مستقبل المدرسة في ظل التحول الرقمي: نحو مسار للتفكير الراشد

0

د.خالد الصمدي

وصلني عبر نشرة خاصة خبر يفيد أن خبراء شركة غوغل يضعون لمساتهم النهائية لإطلاق برنامج غوغل الدراسي الإشهادي العالمي الرقمي بعد فترة تجريبية ،
هذا العرض التعليمي الرقمي سيقترح على الآباء و الأمهات إمكانية اختيار مسار أبنائهم الدراسي ومدة الدراسة التي تناسبهم من مقر إقامتهم، من الخطوة الأولى في التمدرس إلى التخرج ، مع خضوع كفاياتهم للتقييم المنتظم عن بعد ، وضمان حقهم في التوجيه والإرشاد الى المهن الأكثر جاذبية في سوق الشغل برؤية مستقبلية ومستوى الكفايات المطلوبة لولوجها، دون أن يحرموا في نفس الوقت من حقهم في التواصل مع جماعة الأقران من خلال برامج عمل مشتركة لتطوير مهاراتهم الاجتماعية والتواصلية ،
يتوج كل ذلك بالحصول على شهادات معترف بها من المدارس والجامعات المعتمدة والتي تعمل بالنمط الحضوري التقليدي أو عن بعد ،
وفي هذا الإطار تفيد العديد من التقارير ذات الصلة برصد التحولات التي يعرفها حقل التربية والتعليم خاصة في ظل التغيرات التي أحدثتها التكنولوجيات الرقمية على حياة الإنسان المعاصر، أن هناك علامات جدية على دخول النموذج التقليدي للمدرسة في تحولات عميقة في الأمد المنظور ، بعد أن أصبح إصلاح نموذجها البيداغوجي من الداخل مكلفا جدا للدول بالمقارنة مع المردودية التي تنتظرها منه في المستقبل ،
فالاتجاه نحو العرض التعليمي الرقمي الذي يعرف توسعا تدريحيا على شبكة الانترنيت سيمكن من خلخلة مجموعة من المسلمات في بنية المنظومات التربوية:
وهكذا يتوقع أن تحدث العروض التعليمية الرقمية تحولات عميقة في الزمن الدراسي التقليدي في اتجاه الاختزال وحسن الاستثمار ، حيث ستضمن هذه العروض لروادها خيارات متعددة لزمن التعلم تراعي الفروق الفردية للمتعلمين مما سيمكن من إنصاف الموهوبين من جهة ، وباقي المتعلمين من اختيار مسارهم الدراسي وتكييف نظام الدراسة مع حاجتهم وإمكاناتهم وقدراتهم دون ضغط إلا من الرغبة الذاتية في التعلم ومقدار الجهود التي يعبؤها كل متعلم على حدة ،
كما انه من المتوقع أن تحقق هذه العروض مستويات متقدمة من الإنصاف وتكافؤ الفرص والحصول على الحد الأدنى المطلوب من كفايات التعلم لدى أطفال العالم في مختلف الظروف شريطة ضمان الولوج المنصف والعادل إليها ، وفي هذا السياق ستمكن التكنولوجيات الحديثة المنظمات الدولية من تجاوز صعوبات تدبير التعليم في المناطق النائية وذات الخصاص ، وتأمين التعلم في ظل الأزمات خاصة في مناطق النزاعات وتلك التي تعيش حالة الطوارئ الأمنية او الاقتصادية أو الصحية ،
أما على مستوى التمويل فمن المتوقع أن توجه الدول والمنظمات المانحة الاعتمادات المالية المخصصة للتعليم أكثر فأكثر إلى الاستثمار في الولوج المنصف الى التكنولوجيات الحديثة وإنتاح الموارد التعليمية الرقمية ضمانا لحق الجميع في الولوج المنصف والجيد للتعليم عن بعد،
وعلى المستوى القانوني والتشريعي يتوقع أن ينتهي بالتدريج زمن النصوص التنظيمية الخاصة بتدبير النموذج التقليدي للمدرسة خاصة ما تعلق منها بتدبير الموارد البشرية وتسيير المؤسسات ، وسيخف دفتر النصوص التشريعية حيث سيتم الاقتصار على القوانين المؤطرة التي ستتوجه أكثر فأكثر إلى الإرساء التدريحي لهذا النموذج الجديد للتعلم ،
على المستوى البيداغوجي سيتم التركيز أكثر فأكثر على تنمية المهارات والقدرات المنهجية المؤهلة للحياة أكثر من المعلومات والمعطيات العامة ، وسيتم التركيز على تطوير أنماط وشبكات ومؤشرات التقييم ، وأنظمة الإشهاد والتصديق على الكفايات ، ومعادلة الشهادات وحركية التكوينات ، مع ظهور وتطور التكوين البينمؤسساتي ، الذي سيهدم الجدران بين المؤسسات التعليمية خاصة في التعليم الجامعي ،
ستكون أمام المدرسة التقليدية فرص لا تعوض لتغير جلدها و تحويل مسارها إن أرادت الصمود والاستمرار ، بحيث ينبغي أن تصبح فضاء يركز على التربية أكثر من التعليم ، ببرامج تستهدف تنمية المهارات الناعمة Soft skills والتدريب عليها، وتضمن التنشىة الاجتماعية الصحية والبيئية والرياضية والثقافية السليمة ، والتربية على قيم المواطنة وحقوق الانسان والتواصل وتدبير الاختلاف بين الأفراد والمجموعات بعد أن يتخفف عبؤها العلمي والمعرفي الى مستوياته الدنيا بعد أن اقتحمته الرقمنة من أوسع أبوابه ،
أما على مستوى الموارد البشرية فقد أضحى التكوين في البيداغوجيا الرقمية رهان المستقبل بالنسبة لكل الفاعلين في المنظومة منا سيمكن الإطار التربوي الواحد من تغطية حاجيات أكبر عدد ممكن من المتعلمين ، خاصة مع ازدياد الطلب على التعليم ،
كنا يتوقع أن تنقرض مهن إدارية وبيداغوحية كثيرة ، وستعوض بمهن التدبير والتواصل والتأطير والتقييم الرقمي ، والتطوير والمواكبة والتتبع والجودة ،
أما على مستوى البنيات والتجهيزات والوسائط التعليمية ، فسيخف الاهتمام بالنقل المدرسي والداخليات والأحياء والمطاعم الجامعية والبنايات المدرسية والمدرجات الكبرى ، وسيختفي الكتاب المدرسي الورقي والحقائب التعليمية ، وستعوضها بالتدريج مؤسسات متخصصة في إنتاج الموارد الرقمية ، مزودة بآليات تدبير التعليم الافتراضي والتقويم عن بعد ، حيث ستزداد الحاحة إلى تكوين متخصصين في إرساء البرامج التعليمية الرقمية وأنظمة التقويم وتتبع تنفيذها ler évaluateurs
وعلى مستوى التكوين الجامعي والبحث العلمي يتوقع أن تختفي التخصصات التقليدية المعروفة في الجامعات تدريحيا وتظهر عوضها أسماء تخصصات وتكوينات أخرى طابعها الاهتمام بالكفايات المنهجية الأفقية المندمجة القادرة على تمكين الخريحين من التكيف السريع مع تحولات سوق الشغل أثناء مسارهم المهني،
وعلى مستوى البحث العلمي بالإضافة إلى التطورات التي ستعرفها مجالات البحث العلمية والتقنية بفعل الرقمنة ،يتوقع أن تولي الجامعات ومؤسسات البحث اهتماما أكبر بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وتوجيهها الى ضرورة تضييق هامش التنظير ، والتركيز على الدراسات التطبيقية الميدانية المتخصصة في رصد ومراقبة التطورات وحسن قراءة المؤشرات الدالة على التحولات المجتمعية والدولية واتجاهاتها واقتراح البدائل في ضوئها ، وعرض خلاصات أعمالها على صناع القرار السياسي والاقتصادي لبناء استراتيجيات التطوير وتوجيه الاستثمار ،
أما على مستوى ممارسة مهن المستقبل فلن تتطلب بالضرورة التنقل الى أماكن العمل سواء داخل الوطن أو خارجة ، حيث يمكن لمهندس أو أي إطار أن يمارس عمله في أمريكا من المغرب وأعرف اليوم عددا من هؤلاء يشتغلون بهذه الطريقة ، ويمكن لكل واحد أن يمارس أكثر من مهنة في وقت واحد بحسب قدراته وكفاءاته ، كما يمكنه أن ينتقل بين مهن متعددة خلال مساره المهني الافتراضي ، الذي قد يصل إلى 40 سنة ، مع اختفاء شىء اسمه سن التقاعد الذي سيصبح قرارا شخصيا وخيارا فرديا حرا ،
إنها تحولات عميقة تحث تقارير المنظمات الدولية على ضرورة التفكير الجدي فيها والاستعداد لها بالموازاة مع التدبير الإعتيادي للنموذج التقليدي للمدرسة بمفهومها الواسع الذي ينبغي أن يدخل في إطار تحولات عميقة في أدواره ووظائفه ،
لقد دخل العالم منذ بداية عصر الانترنيت بالتدريج إلى التعليم الهجين ( حضوري وعن بعد ) والمتعلم أضحى ينجذب بسرعة الى كل ما هو رقمي ويمل من الفضاءات التقليدية للتعلم ،
وليس ذلك سوى علامة فارقة على بداية أفول النموذج البيداغوحي التقليدي وبزوغ فجر النموذج الجديد ،
فهل تأخذ الدول النامية ومنها معظم دول العالم الاسلامي حذرها واستعداداتها حتى تتكيف مع هذه التحولات،؟ أم ستظل غارقة في التدبير اليومي لمنظوماتها التربوية بنموذجها البيداغوجي التقليدي بعيدا عن أي تفكير استراتيجي حتى تفاجأها هذه التحولات وتصطدم بها فتجدها دون عدة ولا عتاد ؟
وهل يمكن للمنظمات الدولية المتخصصة في التربية والتخطيط الاستراتيجي أن تواكب هذه الدول وتقودها في هذا المسار إلى سبيل الرشاد ؟

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.