الولاء والانتماء ومصداقية المواطنة

0

ذ. أحمد دلبوح/أستاذ مكون

مدخل:

الحمد لله رب العالمين، جاعل الإنسان خليفة في أرضه إلى يوم الدين، وصلاته وسلامه على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، الفرد الإنسان المواطن أشرف من جسدت أعماله معاني الولاء والانتماء لدين ربه، وأهله وأصحابه وأمته، ومن سار على هديه إلى يوم الدين.

وبعد، فإن مصداقية المواطنة تكمن أساسا في حب الوطن والانتماء إليه، حب يدفع المواطن إلى القيام بالأعمال الإيجابية، للمحافظة على الوطن بكل ما فيه من أرض وبيئة ومن ثقافة وتاريخ وتراث وعقيدة …، ومن ثم، صار لزاما الاهتمام ببناء قيم الولاء والانتماء والإخلاص، وذلك من خلال مختلف وسائل التنشئة الاجتماعية، بدءا من التنشئة الأسرية؛ ثم المدرسة والبرامج التعليمية …؛ وتظهر أهمية التربية على المواطنة في كونها تسعى لإعداد الإنسان للعيش في وطنه، وتكيفه تكيفاً سليماً مع قوانينه، كما تعزز في الأفراد روح الولاء والانتماء للوطن، وكذلك تعمل على تنظيم العلاقات بين مختلف مواطني الدولة.

وقبل ان نبسط القول في محاور الموضوع، نشير إلى أن هذه المداخلة تم تقديمها في ندوة تربوية علمية، نظمتها الجمعية المغربية لأساتذة مادة التربية الإسلامية بمدينة الداخلة، يوم 27 يناير 2021، في موضوع “مدخل الهوية والمواطنة في المنهاج التعليمي المغربي – منهاج مادة التربية الإسلامية نموذجا”، وذلك تحت شعار “حب الوطن من الإيمان”، وهي تأتي ضمن سلسلة مداخلات تناولت موضوع الندوة بشكل متكامل، ولا نهدف من خلالها للإحاطة بجوانب الموضوع التفصيلية، نظرا لتشعبه وصعوبة ذلك في هذه الورقات القليلة.

 

في الوطنية والمواطنة:

يرجع أصل كلمة المواطنة إلى وطن، وطن بالمكان يطِن وأوطن: حلّ فيه، وأقام به، وأوطنه: اتخذه وطَناً، والوطن: المنزل تقيم به وهو موطِن الإنسان ومحله، فالمواطنة انتساب إلى المكان الذي يستوطنه الإنسان؛ ويرى بعض الباحثين أنها كلمة مستحدثة في اللغة العربية دخلت إليها عن طريق ترجمة التراث الغربي ومقابلها في الإنجليزية “Citizenship” وفي الفرنسية “Citoyenneté” رغم أن الأصل الاشتقاقي لها في اللغات الغربية هو كلمة “مدينة”، ولا تفرق بعض المعاجم الغربية بين المواطنة والجنسية. وجملة القول، أن المواطنة تعني الروابط القانونية والسياسية التي تجمع الفرد المواطن بوطنه.

وتتداخل المواطنة مع مصطلح آخر وهو الوطنية، والتي يمكن تعريفها بوصفها نزوعاً شعورياً وفكرياً يعني حب الوطن والاهتمام به، والتضحية في سبيل رفعته. ويرى بعض الباحثين أن المواطنة مرتبطة بالبعد القانوني في علاقة المواطن ببلده في حين ترتبط الوطنية بالبعد العاطفي، ولسنا بصدد التمييز بينهما بقدر ما نهدف إلى إبراز علاقتهما بقيم الانتماء والولاء. ومعلوم أن الإنسان يشعر بتعلق عاطفي وارتباط قلبي بالمحل الذي ولد ونشأ وترعرع فيه، وذلك يدفعه إلى حبه وبذل الجهد في سبيل الدفاع عنه ضد أي اعتداء. ويمكن أن نخلص إلى تعريف المواطنة بأنها شعور حب الفرد لوطنه مكان ولادته ونشأته، وإلمامه بتاريخه وقضايا حاضره وطموحات مستقبله، واستعداده لبذل كل ما يملك للدفاع عنه، وخدمته في شتى المواقع.

حول علاقة التربية بالمواطنة:

تقوم المنظومة التربوية بإعداد الأفراد وتهذيبهم، وتنمية ولائهم وانتمائهم إلى عقيدتهم وتراثهم الثقافي وأوطانهم، ويتطلب هذا الإعداد – بالضرورة – تنمية الولاء والانتماء للوطن. وبذلك تُعد علاقة التربية بالمواطنة علاقة عضوية كعلاقة الجزء بالكل، إذ لا تربية بغير مواطنة ولا مواطنة بغير تربية. ويمكن توضيح هذه العلاقة بأن الفرد لن يصبح مواطناً حقيقياً دون فهم لمعنى المواطنة، ومعرفة ما له وما عليه من حقوق وواجبات، وكذلك ترجمة هذه المعرفة إلى ممارسة عملية على أرض الواقع بالمطالبة بالحقوق وأداء الواجبات. إن الذي يدفع الفرد للمطالبة بحقوقه وأداء التزاماته تجاه دولته هو الشعور بالانتماء والولاء للوطن. فكما ذُكر في تعريف المواطنة بأنها تشتمل على جانب فكري وعاطفي، فالفكر يمثل جانب المعرفة، والعاطفة تمثل جانب المشاعر. فلو نظرنا إلى وظيفة التربية لوجدناها تشتمل على أمرين لا يستغنى بأحدهما عن الآخر وهما: أولاً: تحقيق المعرفة لدى التلميذ(ة)، وثانياً: تنمية المشاعر في نفسه؛ فالتربية مهمة لتحقيق المواطنة سلوكاً وعملاً واقعاً من خلال إيصال المعارف للأفراد، وكل ما يحتاجونه من معلومات عن وطنهم، وما لهم وما عليهم من حقوق وواجبات، وكذلك غرس المشاعر وتنميتها وتأصيلها داخل نفس الفرد تجاه وطنه.

ونظرا لتعدد أسس التربية على المواطنة، فسنقتصر في هذه المداخلة على أساسين هامين فقط هما الانتماء والولاء على أن نتناول كلا منهما في مبحث مستقل، ونختم مداخلتنا بخلاصة خاتمة.

أولا: قيمة الانتماء

الانتماء لغة الانتساب، يقال: انتمى فلان إلى فلان إذا ارتفع إليه في النسب، ويمكن تعريف الانتماء الوطني اصطلاحاً بأنه الانتساب الحقيقي من الفرد لوطنه فكراً والذي تجسده الجوارح عملاً. وبما أن الانتماء انتساب الفرد لوطن، فإن هذا ما يعبر عنه بالجنسية؛ لأنها تقوم على أساس فكرة التبادل بين الفرد والدولة في الحقوق والواجبات، ويغذي هذه الفكرة إحساس روحي لدى الفرد برغبته في الانتماء إلى هذه الدولة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعون من بعدهم من الرؤوس والعلماء ينسبون إلى أوطانهم، وقد يشتهرون بها فلا يعرفون إلا بنسبتهم إليها فهذا أبو ذر الغفاري، وأبو موسى الأشعري، وسلمان الفارسي، ومن بعدهم الحسن البصري، وأويس القرنى، ثم البخارى والنووي والصنعاني، وغيرهم. بل كان الكثير منهم يحرصون -إذا شعروا بدنو أجلهم- على الأوبة إلى أوطانهم حتى يختتموا فيها حياتهم، ويدفنوا فيها بعد موتهم. والانتماء للإسلام يذكي الانتماء للأوطان، فلا ينكر الإسلام الوطنية التي هي حب الوطن، بل يؤكدها ويغذيها، ولكن بترشيدٍ كريم وبفهم راق، وبما يتفق مع منظومة المنهج الإسلامي بمفرداته التي يتكون منها.

وانطلاقاً من التعريف، نجد أن الانتماء أهم مقومات الوطنية التي يجب الاهتمام بتربيتها. وقد سعى الإنسان منذ القدم إلى إصدار القوانين التي تحدد طبيعة انتمائه إلى المكان الذي ولد وعاش فيه، فكانت ممارسة الانتماء تابعة لطبيعة النظام ومنحه حقوق المواطنة للجميع ومدى حرص المواطنين على أداء واجباتهم وممارسة حقوقهم في الوطن الذي يعيشون فيه. فالإنسان في حياته ينتمي إلى دوائر إنسانية متعددة تتكامل ولا تتناقض. والانتماء الوطني هو أحد هذه الدوائر وليس هناك ثمة تعارض بينه وبين غيره من دوائر الانتماء، والتوفيق بين الانتماءات من محبة الأسرة والعائلة ثم الجماعة ثم الوطن ثم الجماعة الكبرى في الإسلام، لا تلغي فيه الدرجة العليا ما دونها ولكن المنهي عنه التعصب والطائفية التي تؤدي إلى الفرقة والانقسام وتحرض على الظلم. كما تكمن أهمية الانتماء الوطني في كونه بمثابة ضمير داخلي يوجه الفرد ويرشده إلى ما فيه صالح وطنه، فكلما وجه الانتماء للوطن توجيها سليماً كلما كان ذلك عاملاً من عوامل بناء المجتمع.

التأصيل الشرعي للانتماء:

المواطنة أو الجنسية هي عبارة عن صهر المجتمع المدني في أمة واحدة على الرغم من التنوع الثقافي والعقدي، والعرقي، وهو الأمر الذي أبرزته وثيقة المدينة التي وضعها النبي ﷺ بين المسلمين وطوائف المدينة، فالدولة تتكون من مجموعة مواطنين مسلمين وغير مسلمين، ونتيجة انتمائهم السياسي للدولة فإنهم يتمتعون بالحقوق، ويلتزمون بالواجبات التي يفرضها عليهم هذا الانتماء.

ومن الجدير بالذكر أن الولاء يعمل على حماية المجتمع من عوامل الفساد والانحراف، والظواهر السلبية كالفساد والتجسس، وعمليات التخريب والإرهاب وغيرها التي تظهر في غيابهما؛ لأن الفرد الذي يشعر بالولاء والانتماء لوطنه يبتعد عن كل ما يؤدي إلى الإضرار بالمصلحة الوطنية، ولو كان ذلك على حساب مصلحته الشخصية. وتعتمد صلابة الجماعة وتكاملها وترابطها على درجة انتماء الفرد لها، فالوطن الذي ينتمي أفراده إليه يكون أكثر صلابة وقوة من غيره. ويؤدي الانتماء إلى التعاطف الوجداني بين أفراد الوطن والميل إلى المحبة والعطاء والإيثار، مما يحقق الوحدة الوطنية، وينمي لدى الفرد تقديره لذاته وإدراكه لمكانته ومكانة وطنه، والإسلام أول من أرسى دعائم الانتماء للوطن وذلك عندما هاجر الرسول ﷺ وأصحابه من مكة إلى المدينة المنورة تاركين جميع ما يملكون من متاع وأموال فرارا بدينهم، فنظر ﷺ إلى مكة وقال قولته المشهورة “والله انك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت” فهذا يدل دلالة قاطعة علي أن الإنسان لديه ارتباط وثيق بالمكان الذي نشأ وشب فيه.

ثانيا: قيمة الولاء

الولاء لغة من الولي أي القرب والدنو، ويقال: بينهما ولاء أي: قرابة، والولي: ضد العدو وهو المحب والصديق والنصير، ووالى فلان فلاناً إذا أحبه. والولاء: ضد المِلْك، والوِلاية: النصرة؛ وعليه، فالولاء لغة يعني النصرة والمحبة. ومنه قوله تعالى: ” ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” (فصلت:34).

والولاء اصطلاحاً: يشترك مع المعنى اللغوي بأن كليهما يعني القرب والحب والنصرة والصداقة، ويمكن تعريف الولاء للوطن لكونه مشاعر الفرد وأحاسيسه الإيجابية بالمحبة والنصرة تجاه الوطن.

أقسام الولاء وتأصيلها الشرعي:

1. الولاء لله تعالى ولرسوله ﷺ: ويقصد به حب الله تعالى ورسوله، واتباع المنهج الرباني الذي جاء به النبي ﷺ، وألا يقدم على هذا الولاء أي ولاء آخر، بل يجب أن يكون هو مصدر كل ولاء، وهذا الحب نابع عن معرفة تامة بالله وتوقير وتعظيم وتوحيد له تعالى، ويدفع صاحبه إلى التوكل عليه والالتجاء إليه في كل الأمور. ولا بد أن تبعث هذه المحبة على امتثال الأوامر والانتهاء عن النواهي، وسلوك طريقة الرسول ﷺ والرضا بما شرعه الله. قال تعالى: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ” (البقرة: 165). وقال تعالى:” إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ” (المائدة:55-56). وقال تعالى:” قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (آل عمران: 31). وينبغي أن يكون الولاء والحب لله والرسول ﷺ مقدما على غيره.

2. الولاء الأسري: ويقصد به مشاعر الفرد وأحاسيسه الايجابية بالمحبة تجاه أسرته، وهذا الولاء يكسب الفرد القيم والعادات الصحيحة، والتمييز بين الخطأ والصواب، مما يجعله عضواً منسجماً مع جماعته، ويؤثر في تكوينه الشخصي والاجتماعي بعد ذلك. وقد تناول التشريع الإسلامي العلاقات الأسرية بالتنظيم، وعمل على تنمية مشاعر الحب والرحمة بين أفراد الأسرة، وعلى جعل الكيان الأسري سليماً متماسكاً، من خلال الطريقة الشرعية في تكوين الأسرة، وما ينتج عن ذلك من حقوق لأفرادها وواجبات عليهم. وقد تناولت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الأحكام المتعلقة بالأسرة من بداية التفكير بتكوينها إلى نهايتها بالموت أو حل الرابطة الزوجية. وقد دعت الآيات والأحاديث كذلك إلى أن يسود جو من المودة والرحمة بين أفراد الأسرة. قال تعالى: ” وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير” (لقمان:14). وقال تعالى: ” وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ” (الإسراء: 23). وذكر الرسول الكبائر، أو سئل عنها، فقال: (الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين). وقد جاءت الآيات والأحاديث مطلقة في الوالدين، المسلمين وغير المسلمين، فالبر بهما واجب، قال تعالى: ” وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ” (لقمان: 15).

3. الولاء البيئي: من المعلوم أن من مكونات الوطن المكان الذي يقطنه المواطنون أي: البيئة، فلا بد أن تبقى هذه البيئة صالحة للعيش قابلة لاستثمار مواردها، ويعتبر هذا من واجبات التربية الوطنية التي تسعى إلى حماية البيئة الطبيعية ورعايتها، وذلك من خلال بث الوعي بقيمة البيئة سواء من ناحية مادية أو جمالية، وتعليم الناشئة طرق المحافظة عليها، وبيان أثرها في حياة الفرد والمجتمع، وطبيعة العلاقة بين الفرد وبيئته المحيطة، فلا بد من تنمية القدرة على الاستمتاع بجمال الطبيعة ونظافتها؛ حتى لا يشعر بالرغبة في إتلاف وإفساد الطبيعة، وذلك من أجل ضمان بيئة صحيحة سليمة، وهذا هدف إنساني. وقد حظيت البيئة برعاية الإسلام ونهيه عن الإفساد فيها، وذلك من خلال الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة.

قال تعالى: ” وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ” (الأعراف:56). والإفساد هو إخراج الشيء عن حالة الاعتدال والنفع والصلاح من غير أن يترتب على ذلك نفع أو مصلحة أعظم، والأرض تشمل العناصر البيئية التي تهيئ للإنسان ولغيره من الكائنات الحية مقومات الحياة وعوامل البقاء، فمضمون الإفساد في الأرض يتضمن الإعتداء على البيئة بجميع عناصرها. وقال ﷺ (من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها). ففي الحديث تشجيع على استغلال الأرض وعدم تعطيلها، إذ لا يصح تركها؛ لكيلا تتحول إلى أرض لا منفعة فيها أي: أرض ميتة، وفي هذا دلالة على عناية الإسلام بالبيئة واستثمار مواردها.

4. الولاء الوطني:

لكي يتم توضيح المقصود بالولاء الوطني لا بد من الحديث عن أقسامه، وبيان مظاهر كل قسم من هذه الأقسام من الناحية الشرعية.

القسم الأول: الولاء للوطن:

أولاً: أن يحمل مشاعر الحب لأرض الوطن:

لقد وجب حب الوطن في كافة الثقافات والأمم، إذ يرتبط الوطن في وجدان الإنسان بذكرياته وحياته، وحب الوطن من الغرائز المودعة في نفس كل إنسان، فلا غرابة أن تؤكد الشريعة الإسلامية على هذا المظهر في مجموعة من الإشارات القرآنية والأحاديث الشريفة. يقول تعالى: ” قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ” (التوبة: 24). فأصل الحب لهذه الأشياء التي ذكرتها الآيات موجود ومنها حب المسكن، الذي مما يعنيه وطن هذا الإنسان، ولا مؤاخذة على هذا الحب؛ لأنه أمر فطري جِبِلِّي لا يمكن تركه، إنما رتبت المؤاخذة على تفضيل هذه الأشياء في الحب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله. وقال تعالى: ” إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” (القصص:85) والمقصود بقوله تعالى ” إِلَىٰ مَعَادٍ” أي: إلى مكة المكرمة وطن النبي ﷺ الذي أُخرج منه، وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية أن النبي ﷺ لما خرج من مكة مهاجراً، فلما بلغ الجحفة اشتاق ﷺ إلى مكة، فقال له جبريل: “أتشتاق إلى مكة؟ فقال: نعم” فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية، فقد راعت هذه الآية مشاعر النبي وحبه لوطنه مكة؛ لذلك يبشره الله تعالى بالعودة إليها. وقال تعالى أيضاً: ” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)” (الحج: 39-40). وتدل هذه الآية على أن الديار أي: الأوطان شيء عزيز ومحبوب، ويستوجب الإخراج منها القتال والاستشهاد؛ إذ هو المكان الذي يتم من خلاله القدرة على العبادة والانتفاع بما فيه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ لمكة ما أطيبك من بلد، وما أحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك). فأشار النبي ﷺ في هذا الحديث إلى حبه لوطنه الأصلي وهو مكة بقوله ﷺ: “وما أحبك إلي”، ولولا أن قومه لم يستجيبوا للدعوة فأخرجوه منها لما خرج منها إلى غيرها. وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله ﷺ إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته وإن كانت دابة حركها من حبها). فالنبي ﷺ كان إذا رأى طرق المدينة وجدرانها، استعجل دابته حباً للمدينة، وفي ذلك دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه. وقال النبي ﷺ أيضا: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد”. وفي هذا دلالة على أن النبي ﷺ كان يحب مكة وقد دعا بأن تحبب إليهم المدينة كحب مكة أو أشد، وفيه دلالة على مشروعية حب الوطن. فيستدل مما سبق أن حب الوطن والحنين إليه مشروع بالأدلة من الكتاب والسنة، ولا يعني هذا بغض غيره من الأوطان؛ لأن هذا من الوطنية المتعصبة، التي تؤدي إلى إلحاق الظلم والاعتداء على الآخرين، وهذه يرفضها الإسلام برسالته العالمية.

ثانياً: الدفاع عن الوطن:

إن من مظاهر الولاء الوطني لأرض الوطن الدفاع عنها، وبذل الدماء رخيصة في سبيل الحفاظ على حرمتها، وهذا واجب وطني يعم جميع المواطنين دون استثناء بسبب عقيدة أو عرق أو جنس كلٌ حسب طاقته. فكل مواطن مكلف بالدفاع عن بلده ضد أي خطر، وقد كانت نصوص صحيفة المدينة صريحة في الدلالة على ذلك، يقول ﷺ (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)، (وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم)، (وأن بينهم النصر على من دهم يثرب…). يلاحظ أن هذه النصوص قد جعلت مسؤولية الدفاع عن الوطن مسؤولية مشتركة بين جميع سكان الدولة، فجعلتهم أهل ولاء واحد، عدوهم واحد، ومناصرتهم واحدة؛ لأن الأمن واحد يشملهم جميعاً، فليس هنالك مواطنون لهم خصوصية دون غيرهم، فالجميع يجب عليهم الدفاع عن الوطن. فالدفاع عن الوطن بالنسبة للمسلم واجب ديني وهو من الجهاد في سبيل الله تعالى، قال تعالى: ” قالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا” (البقرة:246) وقال تعالى: ” أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ” (التوبة:13) ومن خلال نصوص الصحيفة فإن الدفاع عن الوطن يكون بالنفس بأن يقاوم بنفسه، فيحمل السلاح ويدافع عن وطنه، ويكون بالمال وذلك من خلال تحمل نفقات الحرب، وكذلك باللسان من خلال تقديم النصيحة والخطط الحربية، واستخدام الحرب الإعلامية في نصرة الوطن، وهذه مسؤولية تكون مشتركة وبصورة متساوية بين جميع أبناء الوطن الواحد.

القسم الثاني: الولاء للمواطنين:

يظهر المقصود بهذا الولاء من خلال مظاهره، وفيما يأتي بيان أهمها:

أولاً: التعاون والتكافل بين المواطنين:

حثَّ الإسلام على بناء أواصر المحبة والتعاون بين المسلمين، وجعلهم أخوة في الدين، فعلاقة المسلمين فيما بينهم تقوم على أساس التراحم والألفة والتكامل، وقد أشارت آيات قرآنية وأحاديث شريفة إلى هذه المعاني. قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ” (الحجرات:10) وقال تعالى: ” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ” (آل عمران:103)، وقال تعالى: ” وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ” (التوبة: 71). وقال ﷺ: (المسلم أخو المسلم)، وقال ﷺ: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فهذه النصوص جاءت بصورة عامة دون تقييد، فهذه العلاقة القائمة على التعاون والتكافل تكون بين جميع المسلمين. ومن المعلوم أن المجتمع الإسلامي يشتمل على مواطنين غير مسلمين، فما هي طبيعة العلاقة بين المسلم وغير المسلم داخل الدولة؟

الإسلام دين يقوم على بناء علاقات اجتماعية قوية بين جميع الناس، قائمة على أساس التسامح والتعاون بين جميع المواطنين، مما يولد الثقة بينهم، ويسعون جميعاً إلى تقديم الخير للوطن. ويمكن تحديد العلاقة التي ينبغي أن تكون بين جميع المواطنين مسلمين وغير مسلمين من خلال قوله تعالى: ” لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ ،وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (الممتحنة: 8-9). فهاتان الآيتان تقسمان الناس إلى قسمين:

القسم الأول: أناس مسالمون غير معتدين:

فتقرر الآيات جواز إشاعة البر والمودة والإحسان إليهم، وأن تقوم بين المسلمين وهؤلاء صلات طيبة. فهذا التعامل مطلوب من المسلم مع كافة الناس سواء آمن بالإسلام أو لم يؤمن به ما دام أنه يدخل ضمن هذا القسم، فمن باب أولى أن تسود هذه العلاقة مع من يشاركون المسلمين في الوطن؛ لما لهم من حق الجوار ما دام أنهم مسالمون قائمون بواجباتهم تجاه الدولة. وفي ذلك يقول القرافي عن المقصود بالبر بغير المسلم هو: ((الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم، على سبيل التلطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته، لطفاً منا بهم، لا خوفاً ولا طمعاً، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم، إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميع حقوقهم …))، فالإسلام لا يقطع علاقات المسلمين مع مواطنيهم من غير دينهم؛ لأنه لا بد أن تحدث بين أبناء الوطن الواحد مجموعة من المعاملات في شتى جوانب الحياة، لذلك يجب أن تسود الألفة والمحبة ويتسامى على الخلافات العقائدية التي يدين بها أفراده، ومن أجل تحقيق مجتمع تسوده الوحدة والتعاون.

القسم الثاني: المعتدون:

تشير الآيات إلى أن هؤلاء لا يجوز موالاتهم بالتعاون معهم أو مناصرتهم أو حبهم، وعلى هؤلاء فقط يمكن حمل الآيات التي تنهى عن موالاة الكافرين وتدعو إلى مقاطعتهم، وذلك لقوله تعالى: ” لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” (المجادلة:22). فدلت الآية على عدم جواز الود والمحبة لمن حاد الله ورسوله، أي عادى الله ورسوله وحاربهما، أما الذين لا يحاربون الله ورسوله فليسوا داخلين ضمن هذه الآية. وقال تعالى: ” يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ” (الممتحنة:1)،  وقال تعالى أيضاً: ” إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ” (الممتحنة:9). فربط الله النهي في الآيتين عن المودة والموالاة لمن أظهر العداوة للمسلمين في الدين وقاموا بإخراج الرسول ﷺ والمؤمنين من ديارهم، أما غيرهم فلا يدخلون في هذا النهي. وكذلك المسلم يجوز له الزواج بغير المسلمة، ومعلوم أن الزوجة وأهلها صلتهم واجبة إذا لم يحاربوا الإسلام، وهذا يدل على أن آيات النهي إنما المقصود منها النهي عن موالاة غير المسلم المحارب للإسلام. وعلى هذا يكون النهي عن اتخاذ المخالفين أولياء إنما يكون بوصفهم جماعة متميزة بعقيدتها أو مناصرتهم ضد المسلمين، أما الموالاة بمعنى المسالمة والمعاملة بالحسنى والتعاون بوصفهم مواطنين يشتركون مع المسلمين في وطن واحد، يلتزمون بواجباتهم تجاه وطنهم، فهذا غير منهي عنه.

ثانياً: احترام خصوصيات المواطنين:

ويعتبر هذا أيضاً مظهراً من مظاهر الولاء للمواطنين بأن يسود الاحترام المتبادل بينهم دون أن يعتدي أحدهم على خصوصيات الآخر بالتحقير والشتم والاستهزاء. لقد جاء التأكيد على الاحترام المتبادل بين مواطني الدولة من خلال المبدأ: (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)، وهذا المبدأ شامل للمسلمين وغير المسلمين. فمن مظاهر الولاء للمواطنين احترام خصوصياتهم دون النظر إلى الدين أو الجنس أو غير ذلك من أسباب التمييز، فيجب على غير المسلمين في الدولة الإسلامية احترام عقائد المسلمين وشعائرهم، فلا يجوز لهم الطعن في كتاب الله تعالى، وذكر الرسول ﷺ بما لا ينبغي، وألا يذكروا الدين الإسلامي بذم أو قدح.

يقول الزحيلي: ((فليس لهم المساس بشيء من قواعد الإسلام ومقدساته من قرآن أو سنة نبوية وعقيدة وعبادة وأخلاق، ومسّلمات تاريخية، وليس لهم شيء من السب والشتم والتهكم أو السخرية، أو إثارة الفتنة الدينية، أو الطعن بقيم الإسلام وتاريخه وحضارته، أو الاعتداء على الأعراض والكرامات)). وكذلك يجب على المسلمين احترام حقوق وخصوصيات غير المسلمين من مواطنيهم في عقيدتهم وطقوسهم الدينية، ولهم الحرية في ترميم كنائسهم وبنائها بقدر حاجاتهم، ولا يجوز إيذاؤهم بالسخرية من شعائرهم ومعتقداتهم.

يقول القرافي: ((فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غِيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله ﷺ وذمة الإسلام)). فلا يجوز إيذاء غير المسلم ببعض العبارات كالقول له: يا كافر أو يا عدو الله؛ لأن مثلها تمس مشاعره وكرامته الإنسانية. وعلى هذا الأساس من الاحترام المتبادل بين مواطني الدولة يتحقق الولاء لشعب الوطن، ويصبح المجتمع مجتمعاً متعاوناً، ومتكافلاً ضمن وطنٍ واحد.

القسم الرابع: الولاء للنظام السياسي: ومن أهم مظاهره:

أولاً: طاعة ولي الأمر:

لقد أولى الإسلام طاعة ولي الأمر اهتماماً كبيراً فجعل طاعته واجبة إن أطاع الله ورسوله، وهي قاعدة من قواعد النظام السياسي للدولة الإسلامية. وقد أوجب القرآن الكريم والسنة المطهرة ذلك في أكثر من موضع، قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ” (النساء:59). قد أمر الله تعالى المؤمنين على اختلاف فئاتهم بطاعة أولي الأمر أصحاب الولاية الشرعية في الأمة. وقال ﷺ: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) وقوله ﷺ: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني). غير أن هذه الطاعة ليست مطلقة من كل قيد، وإنما مقيدة بأن لا تكون في أمر يخالف الشريعة؛ لأن إليها مرجعية الحكم في حق طاعة ولي الأمر في الدولة الإسلامية، قال ﷺ: (فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) وبذلك لا يصح لولي الأمر أن يأمر أو ينهى بما فيه مخالفة للشريعة الإسلامية؛ لأنه ما وضع إلا ليقيم أحكام الشريعة في الدولة. وهذه الطاعة شاملة لجميع مواطني الدولة الإسلامية سواء أكانوا مسلمين أم من غيرهم؛ لأن المسلم وغير المسلم يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية. وقد أوجبت الشريعة طاعة ولي الأمر؛ لأنه بطاعة ولي الأمر تنتظم أمور الدولة وأحوالها، فيحصل التماسك والأمن والاستقرار، وهذا من أعظم مطالب الشريعة الإسلامية، لما لذلك من أثر في أن تتمكن الدولة من تحقيق مصالحها؛ ولأن ذلك يؤدي إلى استقرار الأوضاع واستتباب الأمن، ويؤدي إلى المحافظة على مصالح الأفراد وحقوق المواطنين.

ثانياً: تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند التعارض:

راعت الشريعة الإسلامية مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فلم تطغَ المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، ولا المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في الأحوال العادية، أي بدون تعارض بين المصلحتين، وذلك تحقيقاً للتوازن والعدالة. أما عند التعارض بين المصلحتين فتقدم أعمهما وأشملهما على أخصهما وأضيقهما، وهذا أصل كلي من أصول الشريعة مأخوذ بطريق الاستقراء من نصوص الشريعة بطريق يفيد القطع، ومظهر من مظاهر الولاء للنظام السياسي في الدولة الإسلامية. وكذلك من القواعد الشرعية: ((يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام)). فيجب على كل مواطن أن يقدم مصلحة الوطن على جميع المصالح، وإن كان على حساب مصلحته الشخصية، وكذلك يجب عليه دفع الضرر عن الوطن وإن ترتب على ذلك إلحاق الضرر به.

خلاصة:

تأسيسا على ما تقدم، تظهر العلاقة بين المفهومين فمفهوم الولاء يتضمن الانتماء؛ لأن الفرد لن يحب وطنه وينصره إلا إذا انتسب إليه، أما الانتماء فليس بالضرورة أن يتضمن الولاء؛ لأن الفرد قد ينتمي إلى وطن، ولكنه لا يمنحه الحب والنصرة والعطاء، والانتماء يوجد بوجود الفرد، أما الولاء فيكتسبه الفرد من مدرسته وبيئته ومجتمعه، فالانتماء أولاً ثم يأتي الولاء الذي يظهر صدق الانتماء.

ويدفع الولاء الفرد إلى التضحية بنفسه في سبيل الحفاظ على وطنه ورفعته، ويترتب على الانتماء والولاء تضامن اجتماعي بين مواطني الدولة، ويؤديان إلى توجيه العمل نحو المصلحة العامة؛ لأن انتماء الفرد وولاءه سوف يكون موجهاً للدولة، وليس لفئة أخرى. كما يعدان من المقومات الأساسية للمواطنة الصالحة، التي لا تتحقق إلا عبر تمثل حقوق الله وحقوق النفس وحقوق المجتمع، وأيضا عبر اتخاذ مواقف ومبادرات إيجابية تهدف تحقيق النفع العام فحيثما تكون المصلحة العامة يكون شرع الله، على اعتبار أن المواطن الصالح حامل رسالة العمارة في الأرض وصلاحها.

المراجع:

منهاج التربية الإسلامية بسلكي التعليم الثانوي – مديرية المناهج – يونيو 2016.

المدرسة المغربية ومطلب ترسيخ قيم المواطنة والسلوك المدني: التجليات والتحديات. عبد الاله مرتبط والحبيب استاتي. دفاتر التربية والتكوين شتنبر 2011.

الانتماء والولاء الوطني في الكتاب والسنة النبوية. سميح الكراسنة، وليد مساعدة – علي جبران وآلاء الزعبي – المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية. مجلد 6 – عدد 2 – 2010.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.