الكاتب: ذ- امحمد بلفضيل
حظيت وثيقة المدينة باهتمام كثير من الدارسين والباحثين، اذ تناولوا كثيرا من قضاياها الحقوقية والقانونية والدستورية بالدرس والتحليل وأبانوا عن ما تكتنزه هذه الوثيقة من قيم ومبادئ تعبر عن حقيقة الاسلام وروحه وفلسفته، غير ان هناك جانبا من جوانب هذه الوثيقة لم يحظ في نظري بالدراسة والبحث كما حظيت جوانب أخرى، اقصد هنا جانب العلاقات الدولية والدبلوماسية في هذه الوثيقة، لهذا أردت من خلال هذه المقالة ان اسلط الضوء على هذا الجانب في علاقته بتدبير الاختلاف. وسأحاول تناول هذا الموضوع من خلال الإجابة على السؤال التالي:
ماهي اهم المبادئ الدبلوماسية التي اعتمدتها وثيقة المدينة في تدبير الاختلاف بين المسلمين وغيرهم من الديانات والثقافات الأخرى؟؟؟؟
للإجابة على هذا السؤال اود ان اشير في البداية الى انه عادة ما يتم التعامل مع وثيقة المدينة على أساس انها دستور دولة ينظم علاقة مواطنين بدولتهم، وهذا صحيح من جهة، ولكن من جهة أخرى يمكن التعامل معها باعتبارها معاهدة دولية تروم تنظيم العلاقة بين دولة الإسلام وغيرها من القبائل والعشائر المجاورة، اذ تشكل هذه الأخيرة تكتلات بشرية متميزة بنظامها الثقافي والفكري وحدودها الجغرافية كأنها دول مستقلة .
فنحن بهذا الاعتبار اذن امام معاهدة ذات صبغة دولية وليس فقط امام قانون محلي ينظم علاقة مجموعة من الافراد فيما بينهم .
وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار وثيقة المدينة الية دبلوماسية سعى من خلالها الرسول صلى الله عليه وسلم الى ضبط العلاقة بين الدولة الإسلامية كدولة حديثة والعشائر والقبائل الأخرى المجاورة لها، وخاصة فيما يتعلق بجانب الاختلاف في شتى ابعاده العقدية والفكرية والثقافية ، الى درجة يمكن القول ان الهدف من وضع هذه الوثيقة أساسا كان هو تدبير هذا الاختلاف بشكل يضمن السلم والسلام والامن والاستقرار.
وعند النظر في هذه الوثيقة نجد انها تضمنت مجموعة من المبادئ والقواعد والتي هي نفسها المقررة في المعاهدات والمواثيق في مجال العلاقات الدولية والدبلوماسية.
وسأحاول فيما يأتي رصد بعض هذه المبادئ والقواعد كالاتي:
المبدأ الأول: الحوار والتفاوض:
لعل اهم مبدا يتم الحديث عنه في العلاقات الدبلوماسية والذي عبره تلجأ الدول والحكومات الى معالجة مجمل الاختلافات وحل المشاكل والنزاعات هو مبدا التفاوض والحوار حيث نجد ان هذا المبدأ يحتل حيزا هاما في الادبيات الدبلوماسية كميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي العام، جاء في المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة”يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة…”
ووعيا من الرسول صلى الله عليه وسلم بأهمية الحوار والمفاوضة في تدبير الاختلاف حتى لا يتطور الى نزاع يهدد الامن والاستقرار نجده عليه الصلاة والسلام عندما هاجرالى المدينة وقبل ان يضع وثيقة المدينة اجرى حوارات ومفاوضات مستفيضة ليس مع رؤساء قبائل المسلمين فحسب بل أيضاً مع زعماء وممثلي الجماعات الأخرى من غير المسلمين. كان الاجتماع الأول مع المسلمين في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه ثم مع زعماء المسلمين واليهود في بيت بنت الحارث حيث تم التفاهم على المبادئ الأساسية لـ«دولة المدينة» الجديدة.
لا شك أن كِلا الاجتماعَين جريا في جو من الحوار الحُر، فقد طرَح ممثلو الجماعات المختلفة طلباتهم وأَولوياتهم، واستمعوا إلى آراء الآخرين وتحادثوا فيما بينهم وحددوا النقاط الأساسية والإطار المشترك ثم سُجِّلَ مَتن هذا الإطار.
ان الحوار باعتباره وسيلة دبلوماسية لتدبير العلاقات مع الاخر كان دائما حاضرا في سياسة الرسول صل الله عليه وسلم ليس فقط مع اليهود الذين جادلوه وحاوروه بكل قوة والقران ملئ بهذا النوع من الحوارات والنقاشات وانما كان كذلك مع مشركي العرب من قريش وغيرهم، وصلح الحديبية الشهير كان حدثا تاريخيا هاما برزت فيه تعاليم الاسلام السمحة المبنية على الحوار والجدال بالتي هي احسن.
المبدا الثاني:ابرام المعاهدات والاتفاقيات:
ان الدول الحديثة اليوم في تدبير علاقاتها مع الدول الأخرى تستند في كثير من الأحيان الى ابرام معاهدات واتفاقيات تطال مجموعة من الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه المعاهدات تسمح بإنشاء علاقات التعاون وتبادل الخبرات والتجارب وبناء علاقات ود واحترام .
ومن هذا المنطلق وجدنا ان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما انشا دولته في المدينة كان اول شيء بادر اليه هو ابرام معاهدة المدينة التي سعى من خلالها الى ضبط العلاقة مابين الدولة الإسلامية الحديثة وجيرانها من العشائر والقبائل من مشركي العرب ويهود يثرب -كما تم بيانه-، بل نجد ضمن بنود هذه الاتفاقية التنصيص على حق الجار، فقد جاء في المادة :41 “وإنّ الجار كالنّفس غير مضار ولا آثم”.
ولاشك ان سياق هذه المادة يشي بان الجيران المقصود بهم هنا هم اليهود والقبائل العربية المتاخمة للمدينة.
ان ما قام به الرسول صلى الله يشبه الى حد كبير مايسمى في العلاقات الدبلوماسية الحديثة باتفاقيات حسن الجوار، وهذا النوع من الاتفاقيات تجريه الدول فيما بينها لانه يسمح بإقامة علاقات سلم وشراكة وتعاون.
ويمكن ان نذكر فقط على سبيل المثال العديد من الدول التي اقامت مثل هذا النوع من الاتفاقيات:
– اتفاقية حسن الجوار بين الصين وروسيا سنة 2001
-اتفاقية حسن الجوار التي عقدت بالجزائر بين العراق وايران سنة 1975 .
– اتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين المغرب واسبانيا سنة 1991.
ان الهدف من عقد اتفاقيات حسن الجوار هو إقامة علاقة بين الجارين أساسها التعاون والاحترام المتبادل بما يمكن من حفظ السلام واستتباب الامن والاستقرار.
المبدا الثالث: تحديد المرجعيات القانونية لفض النزاع عند حدوثه:
ان العلاقات الدولية الحديثة تقوم اليوم على مجموعة من المرجعيات القانونية التي يرجع اليها عند الاختلاف او النزاع، فالعلاقات بين الدول تخضع لمقتضيات مجموعة من المواثيق و القوانين، كالقانون الدولي العام وميثاق الأمم المتحدة واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقانون الدبلوماسي الدولي.
فهذه المواثيق والقوانين تشكل مرجعية حاكمة عند أي خلاف او نزاع بين دولة وأخرى من دول العالم، وكل دولة خالفت مضامين هذه المرجعيات قد تعرض نفسها لعقوبات دولية قاسية.
ونظرا لأهمية هذا العنصر في ضبط علاقات الدول وإرساء علاقتها على الوضوح والشفافية نجد ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذا الجانب في وثيقة المدينة فقد نص وبشكل صريح في المادة 45 على” انه ماكان بين اهل هذه الصحيفة من حدث او اشتجار يخاف فساده فان مرده الى الله والى محمد رسول الله…”
واضح ان المادة 45 من الوثيقة جعلت القران الكريم القانون الأول الذي يجب الرجوع اليه في حل ماقد ينشب بين الدولة الإسلامية والقبائل الأخرى من خلاف او نزاع، وجدير بالذكر هنا انه من المستبعد جدا ان يكون قصد الرسول صلى الله من هذا الاجراء- كما قد يتبادر الى الفهم- هو اخضاع الاخرلسلطته والتحكم فيه لتحقيق مصالحه، والظاهر ان قصد الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو تحديد مرجعية عليا يلجا اليها في حسم أي نزاع محتمل، ولاشك ان القران باعتباره الكلام المنزل من عند الله وبما يتضمنه من الدعوة الى قيم العدل والمساواة والإحسان الى الاخر لاشك انه يمثل المرجعية الاسمى التي يجب الاحتكام اليها في فض أي نزاع وحل اي خلاف.
هذه اذن بعض المبادئ الدبلوماسية التي حاول من خلالها ان يحتضن الرسول صلى الله عليه تعدد الاثنيات والثقافات في المدينة وما جاورها، والأكيد ان الوثيقة تتضمن مبادئ وقيم أخرى ليس في الجانب الدبلوماسي فحسب بل في كل المجالات الاجتماعية والسياسية، وتبقى هذه الوثيقة مفتوحة على كل القراءات المتجددة والتي يمكن من خلالها التأصيل لقيم إنسانية نبيلة لتحقيق مجتمع انساني تسوده مبادئ الحرية والتسامح والعيش المشترك.