ذ. سعيد لعريض يكتب :المحاسبة النفسية في فقه المراجعات

0

بقلم /ذ. سعيد لعريض

يعيش الإسنان تقلبات بين الحالة الاعتيادية والاضطرارية التي تكون عليها نفسيته؛ ما بين الرخاء والشدة، واليسر والعسر، مما يجعله في أريحية تامة في أن يمارس نوعا من النقد الذاتي على نفسه، ويحاسبها بين الفينة والأخرى، على ما قدمت يداه من خير وفلاح وصلاح فيتابع المسير، أو ما اقترف من إثم وشر وفساد، فيتوقف في نصف الطريق ليصلح ما فات من أعطاب حياتية فيستأنف الطريق.
وهذه المراجعة هي محاولة لفهم النفس، من أجل إصلاحها، وعودة بها إلى أصلها الفطري؛ فطرة الصفاء والنقاء التي جُبِل عليها الإنسان: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاٗ فِطْرَتَ اَ۬للَّهِ اِ۬لتِے فَطَرَ اَ۬لنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِ۬للَّهِۖ ذَٰلِكَ اَ۬لدِّينُ اُ۬لْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ اَ۬لنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم/29. والإنسان في محاسبته لنفسه فهو يقوم بعملية تقييم وتقويم: تقييم لعمله الحسن والخيِّر، وتقويم لسلوكه القبيح والفاسد. وهذه المحاسبة التقييمية والتقويمية لا يقوم بها إلا من عرض نفسه على ميزان الشرع؛ الذي يدعو للمراجعة الذاتية في كل ثانية من عمر الإنسان تفاديا لكل تمادي في التسويف الزمني؛ الذي تحدثه به نفسه طلبا في التمتع بملذات الدنيا وهوى النفس من جهة، وطمعا في التوبة والإقلاع مما قدَّمت يداه من جهة أخرى. وهذا التسويف من تلبيس إبليس، ومن أماني الشيطان الذي يتصيد النفس الإنسانية في كل لحظة، ممارسا دوره في الغواية (يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَـانُ إِلاَّ غُرُوراً.) النساء/،120 (وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ) إبراهيم/22.
والمحاسبة النفسية مبدأ أساسي في النفس الإنسانية منذ أن وجد على وجه هذه البسيطة، فآدم وحواء عندما أكلا من الشجرة المنهية عنها، لم يتَّهِما الشيطان الذي قال الله عنه (فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَ۬لشَّيْطَٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَٰتِهِمَاۖ وَقَالَ مَا نَه۪يٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ اِ۬لشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَ۬لْخَٰلِدِينَۖ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّے لَكُمَا لَمِنَ اَ۬لنَّٰصِحِينَ فَدَلّ۪يٰهُمَا بِغُرُورٖۖ) الأعراف/20-21. بل كان الجواب منهما اعترافا: (فالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَ۬لْخَٰسِرِينَۖ) الأعراف/22. وهذا الاعتراف هو ممارسة نقدية نوعية وراقية للنفس على ما يقع منها من ظلم، تمارسه النفس اللوامة (وَلَآ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اِ۬للَّوَّامَةِۖ) القامة/ 2. وهي نفس تلوم صاحبها باستمرار سواء في أداء الطاعات والإتيان بالفرائض والواجبات، وسواء في تقصيرها في عدم الإتيان بها، أو في اقتراف المعاصي. وبهذا النقد الذاتي المستمر تنتقل النفس إلى مرحلة النفس المطمئنة السوية التي ما هي إلا الفطرة الأولى فطرة الدين القيم، دين الإسلام.
وهذا النقد الذاتي هو منهج أرساه القرآن الكريم، ويشِيد بمن يُطبِّقُه، فموسى عليه السلام لما قتل نفسا قبطية دفاعا عن رجل من قومه قال مؤنِّبا نفسه طالبا الثواب والمغفرة: (قَالَ رَبِّ إِنِّے ظَلَمْتُ نَفْسِے فَاغْفِرْ لِے فَغَفَرَ لَهُۥٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ اَ۬لْغَفُورُ اُ۬لرَّحِيمُۖ) القصص 16. وهذه ملكة سبأ تمارس نقدا ذاتيا تلوم نفسها بعد عبادتها للشمس: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّے ظَلَمْتُ نَفْسِے وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَٰنَ لِلهِ رَبِّ اِ۬لْعَٰلَمِينَۖ) النمل/ 46. والسنة النبوية سارت على هذا المنهج، فكان النبي عليه السلام يأمر أصحابه بمحاسبة أنفسهم كل وقت وحين، ويدلهم على دواء الاستغفار واتهام النفس بشكل دائم، لأنَّها ليست بمأمن من الله تعالى ووعيده. فتعلَّم منه الجيل القرآني الفريد بتعبير السيد قطب رحمه الله هذا المسلك فساروا عليه؛ فهذا عمر بن الخطاب يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تُخفى منكم خافية).
وهذا المنهج القرآني في المحاسبة النفسية، يعلم الفرد عدم الدفاع عن أخطائه ونقد الآخرين، لكي تصبح هذه المراجعة ثقافة مجتمعية يمارسها المجتمع بأفراده ومؤسساته، فيعيد ترتيب الأدوار وفق الأولويات التي تُسهِم في الرقي بالمجتمع؛ فيعلي من شأن العلم والعلماء، ويرفع مكانة الكفاءات والخبرات بما يفيد في إحداث نقلة مجتمعية على مستوى القيم والتقدم. كما تحتاجها الدول في علاقاتها الداخلية أوالخارجية في إطار المشترك الإنساني، مما يحقق للإنسانية جمعاء الكرامة الإنسانية المفقودة، والعدل والمساواة اللذين أصبحا شعارات الدول والمنظمات الحقوقية، ولا نجد له على أرض الواقع رِكزا.
إن وباء فيروس كورونا فرض على الفرد والمجتمع والدول والعالم بأسره قهرا محاسبة ذاتية وجماعية، ونقدا لاذعا لمنظومة القيم التي كان يؤمن بها ويمارسها، وألزمها بمراجعة تصوراتها ورؤاها حول كثير من القضايا المجتمعية والسياسية والاقتصادية. كما غيّر نظرتها العقدية نحو القضاء والقدر، والتي كانت ترى أن الإنسان سيد قدره، وصانع أفعاله، والمجتمع سيد قيمه. فاضطرت بفعل جائحة كورونا أن تعيد النظر في عقيدتها ملتجئة إلى الدين كملاذ أخير لطلب اللُّجوء من هذا الوباء الفتِّاك.
إن وباء كورونا بما هو قدر من أقدار الله تعالى، أعاد الإنسان إلى نقطة الصفر رغم التقدم التكنولوجي والصناعي، ورغم امتلاكه للأسلحة البيولوجية، فاضطره إلى تعلُم درس لن تنساه البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: أن الله مالك الكون والمتصرِّف فيه، وصاحب القوة والجبروت، فمن نازعه فيها أذلَّه وأصغره. فما على هذا الإنسان فردا وجماعة ودولة وأمة إلى أن تراجع سلم أولوياتها: عقديا وتعبديا وتشريعيا وقيميا. وليمارس نقدا ذاتيا وجماعيا بنوع من المحاسبة الشديدة التي تحتاج إلى تذكير بسننه تعالى كل ما حِيد عن منهجه وتنكّب عن هدي رسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فهذه سنة الله: (سُنَّةَ اَ۬للَّهِ فِے اِ۬لذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اِ۬للَّهِ تَبْدِيلاٗۖ) الأحزاب /.62

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.