المداخل الخمسة لإصلاح مناهج التربية الإسلامية عند الدكتورة مريم آيت أحمد

4

كتبه /محمد نادر
ما أكثر المنتقدين لواقع التعليم ببلادنا منذ عقود، وما أكثر المشرحين والمشخصين لوضع المواد التربوية ومناهجها، لكن ماذا بعد النقد والتشخيص؟ هنا ينقطع نفَس الكثير من المقرِّين بالأزمة، وينهض الباقي القليل لاقتراح الحلول والبدائل؛ لأن الإشكالية في نظرهم لا تكمن في الوعي بخطورة الأزمة في حد ذاتها، بقدر ما تكمن في تحديد مكامن الخلل بدقة، واقتراح الحلول اللازمة من أجل التدخل السليم وإعادة الاعتبار للمدرسة المغربية. وهذه الحلول والبدائل تكتسب أهمية بالغة وتحظى بالاهتمام إن كانت صادرة من أهل الخبرة والاختصاص، ولكن مع ذلك قد تكون في نظر البعض مجرد شعارات إنشائية براقة يصعب أجرأتها على أرض الواقع إن لم أقل مستحيلة التطبيق؛ لأنها قد تكون صادرة عن حماسة وطموح في التغيير دون دراسة هذا الواقع دراسة عميقة وشاملة.
وتختلف هذه الحلول باختلاف المقاربات ووجهات النظر فهناك من يركز على الموارد المالية، وهناك من ينادي بتأهيل المدرسين، وآخر يدعو إلى استيراد كل ما استُجد في الميدان واستنساخ النماذج الغربية الناجحة، وهناك من ينادي بتعديل المناهج وتجديد المقاربات البيداغوجية… وبهذا التركيز على مدخل واحد تغيب المقاربة الشمولية للإصلاح في الغالب. ويكاد البحث عن الحلول والبدائل القابلة للتطبيق من بين المقترحات كالبحث عن الكبريت الأحمر، ويتأكد عند العثور عليها وفحصها وتقليب النظر فيها أنها تحتاج فقد إلى إرادة حقيقية من صناع القرار وأصحاب الإرادة.
في السنوات الأخيرة كثر اللغط والحديث عن إصلاح منهاج التربية الإسلامية وعقدت حوله الندوات وأسيل مداد كثير عن سياق الإصلاح ودواعيه ومداخله وآلياته كل من منظوره، وقد عودتنا الدكتورة مريم آيت أحمد على الظهور والتفاعل مع كل المستجدات على الساحة الوطنية خدمة لبلدها، كيف لا؟ وهي التي رسخت في طلابها منذ دخولها حرم الجامعة أن يبصم كل مسلم على التغيير والإصلاح من موقعه تحقيقا لمبدأ الاستخلاف في الأرض، وأن التاريخ لن يحتفظ بذاكرته إلا من عاش عصره متفاعلا بما يروج فيه وأدلى بدلوه مع الدلاء في الاقتراح والتوجيه. وهي واحدة ممن خبِر التدريس والبحث والإشراف لعقود والاستشارة والمشاركة في صياغة التقارير التي تهم الوطن العربي واعتمدت كخبيرة في الإسيسكو… كل هذه التجارب وغيرها –سيأتي التذكير بها في سياقها- أهلتها لأن تكون لها نظرة من فوق؛ فقدمت مجموعة من المداخل الشاملة المؤطرة لدعم إصلاح مناهج التربية الإسلامية تم رصدها من خلال مؤلفاتها ومحاضراتها ومشاركاتها في المؤتمرات والندوات والمنابر الإعلامية وكذا اللقاءات العلمية والتواصلية معها.
وتنطلق حفيدة المجاهد سيدي طلحة الدريج الأنصاري في اهتمامها بالموضوع واقتراحاتها من اعتبارها أن التربية الإسلامية روح المواد الدراسية والحصن المنيع للهوية الإسلامية والشخصية المغربية المتوازنة في كينونتها الروحية والمادية، وأن منهاجها ليس غاية وإنما وسيلة لتأهيل المتعلم لمجابهة واقع الحياة المعقدة.
* المدخل الأول: يتعلق بأهم معيار من معايير بناء المنهاج المرتبط بالمتعلم وهو مراعاة مراحل نموه النفسي والجسمي وتلبية حاجياته الشاملة؛ فمن الحكمة أن يخاطب الناس على قدر عقولهم وأن يعامل المتعلم معاملة تناسب سنه وفكره وأحاسيسه وبيئته. من هذا المنطلق تنتقد بشدة الدكتورة مريم آيت أحمد برامج التعليم الأولي والابتدائي لمادة التربية الإسلامية الذي يلزم الطفل وهو ابن الأربع سنوات أن يبدأ بحفظ قصار السور وفهم معانيها بدعوى أنها صغيرة الحجم، وتتساءل كيف غاب عن مهندسي المنهاج (المفروض أن يكون لهم إلمام كبير بعلوم التربية العامة) أن مضمون هذه السور المكية في الغالب مليء بمشاهد يوم القيامة من عذاب ووعيد بجنة أو نار مع العلم أن معيار الحاجة هنا غير متوفر؛ لأن الطفل لم يبلغ سن التكليف لفهم مدلول العذاب والعقاب بالنار. فتكون هذه البرمجة على حساب أحاسيسه وسوء تأويله؛ في لقاء تربوي يحكي أحد المشرفين التربويين بالسلك الابتدائي قصة بخصوص هذا الأمر مفادها أنه قبل ولوج المدرسة كان يجتمع مع أقرانه للعب فيتسابقون بالتناوب ويشجعون بعضهم البعض بأن “يْكَفْرُوا” فيقول أحدهم للآخر “اكْفَرْ يا صاح” قاصدا مزيدا من السرعة، فعند ولوجهم المدرسة وترديدهم للسور القرآنية صاروا يسقطون تمثلاتهم هاته ومخيالهم المحدود في تفسير ما يسمعون من ألفاظ قرآنية لأنها فوق طاقتهم وبعيدة عن قاموسهم.
وقد لا يتفق الكثير مع هذا الطرح بسبب مقاومة الجديد والوفاء للمنهجية التقليدية، وأكثر ما يستدل به مهندسو المنهاج في التمسك ببرمجة هذه السور منذ إدراج مادة التربية الإسلامية بالنظام التعليمي أن حفظها واستظهارها مقصود لذاته؛ لأن تعلمها في الصغر كالنقش على الحجر، وأن حفظ القرآن الكريم ينمي الملكة اللغوية لدى الطفل، طبعا نحن لا نقلل من شأن الحفظ فلا يليق بالمسلم ألا يكون في جوفه شيء من كلام الله، ولا نختلف مطلقا في أثر القرآن الكريم على تقويم اللسان والقلم، بيد أننا نختلف في طبيعة السور المبرمجة ومدى ملاءمتها لعمر الطفل المتعلم حتى تحقق تلك الغايات، فكثير من طلبة التعليم العتيق والأصيل يعتمدون الحفظ في كل المواد ويدرسون النحو والصرف والبلاغة في المراحل المتقدمة وأسلوب الكثير منهم في اللغة لا يرقى لباقي المسالك والمسارات التعليمية العامة، وكثير من الأعاجم يضبطون كتاب الله ضبط صدر منذ سنوات ويعلمونه الطلاب ولا يستطيعون تأليف جملة عربية سليمة خطا أو لفظا.
وأمام وفائهم للمنهجية التقليدية نجدهم يعرضون عن التطور الرهيب في البيداغوجيات الحديثة، فهل من الضرورة أن يبقى التعليم الشرعي كما هو في مناهجه وأدواته ووسائله؟ هل التعليم الذي نشأ في ظل شح القلم وانعدام الورق وغياب وسائل الاتصال وانتشار الأمية هو الملائم لعصرنا الحاضر بكل تفاصيله؟ نحن لا ندعو للتهافت على ما استحدث من نظريات وإنما نرى الاستفادة بما لا يتعارض مع الخصوصية والتجديد من داخل النظرية التربوية الإسلامية.
فالدكتورة مريم آيت أحمد بما راكمته في علم الاجتماع الديني والفكر الإسلامي التربوي وبحكم عضويتها بالإسيسكو واستشارتها الثقافية لمناهج التدريس بالأكاديمية الأوربية بلندن تؤكد أن مرحلة الطفولة هي أدق مرحلة نمائية عند الإنسان، وتقترح البدء فيها بتعليم الطفل القيم والمبادئ الخلقية في الإسلام بترق يناسب سنه وبأساليب تتماشى مع حاجاته وتمثل بقيم: الرحمة والتعاون، حفظ الأمانات وأدائها، العدل، المساواة، الحرية، الحق، الإخاء، الإيثار، الانتماء الوطني، التسامح والانتماء الإنساني، آداب الاختلاف في الذوق والاختيار… وترى أن القضايا الاعتقادية من أعقد المسائل التي تحتاج إلى تخطيط واع يستحضر كل المقاربات في صياغة المناهج، حتى لا تقع المدرسة –بصفتها المؤسسة الثانية للتنشئة الدينية- فيما تقع فيه مؤسسة الأسرة، بل تهتم بتصحيح التمثلات الخاطئة ودعم التصورات الصحيحة وتعديل المنحرفة منها.
وتحكي المتخصصة في حوار الأديان والثقافات والدراسات المستقبلية في كتابها القيم “التنشئة الدينية وسؤال مستقبل جيل المعرفة” قصتين تبين هشاشة التربية بسبب جهل الآباء وتحايلهم على إجابات الأطفال ظنا منهم أن التملص من الإجابة سيطفئ السؤال لكن هذا الأخير يبقى مصاحبا للإنسان إلى نهاية حياته: القصة الأولى لطفلة بعد وفاة أمها قيل لها أخذها الله فتحولت علاقتها بالله حسب التفسير الخاطئ للأب إلى علاقة كراهية ممن حرمها من حضن أمها وخطفها إلى السماء بعيدا عنها. فتكون لها موقف كره تجاه الله لأنه في اعتقادها خطف أمها وحرمها من العطف والحنان، كما استشهدت بقصة طفل يكره النوم، ودائما يحفز بالجنة إن نام مبكرا، وذات يوم سأل أمه إن كان في الجنة ليل لا أريدها لأن الليل معناه النوم المبكر؟ (التنشئة الدينية وسؤال مستقبل جيل المعرفة، دار السلام ط: 1، سنة: 2013، ص: 26).
فلا تنادي الدكتورة بتجاوز المسائل العقدية في مرحلة الطفولة كما قد يتوهم البعض ولكنها تنتقد طريقة تدريسها وتقريبها للناشئة في هذا المستوى العمري من قبل المربين سواء كانوا آباء ومدرسين أو واضعي المنهاج. فهي مع البدء بتعليم الطفل منذ الطفولة المبكرة وتنمية المفاهيم الدينية العقائدية لديه، وهذا الأمر في تصورها من السهل إنجازه لأن التدين ظاهرة فطرية لدى الإنسان، ولديه الاستعداد لتقبل بعض المفاهيم الدينية في هذه المرحلة.كما ترى ضرورة الإجابة السليمة الواعية عن الأسئلة الدينية للطفل بما يتناسب مع عمره ومستوى فهمه وإدراكه ويشبع حاجته للمعرفة والاستطلاع، وكذا إشعار الطفل بالأمان والحب والجمال، وربطه بالعقيدة عن طريق حب الله وشعوره بجمال الخلق في الطبيعة وفي الإنسان؛ لأن تنمية انفعالات الطفل في الطفولة تتكامل مع نمو عقله وتفكيره المنطقي بعد ذلك ويجعل حب الله قويا وإيمانه ثابتا.
وتقترح الدكتورة أن يراعى ذكر اسم الله للطفل من خلال مواقف محببة وسارة، والتركيز على معاني الحب والرجاء “إن الله سيحبه من أجل عمله ويدخله الجنة” ولا يحسن أن يقرن ذكره تعالى بالقسوة والتعذيب في سن الطفولة فلا يكثر من الحديث عن غضب الله وعذابه وناره، وتوجيه الأطفال إلى الجمال في الخلق فيشعرون بمدى عظمة الخالق وقدرته.
وملخص هذا المدخل أنه إذا كان من المعلوم أن تخطيط المناهج التربوية يقوم على جملة من الأسس أهمها الأساس النفسي والذي يراعي النظرة إلى عمليتي النمو والتعلم لدى الطفل المتعلم، مع ما يتضمن ذلك من مراحل النمو المختلفة تدعو الدكتورة كافة المسؤولين كل من موقعه إلى بناء المفاهيم الإسلامية في أذهان التلاميذ بالتدرج مراعاة لقدراتهم واستعداداتهم النفسية والفكرية، وعملا بأحدث النظريات التربوية في بناء المناهج التعليمية، والإفادة بما يقدمه لنا علم النفس التربوي الذي يحدد الانفعالات والتصورات الفكرية وأشغال الإدراك لدى الأطفال في مختلف مراحل نموهم الجسمي والعقلي والنفسي.
* المدخل الثاني: التربية على القيم والمهارات الحياتية: ترى الخبيرة المعتمدة لدى المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الإسيسكو مريم آيت أحمد والمتمكنة من مناهج دراسة وبحث الجدلية القائمة بين الكثير من الثنائيات أن المعرفة المجردة عن القيم والمهارات لا تثمر المواطن الفاعل والمسلم الخليفة. وقد كانت الدكتورة دوما في الموعد عندما تنتهك القيم وتغتصب فتتصدى لها بحرقة بمنشور مختصر يفي بالغرض بصفحتها على الفايسبوك التي تعرف متابعة قياسية وتفاعلا كبيرا، أو بكتابة مقال بإحدى المجلات الالكترونية المشهورة (الغش في الامتحانات المدرسية والجامعية، محاولة اغتصاب فتاة على متن حافلة للنقل العمومي، العنف المدرسي…) ونجدها تقارب الظاهرة والحادثة من زاوية القيم فترجع السبب إلى تدني القيم لدى الناشئة، وتُسائِل مراكز التنشئة الاجتماعية والدينية (الأسرة، المدرسة، الإعلام، المساجد…)، وتزداد حيرة الأستاذة الباحثة وهي تشخص أسباب الظاهرة حينما تعلم أن أبطالها مراهقون متمدرسون وأن مسرحها الحرم المدرسي؛ فتدفعنا هذه الحيرة معها للتساؤل عن حجم المفارقة الصارخة والصادمة بين ما هو منصوص عليه في الوثائق الرسمية حول مواصفات المتعلم التي تروم المدرسة المغربية تخريجه وبين ما آل إليه الواقع من إفراز ظواهر غير متوقعة وغريبة عن المجتمع المغربي؟؟؟
وليست المجتمعات الغربية بمنأى عن سلبيات فصل القيم وإبعادها عن المعرفة بدعوى التزام طريق الموضوعية. فقد عانى الغرب كثيرا من العقلانية المجردة عن القيم الأخلاقية في وقت ما وتجرع ويلاتها، فهناك قصص مثيرة تروى تبين مدى خطورة الانفصام بين القيم والمعارف أخرج البعض عن معاني الإنسانية منها: مشهد استراحة أطباء التشريح على جثت الموتى لتدخين سيجارة وغمز بعضهم البعض ولمزهم للأعضاء التناسلية للميت، وفي قصة أخرى أن إحدى الشركات الغربية لصناعة السيارات وتسويقها قد سوقت عددا كبيرا لنوع من أنواع السيارات بها عيب يتجلى في كونها تودي بحياة جميع ركابها عند المنعرجات الخطيرة، وعند رفع دعاوى قضائية ضدها استشارت الشركة محاسبها فأثبت لها أن تكاليف تعويض الضحايا أقل خسارة من التراجع عن البيع واسترجاع السيارات من قبل الزبناء، فأي إجرام هذا؟ وفي مشهد ثالث أكثر مأساوية يروى أن إحدى السائحات رفقة زوجها بالأدغال الإفريقية باغتهم أسد فهاجم زوجها خارج السيارة، وهو يحاول الصعود لها تمكن الأسد من جسمه فأخذ يفترسه والزوجة على السيارة عاجزة عن إنقاذه، وفي ظل هذا المشهد المؤثر وثَّقت الزوجة الحادثة بالصور، وعند عودتها لبلدها الأصل تنافس الصحفيون على شراء صورها.
وبعدما فطن المجتمع الغربي إلى أن تعليم المعارف والمهارات العقلية قد يخرج أطباء ومهندسين وخبراء في المعلوميات لكن نجاحهم في الحياة المهنية كمواطنين رهين باكتسابهم لقيم أخلاقية وطنية واستبطانها كحب الوطن والتضحية في سبيل الإنسانية والغيرة على الواجب أعاد الاعتبار للقيم الدينية والإنسانية في كل المدارس والمعاهد، وفي دول شرق أسيا يدربون الطلاب على قواعد السلوك والانضباط، وصار التركيز على القيم الأخلاقية عندهم مدخلا يسبق تعلم المعارف والمهارات…
وفي بلدنا يعول على مادة التربية الإسلامية في تهذيب سلوك الأفراد وتخليق الحياة العامة وتحصين الأمن الروحي للمجتمع باعتبارها المادة الحاملة للقيم الإسلامية التي ترسخ في نفوس الناشئة ثوابت الهوية الدينية. ولما كان المنهاج وسيلة لخلق نموذج الإنسان المنشود في المستقبل، تقترح الدكتورة مريم آيت أحمد انطلاقا من ذلك أن تتم مراجعة المنهاج الدراسي لهذه المادة على أساس المعيارين التاليين – بتعبيرها-:
* استهداف ترسيخ قيم العقيدة الإسلامية وأخلاقها الحميدة الرامية إلى إكساب النشء القدرة على المساهمة في نهضة البلاد وتحقيق تنمية شاملة.
* اختيار المضامين الإسلامية ذات البعد التربوي الواضح، وإعطاء الأولوية للمعارف الوظيفية المرتبطة بالممارسة السلوكية عند بناء البرامج الدراسية، مع مراعاة مدى ملاءمتها للمرحلة العمرية والقدرة الإدراكية للمتعلم، وتجاوبها مع حاجاته النفسية وواقعه المعيش. (التنشئة الدينية، ص: 141).
وفي تقييمي الشخصي قوة كتابات الدكتورة تكمن في التساؤل باستشراف عن المخارج بحرقة وطموح ورغبة في الإصلاح بعدما تضع المسؤولين في موضع حرج (فقهاء أو مربين أو مشرعين أو مسؤولين عن صياغة المناهج أو منفذين لها…)، فضلا عن قوتها في طرح البدائل واقتراح الحلول من داخل المرجعية الإسلامية بنظرة مقاصدية واقعية.
ولهذا ترى الأستاذة الباحثة أن التفكير في الحل ينطلق من مرجعيتنا وينتهي إليها، وتدعو إلى بناء مناهج التربية الإسلامية على الأساس الفلسفي المنبثق من عقيدة المجتمع ونظرته للوجود والإنسان والكون والمصير، كما تحث على “توظيف النظريات في التنشئة الدينية بما يوافق ثقافتنا المجتمعية؛ ولذلك فإن برامج رعاية السلوك، ومكافحة التدخين، والحد من السلوكيات العدوانية والمتعصبة… تظل برامج شكلية ورقية، غير مجدية، ما لم يتمتع المرشدون بطرق النفاذ إلى وجدانيات الطلاب وتغييرهم من داخلهم، من خلال التربية الروحية، التي تجعل الطالب رقيبا على نفسه، نائيا بها عن الانحراف؛ ولهذا كانت مهنة الإرشاد الطلابي باعتماد النظريات دون توظيف، محل نقد في المدرسة، لضعف فاعليتها الحقيقية، وعدم تأصيل طرقها بما يتوافق مع منظورنا الثقافي في علاج مشاكلنا” – على حد تعبيرها-. (التنشئة الدينية، ص: 160).
* المدخل الثالث: انفتاح مختبرات البحث في العلوم الشرعية على مواضيع التنشئة الدينية ومناهج التربية الإسلامية: تصر أستاذة الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة على توجيه الطلبة الباحثين للميادين الحيوية الراهنة، وتحبذ أن يكون الطالب الباحث في قلب الحدث ولا يكون خارج السياق المكاني والزماني، وأن تصرف جهوده لخدمة أمته من زاوية تخصصه، وترى أن العلوم الشرعية فائدتها خدمة الإنسان؛ فينبغي تسخير كل علم من علومها لخدمة الإنسانية، واستثمار ما يمكن استثماره في التأصيل لأفعال تربوية عوض التهافت على كل المقاربات الأجنبية واستهلاكها دون مراعاة الخصوصية العقدية والبيئية والثقافية.
وتفعيلا لذلك حاولت الأستاذة جاهدة أن تصرف أنظار طلبة الدكتوراه لهذا المجال لكنها اصطدمت بعقلية طلابية تقاوم الجديد، وألفت التكرار والاجترار وإعادة الجمع والترتيب، وتميل لتحقيق ما لا قيمة له كما صرحت بذلك في برنامج نقطة ضوء خلال شهر رمضان من هذه السنة.
* المدخل الرابع: إحداث قسم للبحث في مناهج التربية الإسلامية بكلية علوم التربية: ترى الدكتورة الباحثة في التربية أنه من غير المعقول أن ننادي عبر الخطابات الرسمية (الملكية، الحكومية، الاستشارية، القطاعية) بتعزيز مكانة المادة ولا تخصص مراكز وأقسام للبحث فيها وتطوير مناهجها. فتدعو دوما إلى “المطالبة بضرورة تخصيص أقسام ومقررات خاصة بالتربية الإسلامية في برامج العديد من كليات التربية التي تغيب الفكر التربوي الإسلامي من أقسامها، مما يسهم في تقليص الدور المقاصدي للتربية الإسلامية، وما تسعى إليه من نشر قيم وسلوكيات واتجاهات ومعارف ومعلومات وفرضيات التعليم الديني في عالمنا الإسلامي. ومما يلفت النظر في مقابل هذا التهميش هو الازدياد الملحوظ في الأوساط الشعبية للمجتمعات الإسلامية والمسلمين في الغرب على تعلم الدراسات الشرعية. نحن في حاجة اليوم إلى خبراء ومدرسين من كلية التربية قسم التربية الإسلامية حتى نوازن مخرجات التعليم الديني بكفاءات تجمع بين التعليم الشرعي ومناهج وطرق التدريس الحديثة”. (التنشئة الدينية وسؤال مستقبل جيل المعرفة، ص: 140).
المدخل الخامس: برمجة التعليم الديني في جميع التخصصات ومراكز التكوين والتدريب: ترى خبيرة تقرير التنمية العربي ضرورة إدراج مجزوءات عن الثقافة الإسلامية في المدارس العليا للتجارة والتسيير والهندسة وكليات العلوم البحتة والتقنيات والعلوم الاقتصادية والاجتماعية والقانونبة وكلية علوم التربية وكليات الطب والصيدلة والزراعة والبيطرة وكافة المعاهد العليا المتخصصة وجميع مسالك كلية الآداب والعلوم الإنسانية ومراكز التدريب وتكوين الأطر وتأهيلها للمناصب والمسؤولية ومراكز التكوين المهني… أسوة بالدول الغربية في هذا المجال؛ فمن غير المعقول أن تنقطع صلة الطالب بعد الباكلوريا بالتربية الإسلامية وقد نضج عقله وأصبح قادرا على التحليل والنقد والتقويم، فهي مناسبة للاستمرار في دراسة المادة باختيارات تناسب مستواه وتخصصه وتكوينه. وهو في حاجة لإخضاع بعض المواضيع الذي تلقفها من هنا وهناك للتشريح في مدرجات ومختبرات الكلية بشكل أكاديمي منظم.
إلا أن السؤال المهم: ماذا ينبغي أن ندرس هؤلاء الطلاب غير المتخصصين في العلوم الشرعية والدراسات الإسلامية؟ وما تقييمنا لتجربة المواد التكميلية للشعب الأدبية ما قبل نظام الوحدات والمجزوءات؟ فقد نثقل كاهل هذه الشعب والمسالك بمواد تكميلية تصير عبئا عليهم وينظرون إليها نظر التسبب في ترسيبهم وإقصائهم ؟
الجواب على السؤال لمسته من خلال الجلسات العلمية واللقاءات التأطيرية مع الدكتورة لأن من يقترح لابد أن تكون له إجابات عن كل الإشكاليات، فتبين أنها تتجه في هذا الصدد إلى ضرورة التركيز على المواضيع المثيرة للجدل ومناقشتها مع الطلبة كالمساواة في الإرث، ظلم المرأة، الإسلاموفوبيا، الإرهاب، الافتراءات والشبهات، المقاصد، تاريخ العلوم عند المسلمين، جدلية العلم والدين في القضايا الراهنة، حوار الأديان والثقافات والدراسات المستقبلية… وتوجيه الاهتمام بمواجهة التحديات الداخلية كمواضيع: (الشرك- الغلو والتطرف- التكفير بغير حق- البدع والخرافة- الفكر التجزيئي- الميوعة والانحلال والتحلل من الالتزامات- الاستبداد والتحكم- الظلم- التفرقة والعنصرية- الاستهانة بالوقت وبالنظام…)، والتحديات الخارجية التي تفرضها بعض القضايا الفكرية المعاصرة كقضايا: (العولمة والتثاقف، الصهيونية، الماسونية، التنصير، التشيع، الإلحاد وحرية المعتقد، التقليد الأعمى بغير بصيرة…). بالإضافة لمواضيع التزكية والتربية على القيم الإسلامية المنبثقة من عقيدتنا الإسلامية (استحضار رقابة الله، الإحساس بالمسؤولية، تقوية الضمير المهني، تحقيق معنى الإعمار والاستخلاف في الأرض، الإصلاح وتقديم النفع للبشرية…).
مناقشة كل هذه المواضيع داخل الحرم الجامعي بإشراف أستاذ متخصص سيسد فراغا لدى الطلاب ويحصنهم من تلقف رؤى متطرفة وتأويلات مغرضة، ويسهم في إيقاف الزحف الإعلامي والتشويه المصطلحي الذي يسعى إلى تحييد الدين والزج به في حمأة الصراعات. وتضيف الدكتورة أن من شأن تدريس مادة (تاريخ العلوم عند المسلمين) في كليات الطب والهندسة والعلوم أن “يعرف الطلاب بحضارتهم الإسلامية ويحررهم من أية عقدة نقص تجاه الحضارة الغربية، ويحفزهم على الإبداع والابتكار والانخراط بفعالية في البناء الحضاري لأمتنا العربية والإسلامية” على حد تعبيرها.
وتنظر الدكتورة إلى ذلك من زاوية التكامل والانسجام الذي ينعكس على شخصية الطالب ومواصفاته عند التخرج، ولهذا نجدها تلزم طلبة الشريعة والدراسات الإسلامية أيضا بتوجيه الاهتمام للتحكم في اللغات الأجنبية والعلوم الإنسانية؛ لأن من أثر تغييب التكامل المعرفي إنتاج خريج في العلوم الشرعية لا يفقه واقعه الذي يعرف تطورا رهيبا في التخصصات الدقيقة، وتنتج إلينا الشعب الأخرى متخصصا في الطب والهندسة والاقتصاد… لا دراية له بمبادئ الإسلام ولا يفقه الضروري من دينه وهويته.
وهذا الوضع لا يخدم ممثلي الإسلام والناطقين باسمه، فالواقع المعاصر اليوم يشهد بالإشعاع لمن جمع بين الأمرين فالدكتورة مريم آيت أحمد مثلا بإتقانها للغة الإنجليزية واطلاعها على ثقافة الشعوب الأوروبية والخليجية وشعوب شرق آسيا استطاعت أن تفرض نفسها قوة اقتراحية وأن تُعتمد كخبيرة ومستشارة في أعرق المنظمات والأكاديميات وأن تستدعى لأشهر المنابر الإعلامية الوطنية والدولية، والتاريخ لا يحتفظ بذاكرته إلا من خالط الناس وعاش همومهم وانشغل بالحل، ولن يذكر التاريخ من يركن إلى مكتبه وتراثه يؤلف ويخطب وكل مؤلفاته وخطاباته خارج السياق الزماني والمكاني يفكر بفكر من أقبروا ويناقش بمنهجهم في سياق غير سياقهم.
فمد جسور التساند بين مختلف العلوم وإدراك التقاطعات بينها والنظر إليها باعتبارها نسقا متكاملا من شأنه أن يكسب الطالب المقدرة على التفكير المنهجي السليم فتنمو ملكة الفهم والتحليل لديه، ويتخرج بمعارف مترابطة متكاملة منسجمة تتخطى الحواجز بين مختلف الشعب والمسالك والوحدات والمواد والمجزوءات الدراسية والجامعية.
ولأهمية موضوع التكامل المعرفي بين العلوم الشرعية وباقي العلوم تتخذه الدكتورة مريم آيت أحمد مشروعا لها؛ لأنها تذوقت مبادئ علوم شتى وعملت على توظيفها في كتاباتها ومداخلاتها وأهلتها لوعي عميق بكثير من المواضيع، التي تدلي فيها بآرائها وأفكارها وشعارها الخالد تَمثُّل قوله تعالى: (إن اريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله) سورة هود، جزء من الآية

قد يعجبك ايضا
4 تعليقات
  1. أستاذة المادة يقول

    مداخل وجيهة بعضها يمكن عده دعما للإصلاح والبعض منطلق الإصلاح كالتركيز على القيم ومراعاة الفئة المستهدفة

  2. أستاذة المادة يقول

    مقال في المستوى يقترح دعائم وجيهة للإصلاح وقابلة للتطبيق

  3. أستاذ المادة يقول

    مقال في المستوى يقدم اقتراحات قابلة للتطبيق تمثل بحق مداخل للإصلاح

  4. آيت امحمد فاطمة يقول

    الدكتورة مريم آيت أحمد تتمتع برؤية استشرافية حكيمة لمنهاج مادة التربية الإسلامية، وقد وفق صاحب المقال في استقراء رافعات هذه الرؤية، ونرجو من المعنيين أن يلتفتوا لمثل هذه الإسهامات لتنزيلها على أرض الواقع حتى يصلح شأن التعليم الديني بالمغرب كما نرتجيه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.