السؤال التقويمي بين النقد البيداغوجي والتهويل الإيديولوجي

0

الاستاذ/الحاحي الوزاني 
تابعت نقاشا طويلا على وسائل التواصل الاجتماعي حول سؤال تقويمي ورد في اختبار إشهادي جهوي في مادة التربية الإسلامية، يقول السؤال: “دعا نوفل في تعليقه على تدوينة مراد إلى تجاوز مفهوم الزواج باعتباره ميثاقا تقليديا للعلاقة بين الرجل والمرأة، وتعويضه بالعلاقات الرضائية بين الجنسين؛ اكتب فقرة من أربعة أسطر تناقش فيها دعوة نوفل مبينا موقفك منها”.
وأقصد بالنقد البيداغوجي: كل ملاحظة تبرز عيبا في السؤال بناء على كونه لا يحترم الأطر المرجعية، أو أنه يخالف قواعد القياس والتقويم، مثل كونه عائما يحتمل عدة إجابات وما شابه ذلك. أما التهويل الإيديولوجي؛ فأقصد به: جميع المؤاخذات التي تنطلق من خلفيات مسبقة، فتثير جدلا افتراضيا يقوم على الشك في مقاصد السؤال، وتحذر من مخاطر وشيكة يستفيد منها الخصوم !
واللافت للنظر في هذه الضجة الإعلامية أن أصحابها هذه المرة من الداخل، أي من المنتمين إلى هذه المادة وقيمها والحاملين لواء الدفاع عنها، وهو ما يمكن تسميته ب (النقد الذاتي) حتى لا تتحقق أطماع الخصوم من العلمانيين ومن يواليهم، وفي هذا السياق نطرح السؤال الآتي:
هل الانتقادات الموجهة للسؤال انتقادات علمية بيداغوجية؛ أم مجرد مرافعات إيديولوجيا في إطار الصراع بين المحافظين والحداثيين؟
لتحليل هذا السؤال يمكن أن نسلك منهجين؛ المنهج الأول: إيراد الحجج النقدية الموجهة للسؤال، والتفاعل معها بشكل مباشر حجة حجة لاختبار قوتها، والمنهج الثاني: الرجوع إلى الوثائق الرسمية المؤطرة للتقويم لبيان الخلفية البيداغوجية للسؤال أولا، ثم طرح أهم الحجج التي تمسك بها المنتقدون ثانيا، وأفضل هنا المنهج الثاني لكونه أوجز وأفيد.
حدد الإطار المرجعي للسنة أولى باك كفاية واحدة لتقويمها في نهاية السنة، ثم قام بتفكيك هذه الكفاية من خلال التعبير عنها بست مهارات، ثم يشير إلى ملاحظة دقيقة، فيقول: “المهارات ليست مستهدفة لذاتها، ولا منفصلة عن وظيفتها في حل الوضعية المشكلة التقويمية”، أي أن هذه المهارات تُقوم في سياق إشكالي وليس عبر سؤال مباشر. ويهمنا من تلك المهارات الست؛ المهارتين الآتيتين:
المهارة الثالثة: توظيف المفاهيم الشرعية وتحديد خصائصها؛
المهارة السادسة: تحديد المواقف، وبناؤها، والتعبير عنها، وتعليلها.
كما حسم الإطار المرجعي في الوضعية التقويمية كأداة للقياس والتقويم، يقول: “إن مدخل الكفايات يستلزم بالضرورة تقويم معارف ومهارات، وقيم ومواقف، من خلال وضعيات مشكلة تقويمية دالة ومركبة. ومن تم وجب أن تكون الوضعيات: ذات ارتباط بمسارات تعلمات المتعلم ومكتسباته السابقة (…)، معبئة للموارد المكتسبة بحيث تتجاوز الأسئلة الاسترجاعية المباشرة، وتجعل المتعلم قادرا على التعامل معها”.
ومن الدروس المقررة في السنة أولى باك، ولها علاقة مباشرة بالسؤال الذي نناقشه؛ الدروس الآتية:
سورة يوسف؛
فقه الأسرة: الزواج: الأحكام والمقاصد؛
فقه الأسرة: الطلاق: الأحكام والمقاصد؛
فقه الأسرة: الأسرة نواة المجتمع؛
فقه الأسرة: رعاية الأطفال وحقوقهم؛
حق الغير: العفة والحياء؛
وقاية المجتمع من تفشي الفواحش؛
وإذا نظرنا الآن إلى السؤال الذي أثير حوله الجدل في ظل هذه المعطيات؛ سنجده سؤالا منسجما مع الوثائق الرسمية المؤطرة للتقويم الإشهادي، فهو سؤال:
يقيس المهارة الثالثة المرتبطة بتوظيف المفاهيم الشرعية وتحديد خصائصها، والمهارة السادسة المتعلقة بتحديد المواقف وبنائها  والتعبير عنها وتعليلها؛
يقيس هاتين المهارتين وفق الشروط المنصوص عليها، وهي تقويمها في إطار وضعية مشكلة يوظف فيها المتعلم مكتسباته السابقة؛
مرتبط بالمكتسبات السابقة كما يدل على ذلك الدروس المشار إليها.
غير أن كثيرا من الفضلاء استهجن هذا السؤال من خلال تضمنه مفهوما يروج له العلمانيون، وهو مفهوم (العلاقات الرضائية) بدلا من المفهوم الشرعي (الزنا)، وكان الأولى في نظرهم عدم إقحام هذا المفهوم، خاصة ونحن في تقويم إشهادي لا توجد فيه فرصة للتحليل والمناقشة، إضافة إلى كون الحيز المخصص للجواب، وهو أربعة أسطر؛ لا يكفي في نظرهم !
والحق أن هذا افتراض مردود من عدة أوجه:
الوجه الأول: أن المتعلم يقضي أربعا وعشرين ساعة داخل الفصل الدراسي، وهو يناقش ويحلل هذا الموضوع مع أستاذه وزملائه؛ اثنتا عشرة ساعة لسورة يوسف المقسمة إلى ستة مقاطع، وكل مقطع يُدرس في ساعتين، ثم ستة دروس بمعدل ساعتين لكل درس ( المجموع: 24 ساعة)، فكيف يعقل بعد كل هذا أن نتوهم أن التلميذ سينساق وراء المفهوم المشوِّش، وإذا فشل التلميذ –افتراضا- في هذه المهمة؛ فالنقد حينئذ يجب أن يوجه للمنظومة عامة وللمدرس خاصة، وليس للسؤال التقويمي الذي كشف عن الخلل !
الوجه الثاني: أن تقويم المواقف والقيم وفق الإطار المرجعي؛ لا بد فيه من مشوِّش نقيس من خلاله؛ لأن السؤال سيفقد وظيفته إذا طرحناه بشكل مباشر بدون مشوِّش، فما معنى أن نقول للمتعلمين: دعا فلان إلى تجاوز مفهوم الزواج الإسلامي وتعويضه بمفهوم الزنا. ما رأيك مع التعليل؟ ألا نكون حينئذ كمن يسأل عاقلا؛ هل الإنسان مخلد أم فان؟
الوجه الثالث: أن السؤال لا يستهدف فقط قياس المواقف والقيم؛ بل يقيس في نفس الوقت تقويم المفهوم الشرعي باعتباره حاملا للقيم، وهنا للإنصاف تظهر عبقرية صاحب السؤال، لأن تقويم المتعلم في تحديد خصائص المفهوم الشرعي، مثل القيم أيضا؛ يقتضي أن تشتبه عليه الأمور في سياق معين، ثم نلاحظ نحن؛ هل يتمكن من إزالة الاشتباه والتمييز بين المفهوم الشرعي وغيره أم لا، أما أن يكون السؤال مباشرا أيضا، مثل: عرف المفهوم الفلاني؛ فذاك تقويم استرجاعي يخالف المنصوص عليه في الوثائق الرسمية التي تتبنى المقاربة بالكفايات.
الوجه الرابع: ليس المطلوب من المتعلم أن يكتب مقالا تحليليا في الموضوع؛ بل يكفيه أن يوظف المهارات التي اكتسبها في مادة اللغة العربية، ومنها الإيجاز، إذ يكفي أن يكتب مثلا ما يلي:
لا أتفق مع دعوة نوفل؛ لأن التراضي لا يكفي وحده في إنشاء أسرة مستقرة، فالزنا أيضا يوجد فيه التراضي بين الجنسين، ومع ذلك فهو من أكبر الرذائل في الإسلام، إن الرابطة الوحيدة التي تجمع بين رجل وامرأة هي رابطة الزواج، والزواج يتضمن إلى جانب التراضي؛ أركانا وشروطا أخرى، ويؤسس لعلاقة زوجية تسود فيها الرحمة والمودة، ولا يختزلها في لذة جنسية عابرة كما يتضمن مفهوم العلاقات الرضائية.
وإذن، أين الاستحالة في تقديم الجواب في أربعة أسطر كما زعم البعض !
الوجه الخامس: أن المفهوم الوارد في السؤال (العلاقات الرضائية) ورد في سياق نقدي بناء على تعاقد ضمني بين المتعلم والمادة التي يُختبر فيها، وهو ضرورة استثمار التعلمات المكتسبة في المادة خلال حصص التدريس، وليس سؤالا تقريريا يكرس مفهوما بدل مفهوم آخر، أو سؤالا مفتوحا يجيب فيه المتعلم بما شاء. وأنا على يقين أن السؤال لو ورد معكوسا في مادة الفلسفة مثلا، فقيل: “دعا نوفل إلى رفض مفهوم (العلاقات الرضائية)، وتبني مفهوم (الزواج)؛ ما رأيك مع التعليل؟” لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها؛ لأن السؤال وضع مفهوما شرعيا موضع نقد وتساؤل !!
وهكذا يتضح أن هذا التشويش الإعلامي ليس نقدا بيداغوجيا يسعى إلى تجويد الممارسة التقويمية في المادة؛ بل هو تهويل إيديولوجي يقوم على قناعات شخصية متأثرة بالصراع الفكري بين العلمانيين والمحافظين، وتم إقحامها في هذه الضجة الإعلامية إقحاما، وهي في الحقيقة مجرد أوهام تدثرت بالنقد البيداغوجي وتحولت إلى واقع، تشكك في المقاصد وتدعو إلى سد الذرائع، قال بعضهم: إننا لا نشكك في نوايا واضعي السؤال؛ ولكنهم أساؤوا من حيث ظنوا أنهم يحسنون، ونحن نقول لهؤلاء أيضا، إننا لا نشك في صدقكم وغيرتكم، ولكنكم سقطتم في التحريض ضد المشرفين على هذا الاختبار من حيث ظننتم أنكم تحسنون صنعا، وذلك لما فضلتم وسائل التواصل الاجتماعي قناة للنقد بدل مناقشة القضية في دوائر خاصة متخصصة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.