ذ.عبد اللطيف الصالحي/استاذ باحث بكلية الاداب بمراكش
الحمد لله الذي إذا استكفي بعزته كفى، وإذا استشفي بكلمته شفى، وإذا سئل بواسع رحمته عفا؛ وأصلي على رسوله محمد الكريم المصطفى، وعلى آله وأصحابه، أكرم من نصح له وأخلص ووفى.
وبعد، فإن المتأمل فيما يصدر عن بعض الناس في هذه الأيام المصيرية، من سلوكات معارضة للقرارات المهمة، التي دعت الدولة المغربية إلى الالتزام بها للحد من انتشار هذا الوباء، ليدرك حجم الجهل الذي لازالت فئات عريضة من المجتمع تعيش تحت وطأته، ويزداد الأمر سوء إذا ألبس هذا الجهل لباسا شرعيا، والشرع منه براء.
ومن هذه السلوكات المتهورة، دعوة بعض الجهات المواطنين للخروج في جماعات للتكبير والدعاء برفع هذا الوباء.
وهذا أمر مستحدث لم يثبت عن السلف؛ بل هو:” بدعة حدثت في الطاعون الكبير سنة تسع وأربعين وسبع مائة بدمشق”. وهو ما شهد به ابن بطوطة ( المتوفى سنة: 779هـ) في معرض حديثة عن أيام الطاعون الأعظم بدمشق سنة 749هـ، حيث قال: “اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في الجامع، حتى غص بهم، وباتوا ليلة الجمعة ما بين مصل وذاكر وداع، ثم صلوا الصبح، وخرجوا جميعا على أقدامهم، وبأيديهم المصاحف، والأمراء حفاة. وخرج جميع أهل البلد ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وخرج اليهود بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ومعهم النساء والولدان، وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه. وقصدوا مسجد الأقدام، وأقاموا به في تضرعهم ودعائهم إلى قرب الزوال، وعادوا إلى البلد وصلوا الجمعة وخفف الله تعالى عنهم، فانتهى عدد الموتى إلى ألفين في اليوم الواحد”.
لكن هذا التخفيف الذي ذكره ابن بطوطة، نجد ما يخالفه تماما في شهادة معاصر آخر لهذا الوباء، وهو الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة ( المتوفى سنة: 776هـ)، فقد ذكر بأن الأمر بعد هذا الاجتماع لم يزدد إلا سوء وشدة. قال: “وأما دمشق فإنني كنت بها فشاهدت حالها الحائل وحائطها المائل، ورأيت بها موت الأحبة…وفي شهر ربيع الأول اجتمع الناس على قراءة البخاري وقرأوا سورة نوح بمحراب الصحابة ثلاثة آلاف وثلاث مائة وثلاثًا وستين مرة اتباعًا لرؤيا رآها رجل، ودعوا برفع الطاعون فازداد …ثم نودي في البلد بصوم ثلاثة أيام ثم وقفوا بالجامع كما يفعلون في شهر رمضان ثم خرجوا يوم الجمعة سابع عشر الشهر، إلى مسجد القَدَم فتضرعوا إلى الله تعالى في رفع الطاعون. وخرج الناس من كل فج عميق حتى أهل الذمة والأطفال وانتشروا في الطرقات وأكثروا التضرع والبكاء ولم يزدد الأمرُ إلا شِدّة ً والموتُ إلا كَثْرةً” .
وما ذكره ابن أبي حجلة من تزايد عدد الموتى بالوباء بعد هذا الإجتماع أكده غيره من العلماء، ومنهم الشيخ شمس الدين المنبجي (المتوفى سنة: 785هـ)، بعد إنكاره على من جمع الناس في موضع، فصاروا يدعون ويصرخون صراخًا عاليًا ، وذلك في سنة 764هـ، لما وقع الطاعون بدمشق، حيث قال: “وكان هذا الدعاء والبدع المحدثة قد وقعت قبل هذا الطاعون في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، وخرج الناس إلى الصحراء، ومعظم أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، فكان الطاعون قبل دعائهم أخف، ثم إنه كثر بعد ذلك”.
وتكررت ظاهرة اجتماع الناس لهذا الدعاء بالقاهرة زمن ابن حجر سنة 833هـ، بخروج الناس ” إلى الصحراء بعد أن نودي فيهم بصيام ثلاثة أيام كما في الاستسقاء، واجتمعوا، ودعوا، وأقاموا ساعة ثم رجعوا، فما انسلخ الشهر حتى صار عدد من يموت في كل يوم بالقاهرة فوق الألف، ثم تزايد “.
ولا يمكن تفسير هذا الارتفاع الكبير لعدد الأموات بالطاعون بعد الإجتماع للدعاء برفعه إلا بالإنتقال السريع للوباء من خلال العدوى، وإن كان الفقهاء في هذه الفترة التاريخية يتجنبون ذكر ذلك؛ نظرا للإختلاف السائد آنذاك بينهم حول مشروعية الإعتقاد بحدوث العدوى.
وينقل لنا ابن حجر في كتابه ” إنباء الغمر بأنباء العمر”، اختلاف العلماء في هذه النازلة بعد أن استفتاهم السلطان حول حكمها، قال: ” ولما اشتد الأمر بالطاعون أمر السلطان باستفتاء العلماء عن نازلة الطاعون هل يشرع الاجتماع للدعاء برفعه أو يشرع القنوت له في الصلوات؟ وما الذي وقع للعلماء في الزمن الماضي؟ فكتبوا الأجوبة وتشعبت آراؤهم وتحصل منها على أنه يشرع الدعاء والتضرع والتوبة، وتقدم قبل ذلك التوبة، والخروج من المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم لا يستحضرون عن أحد من السلف أنهم اجتمعوا لذلك إلا أن الاجتماع أرجى للإجابة. وأجاب الشافعي بجواز القنوت، لأنها نازلة وقد صرح الشافعية بمشروعية القنوت في النوازل، وأجاب الحنفي والمالكي بالمنع، وأجاب الحنبلي بأن عندهم روايتين ومن جوزه خصه بالإمام الأعظم في غير يوم الجمعة؛ ثم طلب القضاة والعلماء إلى حضرة السلطان، فقرئت الفتاوى، وفسرها له محب الدين بن الأقصراني، فأجاب: أنا أتابع الصحابة والسلف الصالح ولا أخرج بل كل أحد يبتهل إلى الله تعالى في سره”.
وقال في بذل الماعون: ” ووقع الاستفتاء عن ذلك، فأفتى بعض الناس بمشروعية ذلك، واستند فيه إلى العمومات الواردة في الدعاء. واستند آخر إلى أنه وقع في زمن الملك المؤيد وأجدى ذلك، وحضره جمع من العلماء فما أنكروه، وأفتى جماعة من العلماء بأن ترك ذلك أولى، لما يخشى من الفتنة به، إثباتًا و نفيًا ؛ لأنه إن أجدى لم يأمن خطر الدعوى، وإن لم يُجد لم يأمن سوء الظن بالعلماء والصلحاء والدعاء”.
ووافق رأي ابن حجر قول هذه الفئة الأخيرة، ودليله: أنه لو كان الاجتماع لرفع الطاعون مشروعا لما ” خفي على السلف ثم على فقهاء الأمصار وأتباعهم، في الأعصار الماضية، فلم يبلغنا في ذلك خبر ولا أثر عن المحدثين، ولا فرع مسطور عن أحد من الفقهاء. وألفاظ الدعاء وصفات الداعي، لها خواص وأسرار، يختصّ بها كل حادث بما يليق به. والمعتمد في ذلك الاتّباع، ولا مدخل للقياس في ذلك”.
قيده العبد الفقير إلى رحمة ربه، عبد اللطيف الصالحي، يوم الأحد 27 رجب 1441هـ الموافق ل 22 مارس 2020م، بحاضرة المحيط، في اليوم الثاني من أيام الحجر الإجباري للحد من انتشار هذا الوباء.
كلامك على صواب بارك الله فيك يا استاذ