ذة. حسناء ابو الطيب تكتب :نساء في زمن كورونا

11

ذة.حسناء ابو الطيب

من الانثروبولوجيا إلى الكورونا
عمل الإنسان منذ بداياته الأولى على محاولة اكتشاف محيطه وما بدواخله،فشرع في دراسة المجتمعات الإنسانية…وشيئا فشيئا ظهر علم الانثروبولوجيا أو علم دراسة الإنسان حضاريا واجتماعيا وطبيعيا، وعنه تفرعت الأنثروبولوجيا النسوية باعتبار المرأة المؤسس الأول للأسرة البشرية،أو هذا ما ذهبت إليه بعض الدارسات في محاولتهن إثبات أن تكوين الأسرة البشرية كان قرارا أنثويا محضا،وأن العشائر الأمومية وجدت قبل نشأة النظام الأبوي، حيث كانت المرأة هي الطرف السائد المتسم بالإحساس العالي بالمسؤولية…فهل جاءت “الكورونا” ليتحول هذا الإعتقاد إلى حقيقة تحول مجتمعنا الذكوري إلى مجتمع أنثوي؟
على سبيل النموذج
أمرت الكورونا بالبقاء بالبيوت حفاظا على صحة وسلامة الوطن ولسلامة من هم خارج بيوتهم لأجلنا، وداخل كل بيت عوالم وأسرار تظل الأنثى هي واسطة عقدها نعم أنت أيتها المرأة هي بسمة الدار ودفئ الأمسية:
ـ وصلتني رسالة صوتية من إحداهن تدعو فيها جميع النساء للدعاء بزوال الفيروس، فالمشكل الأكبر عندها هو بقاء الميكروب طويلا بالبيت (وتقصد بالميكروب زوجها) هي بين نار الصراخ والعنف اللفظي و مزاجية الزوج أو ربما صمت سلبي وطلاق عاطفي قاتل وأيا كان السبب فهذا أمر محزن ،فإذا كان من سبب لتأخر المسلمين (ضمن جملة أسباب طبعا) هو:”عدم معرفة الروابط النورانية التي تربط أهل الإيمان بعضهم ببعض”(1) فكيف لا تتأخر أسرة لا تعرف أن أساس ميثاقها الغليظ: مودة و رحمة؟
يقول المثل الصيني “البيوت السعيدة لا صوت لها” يظل المثل قابلا للنقاش لأن حال أسرنا أغلبها أو بعضها يتكلم بغير ذلك، فوسائل التقاطع الإجتماعي، التي وضعت كل فرد من الأسرة بجزيرة معزولة، صيرت بيوتنا صامتة،”وكما كان نرجس عاشقا لصورته وحدها،فإن الفيسبوكي لا يبحث في الشبكة سوى عن نفسه عن شبيهه أو نظيره،إنه يناضل ويحتج ويتمرد في الإفتراضي، وتلك وسيلته المثلى للتعايش مع واقع يحيط به النقصان من كل الجهات، إن “أنا” واحدة لا تكفي، نحن في حاجة إلى بديل آخر هو الذي يغطي حضورنا في عالم موحش يحيط به الأصدقاء بنا من كل جانب،وهو ما تسميه إلزا غوادار “الأنا الرقمية”، “إننا جميعا ولكن وحدنا” (2)وحدنا ولكن دون خصوصية تحفظ حرماتنا، ولكن هذه الرقمية في عهد الكورونا وظفت أحيانا توظيفا مشينا عزز الشائعات ونشر الخوف والقلق الذي يتحكم أصلا بكائن منذور للموت.
ثم يأتي إنتاج غزير لكوميديا سوداء سخرت من الكورونا رآى البعض عدم جواز ذلك فلا نستقبل الإبتلاء بهكذا مناولة، في حين تقاسمه البعض هروبا من ضوائقهم النفسية، حتى صار بعض الرجال يتقاسمون مباهاة حينا وسخرية حينا آخر أعمالهم المنزلية الأنثوية (المحضة في زعمهم) حتى أن المغالاة وصلت بأحدهم لنشر صورته وقد زين قدميه بالحناء عوض تخضيب لحيته، وقال آخر مازحا الآن فقط اكتشفت زوجتي وأطفالي…
وتظل تجربة الحجر الصحي لصالح النساء لأنها علمت الرجال أن الحفاظ على بيت نظيف مرتب، وإعداد وجبات لذيذة بما فيها الخبز الطري بموازاة العناية بالصغار…أمر يستلزم مجهودا.
لقد أخضعت الكورونا الرجال لاختبار صعب فهذا البيت الذي ضاقوا بجدرانه بعد أيام قليلة من الحجر حتى أن بعضهم اعتبره سجنا تاق للإنعتاق منه واستنشاق نسيم حريته على كرسي في مقهى ، هو نفسه جنة شريكته ملأته حبا وحنانا وعطاء وهي المأمورة بقوله تعالى :”وقرن في بيوتكن”(الأحزاب 33) ،وعجيب أمر الكورونا فقد زكت أرواحنا بعدما دسيت في غفلة الأيام وتعاقب ليلها ونهارها،وأعادت ارتباط أرواحنا بالمناجاة رغبا ورهبا، كما ذكرتنا بخصال فطرتنا كالنظافة والتعقيم وتقليم الأظافر…وما أروع تحية أهل الجنة دون مصافحة ولاعناق..ف”إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا”(الأحزاب 33)
جميلة أنت يا كورونا كيف جعلت بيوتنا قبلة و بها تقام المقارئ القرآنية ومجالس الذكر”قصد التعرف إلى الله والتعريف به، وبأخلاق رسول الله عليه السلام والتحلم بحلمه..وهي مجالس تشهدها الملائكة وتنزل عليها السكينة وتغشاها الرحمة ويذكرها الله فيمن عنده،وليس شيء أفيد منها في تربية الإنسان المسلم على الصلاح والفلاح، وهي من أهم الوسائل التربوية” (3)حيث يتحلق الأطفال منصتين راجين،وقد نتوسل نحن الكبار بأكفهم البريئة لعل الله يرفع عن الإنسانية هذا البلاء فضلا منه ورحمة،وقد تعمد أم للتسبيح على أصابع أطفالها الصغيرة تربية والتماسا للثواب فهي تعلم أن الله تعالى وجل هو مجيب الدعاء ورافع البلاء وهو وحده سبحانه من يجبر قلوب المنكسرين.
لذة العبادة بهكذا صورة تؤكد أن”هذا الدين أساس حضارة عظيمة ولحام أمة مكلومة” (4)ولقد شاهدت وسمعت في عهد الكورونا عن مواقف عظيمة لنساء كثيرات: منهن الأرامل المؤتمات اللواتي سعين جاهدات لتوفير القليل مما يسد الرمق في وقت كدس فيه آخرون السلع والبضائع الوفيرة ومن بعدهم الطوفان، ومنهن من تبكي وحدتها و وحشتها حيث لا زوج ولا ولد وتعلمت أن كتاب الله هو مؤنسها الوحيد، ومنهن من تركت أسرتها وصغارها تحمل مقلتاها فيضا من عبرات لترابط بالمشفى فهي إما طبيبة أو ممرضة، ومنهن من شاركت مؤونتها على قلتها مع جارة فقيرة آثرتها على نفسها ولو كان بها خصاصة، ومنهن من رضيت بتأجيل زواجها بعد طول انتظار وشوق لأن خطيبها في بلاد بعيدة أقفلت حدودها من كل جانب، ومنهن من ودعت مساعدتها بعد أن منحتها أجرة شهر كامل احتسابا لله وخشية عليها من الوباء، ومنهن من غامرت بالخروج طلبا لرزق حلال راضية بدراهمها المعدودة التي تغنيها عن ذل السؤال، تعود بها نهاية اليوم لصغيراتها الأربع اللواتي هجرهن الأب مسود وجهه وهو كظيم، ومنهن من واصلت الساعات ذوات العدد خلف حاسوبها تعلم طلابها مما علمها الله، ومنهن من كابدت آلام المخاض وحيدة ليبقى الزوج مع صغارها الأخر، ومنهن من اكتفت بالنظر لولدها(أو ابنتها ) الموظف بقطاع الأمن من نافذة البيت هو يعلم أن جسد والدته الرؤوم هش كما قلبها وهي تمطره بالدعاء وتشد على فؤادها الذي لم يستطع ضمه… غيرهن كثيرات يعلمن أنهن قطرة من سيل هذه الأمة بل هذه الإنسانية ،هكذا اجتهدن لتجسيد جوهر الإسلام بعيدا عن الطقوسية وعن المكاء والتصدية ولكن كفلسفة حياة حيث تسلم الذات لباريها …
لمساتك رائعة من روعتك
أنت قناة استمرار التدين في المجتمع ،أنت الخبيرة في علم الاقتصاد والتدبير،وأنت الطبيبة المختصة في الطب البديل والعلاج النفسي تخفي هواجسها لترفع المعنويات وتبث الأمل وتخلق السعادة من تفاصيل صغيرة،أنت الفنانة التي تنشر روح الدعابة حينا وتوجه أحايين كثيرة فأنت المسؤولة عن تدبير الاختلافات واحترام آداب الحوار والتواصل، أنت نفسك المعلمة التي تواكب التحصيل العلمي للأبناء، أنت عامل رئيس لتأمين الثقافة والتربية،ولا ننسى أنك الطباخة الماهرة والحبيبة الصابرة… وقبل كل ذلك أنت من تبقين النسمات الربانية و تحيين السنة النبوية، أنت من تطمح أن يرى بيتها لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض… وأسرة بهذا المستوى لا تكون إلا قرارا أنثويا محضا لعمرك (على غرار ما قاله الشاعر تميم البرغوتي):
في البيت من في البيت لكن لا أرى في البيت إلا أنت.
فلتعلمي أنك متفردة أصيلة، أما قلت لك : أنت بسمة الدار ودفئ الأمسية.
ولكن ماذا عن ” الكورونا” التي غيرت العالم دون انقلابات ولا مؤامرات،التي ألغت كل الفوارق العرقية والمادية الزائفة،واخترقت الحدود دون حرب ولا تأشيرة، وهي التي وقفت واعظا لينصت لها الجميع ويقروا بالضعف والاستسلام، هي من ذكر أمة الإسلام أن”من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل،ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة”(5) : كأني بها المقصودة في قول الشاعر:
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى أليس عجيبا ضعفها واقتدارها؟
عنها أقول كلمة جامعة: لا يجب أن تغادرنا هذه العصية إلا وقد أحدثت ذلك التحول العميق فينا،هذا قريب من الكلمة التي تذكرها صاحب رواء مكة:” لقد تحولت،وتذكرت تلك المقولة التي كنت قرأتها في دير الراهبة حريصا في أرباض بيروت: لا ترحل عن هذا المكان إلى أن تتحول”(6)
على سبيل الختم
سيكون لما بعد هذا الوباء أثر في جوانب عديدة من حياتنا منها: إحياء لسنة التدافع و إعادة ترتيب الأولويات ووضع التعليم والصحة في المقدمة وكذا باقي القطاعات الإجتماعية ،الاهتمام بترشيد الإعلام عوض إعلائه من شأن التافهين والساقطين مقابل تغييب العلماء والرساليين من كل المجالات،إثراء البحث العلمي في الطب وعلوم البيئة و في علم الإجتماع…،إعادة الفاعلية للذات المسلمة (كما ذهب لذلك محمد إقبال وسيد قطب وغيرهما)، وإعادة إنتاج ثقافة المجتمع بعيدا عن المنبوذية والقبورية والخضوع المجتمعي للجهل والأمية والتقاليد اللاواعية…ولعلي بن أبي طالب مقولة تهز الوجدان عندما سئل: من أحقر الناس؟ فقال: الذين ازدهرت أحوالهم يوم جاعت أوطانهم.
قد تبدو كلماتي هذه أمشاجا من الوعظ والخاطرة، لكنها تأمل أن نخلق علاقات بينية أكثر عمقا مع تأسيس لوالدية إيجابية وإيجاد حلول عملية وفعالة لمعالجة مشكلاتنا الأسرية التي يشكل كل فرد منها الوسيلة والغاية إذ “التربية هي التنمية بكل أبعادها البشرية والإجتماعية والنفسية والإقتصادية “(7)، وعلى المرأة أن تفقه أدوارها في التنشئة الإجتماعية للطفل والعناية بتغذيته وصحته الجسدية والفكرية بموازاة الإهتمام بنضج شخصيته في جوانبها المهارية والروحية والنفسية … حتى يباهي الرسول بأبنائنا الأمم غدا يوم القيامة، وما نحن فيه فرصة للتوبة من عقوق الوالدين ومختلف المعاصي بما فيها القنوط من رحمة الله وهو الذي خاطبنا سبحانه تأليفا لقلوبنا وتأنيسا لأرواحنا المتعبة بقوله:”قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو التواب الرحيم “(الزمر 50)
وبالتالي على كل أفراد المجتمع وعلى المرأة خصوصا بعد هذه الكورونا أن تسعى للامتلاء بالحركة والمسؤولية والإيجابية وبعث الوعي الدائم على السنن لاستعادة التقدير الذاتي وإحياء الروح الاجتماعية ،وعليها أن تتدثر بقيم المحبة والحياء والجمال والخير ذلك أنها نفس إنسانية مكرمة تؤدي وظيفتها الجوهرية الإستخلافية على المنهج الرباني والتكليف الرسالي.

………………

1-مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية يناير 2010 ( عن الخطبة الشامية لبديع الزمان سعيد النورسي ص20)

2- الإنسان العاري – الديكتاتورية الخفية للرقمية،ترجمة سعيد بنكراد،الطبعة الأولى 2020 ص10
3-ميثاق العهد في مسالك التعرف إلى الله – الدكتور فريد الأنصاري /الطبعة الأولى ص 84
4- رواء مكة سيرة روائية لحسن أوريد. الطبعة الخامسة ص 110
5- رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني، أنظر الحديث رقم 6222 في صحيح الجامع

6-رواء مكة ص 92

أم ريم

قد يعجبك ايضا
11 تعليقات
  1. منال الدوى يقول

    ماشاء الله عليك استاذتي حسناء. دائما متألقة كما عهدناك. كتبت فأبدعت.

  2. سارة باحدو يقول

    ماشاء الله أحسنت أستاذتي الجليلة

  3. سعاد يقول

    مقال جميل جداا

  4. حياة الحسوني يقول

    مقال رئع. وفقك الله أستاذة حسناء

  5. الخلطي سارة يقول

    ما شاء الله عليك اساذتنا الفاضلة متألقة كالعادة

  6. ام بسمة يقول

    تبارك الله مقال في المستوى ابدعت كالعادة مسيرة مفوفقة

  7. ام علي يقول

    اعجبني المقال كثيرا موفقة يا استاذتنا الكبيرة ام ريم

  8. Amina Ouazzani Chahdi يقول

    أحسنت أستاذة حسناء، مقال رائع، يكشف عن مكامن الخلل في علاقاتنا الإجتماعية وهشاشة التواصل بيننا، وتبقى المراة نواة هذا المجتمع الذي يبخس دورها لتتكفل كرونا بوضع النقط على الحروف وتعيد الأمور الى نصابها، بل وأعادت ترتيب مجالاته. بوركت وسلمت أناملك

  9. رشيد يقول

    هي فعلا دراسة انتروبولوجية يستوجب تفصيلها صفحات و ليس سطورا لكنكم استطعت ايصال النقاط المهمة بأسلوب سلس و ممتع,,,

  10. كنو حسن يقول

    بارك الله فيك

  11. Abde يقول

    شكرا الأستاذة الفاضلة على هذه السطور التي بينتي فيها الشرخ العظيم الذي يتعرض له بيت الزوجية و نفضت عنه الغبار جائحة كرونا (نسأل الله عز وجل ان يذهب عنا هذا الوباء عاجلا غير آجل)، ولكن أختاه السؤال المطروح لماذا نجد دائما بيت الزوجية تسوده المصالح بين الزوج والزوجة أكثر من المودة والرحمة و التعاون للحفاظ على الرابطة المتينة بين الزوجين، أذالك راجع في التفكير السلبي للرجل أثناء إختيار الزوجة التي يجب أن تكون موظفة أكثر منها ربة بيت؟ فجل الموظفات تراهن يشتكين من نقص الحنا والعطف نن طرف الزوج و تشتكين غلظة و جلفة الزوج. كيف ما تيقولو بالدارجة تبدل علية بزاااف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.