الإسلام وكورونا، تيسير ومرونة

0

بقلم: محمد قاسمي
من المقررات القطعية أن الإسلام دين البشرية الخاتم، وهو سر هداها وسبب فلاحها وتحقق مناها، ولا شك أنه كذلك لما فيه من الخصائص المؤهلة لذلك، فهو دين يعترف بالمادة وينمي الروح، ويعتبر الحياة الدنيا ويطلب الآخرة، ويخاطب العقل ويلامس الوجدان، وينظم الجماعة ويحترم الفرد، وهو دين يدين الناس به في الرخاء والشدة، والسراء والضراء، إنه دين البشرية بامتياز.
ومن الأوضاع التي يُظهر فيها الإسلام قدرته على الصمود والمرونة: حالات الأوبئة واستثناءاتها في الأيام العصيبة، ولا شك أننا نمر بشيء من ذلك في نازلة الكورونا وما حملتها معها من مفاجآت، وما تمخضت عنها من أحوال، فيها السلبي والإيجابي، فيها السيء والحسن.
لكن المعادلة التي صمدت في ظل أوضاعه هي قدرة الإسلام على التعايش معها دون ضيق ولا حرج، ولا شدة ولا عنت، فكيف ذلك؟
الإسلام والحياة: لم تعرف البشرية دينا جعل للحياة معنى يليق بها مثل الإسلام، فمن مقاصده الأصيلة الإحياء الفردي والجماعي للأمة البشرية لتستأنف مسيرتها وتسنهض عوامل القوة فيها، يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ، ولا شك أن الحياة المقصودة تعم الحياة المادية والمعنوية، فالإسلام احتفى بالصحة وحفظها من جانبي الأوامر والنواهي، الوجود والعدم، فحرم كل ما يضر الإنسان كسبا، ومنع التعرض لما يؤذيه قدرا، فحرم القتل وما يؤدي إليه، ومنع الإنسان من إلقاء نفسه إلى التهلكة بعدم التداوي والتطبب أو بتعريض النفس إلى المهالك بدعوى القدر، {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
والدليل الشاهد على ذلك أن الإسلام في أحكامه في زمن الأوبئة لم يتعامل بتراخ، ولا أمر الناس أن يتجاهلوا الأسباب المادية، بل بالتعامل الرشيد مما نطقت به عمومات نصوصه، وعمل به السلف والخلف مما يقضي بأخذ أسباب النجاة والحيطة من كل سوء ومكروه، وهو ما تم بحمد الله في زمن هذا الوباء، فاحتاط الناس لأرواحهم من هذا المنطلق الإسلامي العظيم.
الإسلام والعبادة: ثم لم يتعامل الفقه بوصفه الجانب العملي للإسلام مع الأوضاع الوبائية بالعزائم ولا أمر الناس بذلك، بل وجدناه رحبا وواسعا في أصوله واختياراته، فمثلا: لم يأمر الناس بالتعرض للوباء بالخروج إلى الجُمَع والجماعات مع تيقن أو غلبة الظن بالإصابة من لهيبه، بل رخص لهم أن يقيموا الصلوات في البيوت حفاظا على أصل الحياة وأصل الصلاة، ولم يضيق الإسلام مفهوم العبادة ويقصرها على الأنساك، بل جعلها شاملة لحياة الإنسان بوصفها أعمالا يرضاها الله تعالى من أقوال وأفعال ظاهرة وباطنة، فجعل أصل العبادة لا ينتقض بحال من الأحوال، فيعبد المسلم ربه في السراء والضراء، والشدة والرخاء، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
الإسلام والعلاقات الاجتماعية: ومن صور العبادة في الإسلام وصل الجوار وبرور الأقارب من ذوي الدماء وصلة الأرحام، ولا شك أن هذه العبادات كلها لم تغيَّب زمن الوباء، بل كان الوباء سببا لتفقدها وتجديد الصلة بها، لأن أوقات الشدة تلجئ إلى مثل هذه العبادات شبه المهجورة، ومن صور هذا الوصل: المهاتفة والمراسلة كتابة وصوتا وصورة (…)، وكل ذلك تعبدا لله تعالى وعونا على تجاوز مثل هذه الأزمات.
كما أن الإسلام حضنا بنصوصه المتواترة لفظا ومعنى على مواساة الفقير والمحتاج، وإعانة المساكين وذوي الفاقة في الأوضاع العادية، ومن باب أولى وآكد حضُّه على ذلك في زمن الجوائح والفتن والابتلاءات، ولا شك أن المسلمين عاشوا هذا التضامن فرادى وجماعات، جمعيات وحكومات …
الإسلام والعلم: ولم يكن التعلم والتعليم والتفاكر والتثقيف استثناء في زمن الوباء، بل برز هذا النشاط العلمي إلى الوجود الافتراضي بعد أن كان حبيس قاعات الدرس والتدريس، فاستفاد منه أهله وغير أهله من المتابعين والمحبين للعلم وأهله، فضلا عن أن الجائحة أعادت للعلم مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه، وهو مكان جعله الإسلام مرموقا بل جعله أحد مداخل التعرف على الحقائق الكونية والدينية وأعظمها معرفة الله تعالى بصفاته وأفعاله، والمتأمل في هذه الجائحة يلفي العلم قد عاد إلى ميدانه ليكون وسيلة مثلى إلى حفظ النفوس باكتشاف العقاقير والأدوية واستحداث الحلول الناجعة لمصلحة الناس أجمعين.
إن حديثنا في هذه السطور المعدودات عن الإسلام زمن الأوبئة والابتلاءات، إنما غرضه التأكيد على شموله، ومرونته، وواقعيته، وصلاحيته لكل زمان ومكان، فالأوبئة تذهب وتجيئ، ويستمر الإسلام دين الناس في جميع الأوضاع والأحوال، ليصدق في هذا قول ربنا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وما يدل على ما ذكرنا أن تتمة هذه الآية حديث عن حال استثنائي وما يمكن أن يلحق الإنسان من ضيق وحرج، غير أن الحل في الإسلام هو المرونة والرخصة والتيسير حفاظا على كينونة هذا الإنسان، يقول ربنا سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه محمد قاسمي

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.