيه.

كما ينبغي للمؤمن الفاعل أن يتوقى الزلل فيما يصدر منه من كلام فيتبين فيما سيقول ثم ينظر في العواقب المتوقعة من النطق به وذلك لسببين:

الأول: أن العادة في المقتدين جرت بأن يصدقوا ما يقوله لهم القدوة ثقة منهم في دينه وأمانته واعتقادا منهم أنه لا يقول القول حتى يعلم أنه صحيح ومناسب، فإذا لم يحافظ على صرامته في ذلك تسبب أولا في نشر أخطاء وإفساد تصورات وسلوكات ومواقف، وتسبب ثانيا في زعزعة ثقة المقتدين في أهليته وذلك خدش في فاعليته، وتسبب ثالثا في انتشار هذا السلوك غير القويم في عدد من الناس على سبيل العدوى.

والثاني: أن عادة المخالفين جرت بتتبع عورات مخالفيهم البارزين وتصيد أخطائهم ونشرها للنيل من سمعتهم وتأثيرهم، وقد قيل:”لكل ساقطة لاقطة” وقيل:”زلة العالم يضرب بها الطبل وزلة الجاهل يخفيها الجهل” وكل ذلك إذا حصل هو نقصان في فاعلية المؤمن ويجب عليه أن يصون خطابه من التسبب فيه.

5– المؤمن الفاعل يتقي مواطن الشبه لما في الوقوف فيها من تحريك للظنون السيئة والتهم الباطلة وذلك مخل بفاعليته إخلالا ما وقديما قال بعض السلف:” من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به”

       على أنه إذا وقف موقفا رأى أنه مشروع أو لم يلق بالا لشبهة فيه محتملة ثم قدر خلال وقوفه هذا الموقف أن بعض الناس قد يحمله على غير محمله ويظن به سوء فعليه أن يبادر في الحين إلى التراجع أو الاستدراك أو التوضيح قال ابن رجب:” من أتى شيئا مما يظنه شبهة لعلمه أنه حلال في نفس الأمر فلا حرج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك كان تركها حينئذ استبراء لعرضه فيكون حسنا”، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفا مع صفية:” إنها صفية بنت حيي” وخرج أنس إلى الجمعة فرأى الناس قد صلوا ورجعوا فاستحيا ودخل موضعا لا يراه الناس فيه، وقال:” من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله”.

سؤال 23: واضح أن هذه الاعتبارات الروحية والسلوكية ضرورية لصيانة الفاعلية وهي تؤكد ما للفاعلية من تميز في إطار المرجعية الإسلامية، لكن ألا ترون أن في شخصية المؤمن الفاعل جانبا معرفيا هو عامل من عوامل الفاعلية وينبغي أن يصان هو أيضا؟.

إننا هنا بصدد صائن آخر يمكن تسميته:” التطوير الذاتي” وتوضيحه:

أن استمرار الفاعلية يتوقف على تجديد الكفاءة، فالكفاءة تحتاج إلى أن تتعهد بالتطوير، وشعار المؤمن الفاعل في ذلك” وقل رب زدني علما” فإن لم يتعهدها بذلك وتوقف عن تتبع ما يجد في مجال فاعليته من المعارف والمناهج والوسائل والقوانين والأنظمة والتحولات فإن فاعليته ما تلبث أن تضعف بسبب ما يطرأ على تواصله مع محيطه من تراجع ناجم عن مدركاته وقدراته التي تصبح في تقدير مخاطبيه والمتعاملين معه متجاوزة أو محدودة، وذلك في خضم تنافسية لا حظ فيها لمن يتخلف عن المواكبة المعرفية واستعمال الجديد واستثماره.

سؤال 24: لقد ذكرتم في تقديمكم لظاهرة الفتور أن الأعباء الحياتية التي تزداد في حياة المؤمن الفاعل قد تؤثر سلبا على الفاعلية فما هي في نظركم الصوائن الشرعية في هذا الأمر ؟

يمكن أن نذكر هنا صائنين:

الصائن الأول: حسن العناية بالزواج

قد يكون الزواج عائقا أمام الفاعلية، ولذلك وجب على المؤمن أن يحترز من عائقيته ويحسن الإعتناء بالزواج من ناحيتين:

1 – حسن اختيار الزوج:

المومن الفاعل قد يصاب في فاعليته بعد الزواج إن لم يحسن اختيار الزوجة ولم يصطفها من بين ذوات الدين فيجد نفسه مع امرأة قد جعلت الدنيا أكبر همها ومبلغ علمها تحتال عليه وتبرمج له حياته وفق تصورها للحياة وقد يكون عارفا حدود مطلوباته في الدنيا فطنا لحيل زوجته وكيدها فلا يقع في مصائدها وقد لا يكون بهذه الحال فينقلب مسخرا لخدمة دنياها مصروفا بالتدريج عن السعي للآخرة وعما كان عليه من الخير قبل الزواج، وقد تكون الزوجة سيئة الخلق رديئة الطبع فيغدو مشغولا بحل ما تولده من مشاكل فيصده ذلك عن المضي في مشروعه أو يستغرق جزء ثمينا من وقته.

والمؤمنة الفاعلة إن استعجلت في أمر زواجها وقبلت زوجا غير مرضي الدين والخلق ربما وجدت نفسها متورطة مع زوج دنيوي الهمة يحتال عليها ليصرفها عن مواصلة اجتهادها القبلي ويجرها إلى الاشتغال بالدنيا ويصرفها عن العمل للآخرة ويحول دون إنفاقها لأموالها في سبيل الله، أو متورطة مع زوج ذي عقلية ذكورية أو عرفية يتصور أن الزوجة مخلوقة لخدمة الزوج محبوسة على مصالحه، أو زوج يؤمن أن رسالة المرأة في الحياة محصورة في إصلاح بيتها وتربية أولادها وأنه لا يحق أن يكون لها نشاط نافع خارج البيت بسبب وعيه الديني القاصر وعدم تقديره لحاجة أمته إلى فاعلية النساء المسلمات فيكون ذلك عائقا أمام استمرارها فيما هي قادرة على النفع فيه من أمور الإسلام والأمة.

ولا يخفى أن ما يوفق لحسن الاختيار وما يعصم من أن يصبح الزواج منعطفا في طريق الفاعلية هو الاستشارة ثم الاستخارة.

2 – إقناع الزوج ومعاشرته بالمعروف.

التوفيق في اختيار الزوج لا يتأتي لكل أحد، وعلى من لم يوفق فيه أن يتعامل مع واقعه الخاص بما يصلحه وبما لا يدعه ينتصب مانعا للفاعلية التي كانت قد انطلقت قبل الزواج فإن كان الزوج غير مهدي وغير متدين فوسيلة الاستدراك الأولى هي دعوته إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن كان متدنيا وغير مقتنع بنشاطها خارج البيت فالوسيلة الأولى هي السعي لإقناعه بوجوب هذا العمل وأجره وفضله والثمرات الطيبة التي يتوقع أن يجنيها الدين والأمة منه، والوسيلة الثانية للاستدراك هي المعاشرة بالمعروف وذلك بالتحلي بالأخلاق الإسلامية واحترام حقوق الزوجية والإتيان بموجبات المودة فإذا شعر الزوج أن زوجه حسن الخلق خارج البيت وداخله معا وأن فاعليته لا تضيع حقوقه فإن ذلك يجعله، على أقل تقدير، محايدا غير معيق وقد يجعله معينا على الخير، لكنه متى صار يحس بأن فاعلية زوجه تتسبب عمليا في حرمانه من بعض الحقوق فإن ذلك يورث في نفسه كراهية لهذه الفاعلية ثم يبعثه على مناهضتها بطرق واضحة أو خفية.

وغير خاف أن استمرار فاعلية المؤمن تحتاج إلى أن يعتني من يعنيهم أمر الأمة والإسلام بشؤون الزواج تأهيلا للمقبلين عليه وإرشادا للمتزوجين والمطلقين معا ضمن برنامج للإرشاد الأسري جاد وقار يستعمل الوسائل المشروعة المتاحة.

الصائن الثاني: التوازن بين الحقوق

عناية المؤمن الفاعل بحق من الحقوق التي عليه كحق الفاعلية وإهماله لسائر الحقوق ليس أمرا مطلوبا ولا محمودا ولا سليما بل هو إخلال بجزء من القسط الذي أمره الله بالقيام به:” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط”(الحديد 25)، وهو تفريط له عواقب وخيمة على الفاعلية نفسها لا تتأخر في البروز فإهمال حق المهنة في الإتقان وحقها في الالتزام بمقتضيات عقدها ترجيحا لحق العمل المجتمعي عليه هو خرق في سفينة الفاعلية وهو ترجيح يقبحه الشرع ولا يقره الناس ويطعن في أخلاق من يفعله ويسيء إلى سمعته ويتسبب له في مشاكل تشوش عليه قد تنتهي بشر في معاشه ولا شك أن الوضع المعيشي للمرء مؤثر في فاعليته.

وإهمال حق البدن بترك التداوي أو إهمال الاستراحة أو الإسراف في الأكل أو التفريط فيه يعود على البدن نفسه بالأمراض والفشل ثم يعود على الفاعلية بالنقصان في القوة وفي القدرة على الحركة وبإضاعة المال في متطلبات للعلاج كان الأولى أن تصرف في دعم الفاعلية لو بقي الجسم سليما.

وإهمال حقوق الأولاد في التربية والرعاية يضر بالفاعلية من جهة أن الناس لا يقبلون منه القول والنصح والإرشاد إذا كان أولاده منحرفين بسبب إهماله إياهم ومن جهة أن الإهمال المادي قد يطور لدى الأولاد أمراضا يحتاج علاجها إلى أموال طائلة تحرم منها الفاعلية بسبب ذلك.

وإهمال حقوق الزوجة قد يجعلها تنحرف أو يختل فيها شيء فتسوء سمعة هذا المؤمن الفاعل وقد لا يصيبها الخراف والاختلال ولكنها تبدأ في القيام بردود أفعال تعوق الفاعلية.

ومن ثم كان التوازن في أداء الواجبات وإعطاء كل ذي حق حقه صائنا معتبرا يصون الفاعلية ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص عندما أخل بحق أهله شاهدة على وجوب هذا التوازن فقد قال له فيما قال:” إن لنفسك حقا ولأهلك حقا “.

التعليقات

#1حسن2013-12-23 23:30

بارك الله في هذا الحوار الجد مفيد، أود أن أشارك بملاحظة وهي أنني كثيرا ما وجدت عند أشخاص فاعلية كبيرة لكنها زاغت بهم عن الإخلاص لله فيما يفعلون وسخروا فاعليتهم في جمع حطام الدنيا من حلاله وحتى من الحرام فبماذا تنصحون هؤلاء الفاعلين؟

#2عبد اللطيف القادري2013-12-25 16:06

أود التاكيد في صون الفاعلية على أهمية مراعاة حق النفس في الاسترواح الذي يجب توفيره للنفس على فترات مناسبة حتى لاتكل أو تمل ويتجدد نشاطها كلما أخذ في التراجع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفسي بيده ، لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذكر ، لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة – ثلاث مرات – ».

#3أم علاء2013-12-26 10:12

هناك فاعلية من نوع خاص تحضر بقوة في وعي الناس ولها أوجه متعددة مثل استحقاق رضا الوالدين الذي يجعل الإبن و البنت المرضية تتيسر أمورهما في الحياة ولا تعترض سبيلهماالنوائب والنكبات، وهناك الانتساب إلى الأصل الصالح الذي يمتد خيره وبركته إلى الفروع، وهناك بركة أولياء الله الصالحين التي تجعلهم في حرز من الشر وتيسير لاتعسير فيه في جميع شؤون الحياة يحظون به في خاصة أنفسهم ويحظى به من يحبونه أو يدعون له وفاعلية العمل الصالح الذي بفضله يوق الإنسان المصائب فالصدقة مثلا تقي مصارع السوء.. هذا النوع من الفاعلية خالطته خرافات كثيرة أدت إلى تفشي التواكلية والخمول، وأخفت حقيقتها وشروط جلبها الصحيحة، ففي الوقت الذي نقر إمكانية تحصيل هذه الفاعلية ونؤكد حرص كل مسلم على نيلها نخشى أن يؤدي السعي في طلبها إلى إساءة الفهم والعمل فحبذا لو تتطرقون إلى توضيح هذا الإشكال وجزاكم الله كل خير.

#4أبو عبد الرحمان2013-12-30 12:32

شكر الله للدكتور الفاضل صنيعه المتمثل في هذا الحوار الباني للأخلاق الفاضلة والداعي لعمل الفرد بانفراد وداخل المؤسسة وأبقاه الله قدوة لهذا الشباب الطموح، أستاذي الفاضل، أغتنم هذه الفرصة من خلال هذا المنبر ومن خلال هذه القناة الثقافية العلمية بامتياز أن اطرح عليكم سؤالين:
1ـ : ألا يمكن أن نتحدث عن معادلة يمكن رسمها على جبين المؤمن الفاعل على الشكل التالي: الفاعلية = القدرة + الإرادة+ العلم
2ـ : ألا يمكن أن تقف فاعلية الفرد عائقا أمام فاعلية المؤسسة أو العكس، وإذا كان كذلك، نتمنى من فضيلتكم صورا موضحة لهذا الموقف، وكيف المخرج؟

#5عبد الغني ادعيكل2013-12-30 14:07

بارك الله فيك شيخي على هذا الحوار الشيق والمتميز

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.