خطبة الاسبوع:ذكرى 11 يناير في ميزان الشرع

0

الدكتور احمد فاضل :اكادير
الحمد لله رب العالمين، وعد عباده بالنصر والتمكين في الدين، فقال سبحانه وهو أصدق القائلين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] نحمده -جل وعلا- على ما أنعم به على بلدنا المغرب الحبيب من أمن ورخاء، ونسأله سبحانه دوام العافية والاستقرار والهناء، ونصلي ونسلم على سيدنا ونبينا محمد الذي تركنا على المحجة البيضاء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد؛
فقد عودت القراء الكرام أن أضعهم في قلب الأحداث التي تعيشها الأمة الإسلامية عموما، أو يعيشها بلدنا خصوصا، فبعد الحديث عن مولد المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمنسبة ذكرى مولده الغراء، وبعد الحديث عن رأس السنة الميلادية وما يجب على المسلم تجاهها من اعتبار وتذكر بانقضاء الأعمار وسرعة زوال الدنيا وفنائها، بعد هذا كله آخذ بقلوب القراء اليوم إلى ذكرى من أجمل ذكريات مغربنا المعطاء، يفتخر بها الأجداد والآباء، وكل الأجيال القادمة ما بقي لها ذكر في الناس وثناء.
إنها ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، فالشعب المغربي يحتفل بهذه الذكرى ويخلدها في اليوم الحادي عشر من يناير من كل سنة، تلكم الوثيقة التاريخية التي تقدمت بها الحركة الوطنية إلى السلطات الاستعمارية بتوجيهات من أب المقاومة المغربية محمد الخامس رحمه الله وطيب ثراه، في الحادي عشر من يناير من سنة 1944م والتي كان يومُها يوما مشهودا، أظهر فيه المغاربة ترابطهم بين الشعب المغربي بأكمله وراء عاهله المفدى، وصمودَهم في وجه الاستعمار بمنتهى الثبات والإيمان،
ومن باب الوفاء لما قدم آباؤنا وأجدادنا من تضحيات في سبيل الوطن ليعيش آمنا مطمئنا وجب التذكير بجهودهم وأعمالهم الجليلة، وتلك –لعمري- سنة حميدة طلب آباؤنا إبراهيم ربه إياها، قال تعالى على لسانه: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي، أذكر به في الدنيا، بتوفيقي للعمل الصالح، فيقتدى بي في الخير، فأجاب الله دعاءه كما قال: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات 37/ 108- 110] [ينظر التفسير المنير للزحيلي (19/ 172)]
ولنا في رسولنا محمد –صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة الذي كان يقول عن مكة: “مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي منك، ما سكنت غيرك” [صحيح اين حبان من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما]
وحب الأوطان من الإيمان، كما بين لنا الحديث السالف الذكر، وفي حب الأوطان تقتحم المصاعب وترتكب المخاطر، ومن الوفاء
ومن الوفاء لوطننا أن نروي تاريخه لأبناءنا وأحفادنا؛ حتى لا يكونوا مقطوعي الصلة بتاريخهم وإنجاز أجدادهم، وحتى لا يجهل هذا الجيل الصاعد بأن لأجداده تاريخا مشرفا لا يقل عن غيره من الأوطان، يجعله يرفع رأسه شامخا أمام غيره ممن رضوا بالاستعمار واستكانوا له، فأبناؤنا يحفظون تاريخ الثورات المختلفة، عن البلدان الأخرى، بينما إذا سألناهم عن تاريخ ثورات بلدهم لنيل الاستقلال، أو عن عدد الشهداء الذين قدمهم المغرب من أجل تحرير بلاده، أو غيرِ ذلك مما له علاقة ببلدنا، لا نجد الجواب إلا عند قلة منهم، وإنه لمن العار علينا أن ننتمي لوطن نجهل تاريخه.
ولنا -كما أسلفت- في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، فعلى الرغم من أن قومه قد أخرجوه من وطنه وطردوه منه لم ينس تاريخ بلده ووطنه ولم يجهله، وإنما كان به عليما أحسن من غيره، فكان -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم عن تاريخ قريش كفى وشفى، فقد حدث أصحابه عن حلف الفضول فقال: لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدْعَانَ حِلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت» وكان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من قوله وهو مع أصحابه «لقد كان فيمن قبلكم» فقد كان -صلى الله عليه وسلم- موصولا بتاريخه يتذكره دائما ويذكر به صحابته حتى يحفظوه ويبلغوه عنه.
وقد اسنبط علماؤنا من ذكرى 11 يناير دروسا عظيمة.
منها: الجوء إلى الله والاستعانة به سبحانه، لذلك عندما علم المغاربة آنذاك أن قوة الحق من قوة الله، وأن الباطل مهما كان مظهره فهو ضعيف، لجئوا إليه تعالى مستعينين به ومستنصرينه، فوقف الخطباء يذكرون الناس بفضل الجهاد والإنفاق في سبيل الله تعالى، وأهمية الدعاء واللجوء إلى الله، فغصت المساجد بالناس، والتجأت النفوس إلى الله ونادت متضرعة بالنصر وطلب العون.
الدرس الثاني المأخوذ من هذه الذكرى: بيان أهمية الوحدة الإسلامية التي كان يتميز بها الشعب المغربي المجاهد وما زال –والحمد لله- إلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فقد كان الشعب ملبيا لنداء الحق الذي صدع به الملك الهمام محمد الخامس -رحمه الله- معبرا عن ذلك بالمواقف الثابتة، والبطولات الخالدة.. فقد جاء مدد الحق -جل وعلا- وظهر في الانتصارات الباهرة التي حققها الشعب المغربي بيقين وثبات وعزم وطيد وجهاد مستميت، مستلهمين قوتهم وثباتهم من قول الله -تبارك وتعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران139]، وقولِه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ آل عمران173].
فجزى الله عنا رجال هذا البلد خير الجزاء، الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل أن ننعم نحن اليوم بالاستقلال والحرية، وعلى رأس هؤلاء الأشاوس الملكان المجاهدان مولانا محمدٌ الخامس، ومولانا الحسنُ الثاني طيب الله ثراهما، وأسكنهما في فسيح الجنان، وبارك الله في وارث سرهما جلالةَ الملك الهمام مولانا محمد السادس الذي يواصل تقدم وازدهار هذا البلد بالبناء والتشييد في جميع المجالات والميادين، فاللهم انصره نصرا عزيزا تعز به الدين، وتعلي به راية الإسلام والمسلمين، آمين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم ويارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
صوت سوس : الدكتور / أحمد بن محمد فاضل.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.