الأُسْرةُ المغْرِبيَّةُ وخَطَرُ تَخَلِّيهَا عَن دَورِهَا فِي التَّربِيّةِ.
الأستاذ :عبدالله كوعلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسم اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ، والحمدُ للهِ، والصّلاةُ والسّلامُ على رَسُول اللهِ.
يَشهد الجميعُ على تراجع دور الأسرةِ المغربية في تلقين أبنائها السلوكَ التربوي، خاصة في العِقدين الأخيرين، فضعُف مستوى السلوك والأخلاق الذي كان جزءا من الإنسان المغربي، ليصل أحيانا إلى ما دون المُستوى. لقد أصبحنا نشاهد في مجتمعنا – سواء في مختلف المؤسسات أو في الشارع – العديدَ من الأفعال وردودَ الأفعال المنبوذةِ واللاأخلاقيةِ، خاصةً في صفوف الشّباب الذين هم في سن الدّراسة، فلم يعد برُّ الوالدين في المجتمع كما كان في الماضي، وكذلك لم يعد توقيرُ الكبير، واحترامُ الجار، وتقدير الأستاذ، وتبجيل الإمام كما كان، الكل تغيَّر إلى حال لا يبشر بخير، فهُوية المواطن المغربي المُسالِمةُ والمُتسامِحة مهدّدة بخطر التَّبَدُّل. لكن بعد البحث والتأمل في الأسباب المؤدية إلى هذا التراجع المثير للانتباه لدور الأسر المغربية في تربية أولادها تربية حسنة سنجدُ الأسبابَ التالية:
تَنامِي ظاهرةُ العولمةِ الثقافيةِ.
إن التكنولوجيا الحديثة نجحت إلى حدٍّ كبير في نشر نوعٍ معيّن من الثَّقافة وطائفةٍ خاصّةٍ من القيم في ربوع العالم، مما يجعل خصوصيةَ المجتمعاتِ وسماتِها المُمَيِّزةِ لها، أمام امتِحان صعبٍ. إذ إنّ هذه الثقافة التي تتم عولمتُها – وهي في الغالب غربية الأصل- مدعومةٌ بآلة إعلاميةٍ ضخمة، كالأنترنيت والإعلام السمعي-البصري وغيرها. ومن تلك القيم والمفاهيم على سبيل المثال التي تتم عولمَتُها، ولها تأثير واضح على الجانب التربوي: (مفهوم حقوقِ الطّفل) و(مفهوم الحرية)…، فمن حيث المبدأ هي مفاهيمٌ سليمةٌ، لكن الخطورةُ في كيفية توظيفها، فقد تُستعمل للتحريض حينا أو للإفلات من الجزاء أحيانا أخرى، ممّا يقلِّص من السلطة التربوية للآباء والمَدرسةِ معاً.
العمل وضُغوطُ الحياةِ.
عند دراستنا للتراجع الملحوظ لدور الأسرة المغربية في تربية أبنائها، لا ينبغي أن نَغفُل عن الجوِّ السائد داخل بعض الأسر، من حيث العملُ والاستقرار وظروف العيش. ففي مدينة اقتصادية مكتظة بالسكان مثل مدينة الدار البيضاء، حيث تتحمل الأسر رغم دخلها المحدود تكاليف باهظة، منها السكن والدراسة والقوت اليومي، الأمر الذي يدفع بالزوجين أحدهما أو كليهما إلى العمل خارج البيت من الصّباح الباكر إلى وقت متأخر من الليل. ليُطرح سؤال : أما تربية الأبناء مسؤولية من ؟ فضلا عن وجود حالات اجتماعية تُقصِي أساسا حق الأطفال في الانتماء إلى الأسرة، كحالة الطلاق بين الأب والأم، أو حينما يستحكم العنف والشجار داخل الأسرة، حيث يكون الشارع في هذه الحالة المأوى الأخيرَ للأطفال.
جهل بعض الأُسرِ بمَسؤوليتِها التربوية.
إن كثيرا من الآباء والأمهات أقدموا على الزواج دون أن يُدركوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ودون وعيهم بواجبهم المُتَمثِّل في حسن تربيةِ أولادهم بعد إنجابهم إياهم، فيظن الكثير من الآباء والأمهات – جهلا- أن مسؤوليتهم تنحصر في الإنجاب وتوفير المأكل والمشرب والمسكن فقط، أما التربية في نظرهم فهي من مهام المدرسة ولا دخل لهم فيها !، دون أن ننسى تفشي ظاهرتي الأمية والجهل في المجتمع المؤديتين إلى عدم معرفة سبلَ التربيةِ وطرائقَها حتى ولو علموا –أي الآباء- بكونهم مسؤولين عنها فعلا. وهذا الوضع يفتح المجال كاملا أمام جهات أخرى لتلقين الأبناء نوع معين من التربية غير الآمنة، كالشارع – بخيره وشره – والإعلام التلفزيوني، والانترنيت، خاصة مع انتشار استعمال مواقع التواصل الاجتماعي في أوساط المتعلمين والشباب، …
إن هذه الأسبابَ الثلاثةَ وغيرَها تجعلُنا أمام قضيةٍ مركّبةٍ تستهدف المجتمعَ المغربي في عُمقِه، لذلك تحتاج إلى الحزم في التعامل معها من مختلف المتدخلين الناشدين لمصلحة الوطن والأمّة، ولا تُعتَبَرُ أعذارا مقبولة تعلِّل استسلام الأسر أمامها، أو تبرِّر تخلّيها بشكل شبهِ مطلق عن دورها الأساسي في التّربية والتّهذيبِ. فعلى الآباء أن يَعوا جيّدا أنه بنفس القدر الذي هم مسؤولون عن توفير الطعام والشراب لأولادهم، هم أيضا مسؤولون عن تلقينهم إيّاهم السلوك التربوي والخلقَ النبيل، فكما يُخصِّص الأبُ جزءاً من وقته للعمل لتوفير القوتِ اليوميّ لأبنائه، عليه أن يخصص لهم جزءا من وقته للجلوس معهم وإرشادهم. و بنفس الدرجة التي تكابد بها الأم لإعداد ألذّ الطعام لأبنائها، عليها أن تجاهد لتعلِّمهم أجمل الأدب. فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (أَكرِموا أولادَكم، وأحْسِنُوا أدَبَهُم). فبالقدر الذي يَعتبر الشَّرع الحكيمُ الإنفاق على الأبناء واجباً، يَعتبِر تربيتَهم على الأخلاق الحميدةِ كذلك واجبةً. ويتأكد هذا الوجوب الشرعيُّ أكثرَ في السنوات الأولى من عمرِ الطفلِ، والمُمتدَّةِ من فترةِ الرضاعةِ إلى حدود السنة الثانيةَ عشر من عمرِه. حيث يؤكد علماءُ النفس التربويّ أن في هذه المرحلة تتشكل هويةُ الطفل وخلالها تُبنى لدَيه مختلفُ المفاهيمِ بناءاً على نوع التربية التي يتلقاها من الوالدين والأسرة عموما، ففي هذه المرحلة العمرية يتعلّم الطفل بعض القواعد، كتناول الطعام والكلام والتمييز بين الصحيح والخطأ من السلوك بناء على التوجيهات الموجهة له، وبناءا على الثواب والعقاب، ويتعلمُ أيضاً التعلُّقَ الاجتماعيّ بالوالدين، ونسجَ العلاقاتِ مع الآخرين بدءا بالإخوة …
وبناءاً على ما تقدَّم فإن الأسرةَ هي المنبعُ الأولُ والأساسيُّ لتلقّي التربيةِ الحسنة، والمدرسةُ ما هي إلا مكمِّل ومدعِّم لدورِ الأسرةِ.
وكمثال على العلاقة التّكامليةِ بين دورِ الأسرةِ المُؤَسِّسَةِ للتّربيةِ و دورِ المدرسةِ المُكمِّلةِ لدورِ الأسرةِ فيها، ما يلي:
يَتعلَّمُ الطفلُ في البيتِ خُلُقَ الأمانةِ فيربِّيهِ الوالدانِ علَى احترامِ ممتلكاتِ الآخرين كلُعَبِ إخوانه نموذجاً، فلا يَسطو لَهم عليها ولا يُكسِّرها، فيصير فيه ذلك خلُقا وسُلوكاً، فتعمَل المدرسةُ لتُرسِّخ فيه هذا السلوكَ أكثر بطريقةٍ علمية، بربطه له بالجانب الديني والقانوني مثلا، ولتوسيع مَفهومِ الأمانة في ذهنه ليشمل مختلفَ الجوانبِ العامّةِ والخاصّةِ. لكن إذا فقد الأصل (أي خلق الأمانة في البيت) فإن المدرسة لن تجد أساسا لتَبنِيَ عليهِ ما بَعده. وهكذا الأمر في مختلفِ أنماط السلوك التربوي، ففي البيتِ يتعلمُ الطّفلُ أيضاً الصدقَ في الكلام، والاحترام، وتوقير الكبار، وتقدير الصغار، ومنها يتعلّم عباراتِ التحيّة والسلام والشكر والاعتذار والترحيب، ومنها يتعلّم النظام والوفاء بالعهود والالتزام بالمواعيد … فإن الأسرة في هذا الجانب مؤسِّسة والمدرسة مكمِّلةٌ.
وعليه فإن مسؤوليةَ تربية الأبناء تتقاسمُها الأسرةُ والمدرسةُ معاً، كل له قسطُه منها، لا تستطيع إحداهما الاستغناء عن الأخرى، فعلى الجميع القيام بما يجب عليه اتجاهَ جيل المستقبل، ومغربِ الغد.