كتبه / الدكتور الزايدي طويل
لا حديث هذه الأيام إلا عن أعراض الوباء الفتاك ، وأعداد الناس ما بين الحياة والمماة ، وحجم الامدادات والاستعدادات ، وأسباب العصمة والنجاة ، مع انه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، ولا راد لقضائه وقدره إلا هو “وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ” (117 سورة البقرة) وكأننا في استدراج من المعاش إلى المعاد ، وفي استعداد ليوم لعرض والحساب ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
سبحان مبدل الأحوال بين عشية وضحاها ، انهارت الاتحادات ، وتفككت التكثلات ، وتهاوت الاقتصادات ، وانقطعت المواصلات.
فأصبح كل في شأن يغنيه ، ومكث في مسكن يأويه ، وسطر برنامجا يرتضيه ، أو انخرط مع أصحابه في خدمة جيرانه وذويه ، أو تجند فداء لوطنه الذي يحميه، واستنفر لمدافعه البلاء ، وفتح باب الرجاء بالتضرع والدعاء ، وتنافس في البذل والعطاء.
غير أن هناك من استهتر وافترى ، وتضجر وأبى ، وانتهز الفرصة ليتلهى ليلا وضحى ، ويتنقل بين أماكن شتى ، وكأنه في منأى عن العدوى.
وظن البعض أن هذا من أشراط الساعة الصغرى ، ومنازل الآخرة الأولى ، فراح ينطق عن الهوى في حقائق كبرى ، كأنه عند سدرة المنتهى . فلله الآخرة والأولى ، وما ذلك إلا ذكرى لمن أراد أن يتذكر أو يخشى ، وفطن ووعى ، واستعصم بالعروة الوثقى “إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا “(19 المزمل).
إن الناظر في أمر هذا الوباء ، وطبيعة التوقف والسكون ، والمكوث والركون في وقت غير موعود ، مباغث غير معهود ، ولأجل غير معلوم ، يدرك بحق أنه لا حركة ولا سكون إلا من مالك أسرار الكون ” وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (13 الأنعام). ليعلن بعد حين انطلاق حركة ذائبة من جديد ، موصوفة بالاتزان ، والتعقل والانتظام ، تراعي أحوال الأنام ، في اتساق تام.
وتنبه إلى أن العزيز العلام ، متحكم في مصائر الإنس والجان ، فلا حرية متسيبة ، ولا إرادة مطلقة ولا اعتبار لمصلحة شخصية ، ولا مقاربة نوعية .
وتدل أيضا على أن وقف هذه العلاقات والمعاملات الانسانية في هذه اللحظات حصر لانتقال الوباء ، ودرء للمفاسد والآفات وقطع لدابر كل التداعيات. وهذا في بعده المقاصدي ما هو إلا نوع من الاختبار لتقييد حريات الأفراد والجماعات ، التي بلغت مداها في ظل التشريعات والمعاهدات والتوصيات الدولية ، هاته الأخيرة التي لم تعبأ بكثير من القيم والمبادئ الانسانية ، فجاءت هذه الوقفة المفاجئة العاجلة، لتعيد إطلاق عجلة الحرية المتعلقة ، المنضبطة ، المتوازنة ، التي تجمع بين مطالب الروح والجسد ، ومصالح الفرد والمجتمع ، وقيم المعاش والمعاد ومشيئة العباد برب العباد مصداقا لقوله تعالى “وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا” (30 الانسان)
إنها الحرية الواقعية الراقية ، الواعية المسؤولة ، التي تبني ولا تهدم ، تصلح ولا تفسد ، تعمر ولا تخرب ، تحمل الانسان المسؤولية عن نفسه ، وأهله ، مجتمعه ، ومحيطه ، قال تعالى “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (41 الروم).
إن الشعار المرفوع في هذه الظروف “الطهارة سر البقاء ، والوقاية قهر للوباء”، واكبته حملة تطهير الأبدان والأثواب ، والأبنية والأفنية ، والأقنعة الواقية ، فهل حصلت الكفاية من الوباء ؟ وتحققت أسباب البقاء؟
لا أحد يشك في أن الطهارة أخذ بالأسباب المشروعة ، ووقاية معهودة في كل الأقوام والأمم المسبوقة ، ومدافعة للأسقام والأوبئة الممقوتة ، فهذا النبي الكريم والناصح الأمين حثنا على التداوي بقوله “تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء”
وهذا عمر ابن الخطاب صاحب المواقف العظيمة ، والعزائم الجليلة يرد على أبي عبيدة عندما قرر عمر عدم الذهاب إلى بلاد الشام خشية مرض الطاعون الذي عم البلاد ، فقال له أبو عبيدة : أتفر يا عمر من قدر الله وقدره ؟ فقال عمر نعم أفر من قضاء الله وقدره إلى قضائه وقدره.
فإلى جانب الطهارة الظاهرية ، هناك الوقاية الصحية ، وتناول الأدوية الطبية مدافعة أقدار بأقدار خفية وعلنية، كما أن الطهارة المطلوبة تذهب إلى أبعد الحدود إلى أعماق الوجود ، إنها الطهارة المتكاملة بين الظاهر والباطن ، والسر والعلن.
تنطلق من الداخل لتشع في الخارج ، وتصدر من الفرد لتعم المجتمع ، ومن البيت إلى الشارع . إنها الطهارة في شموليتها التي تسهم في دوام النعمة والرخاء وزوال النقمة والبلاء ، قال تعالى “مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (المائدة:6).
طهارة تربينا على الوقاية في كل مجالاتها ، وتكسبنا المناعة في كل مستوياتها ، تتصدى لكل دخيل غريب ، ينخر جسد الفرد والوطن ، ويفتت كيان الأسرة ، ويقطع أوصال الامة ، ويحصن من كل العلل والأسقام ، والآفات والزلات ، والفتن والمؤامرات.
وإذا كان ستر الأعضاء والجوارح البشرية ، مطلوب للاحتراز في ظل الأجواء المعدية ومتمم لكل الاحتياطات الصحية ، في هذه الأيام العصية ، فإن الستر المتين والحصن الحصين من رب العالمين للخلق أجمعين ، في كل مكان وحين ، هو صون للجسد والقلب والجوارح من الأهواء والزفرات ، والعورات المكشوفات ، والنزغات والإغواءات ، لهذا جاءت التنبيهات الربانية ، والتحذيرات القرآنية ، داعية إلى ستر أشمل ولباس أكمل ، قال تعالى “يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ” (سورة الأعراف 26-27) .
إنه تلازم بين الدعوى لارتداء اللباس لستر العورات الظاهرة وبين التقوى للتطهير من الآفات الباطنة ، فكلاهما لباس ، فالأول لستر عورات الجسم وصيانته والثاني لستر عورات القلب وطهارته ، “تلازم بين لباسين ، وجمع بين طهارتين” ، فهل استوعبنا الدرس جميعا من هذا الوباء ، الذي يصيب الله به من يشاء ، ويصرفه عن من يشاء ، وكيف يشاء بما شاء.
وهل أدركنا أسباب الوقاية المطلوبة ، والطهارة الشاملة المقصودة ، وجرعات الأدوية الموصوفة في هذه الأشهر المباركة المعلومة ، سبحانه أقداره عظيمة ، وأسراره بليغة وحكمه جليلة .
“إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (التكوير 29)