رمضان ومقصد الالتزام

0

الدكتور/ يوسف عطية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
إن الأزمة الحقيقية في تمثل التكاليف عند المكلفين عموما، تبرز عندما تتحول العبادة في تصورهم إلى عادة مألوفة لا يستشعر معها المكلف قيمة العبادة وأهميتها، ولا يدرك غاياتها ومقاصدها؛ أو حتى إن أدرك ذلك نظريا فإن تحول العبادة عنده إلى عادة، يجعله يخفق في أدائها على حقيقتها عمليا، مما يحرمه من الظفر بمقاصدها وتحقيق مخرجاتها. وعبادة الصيام جزء لا يتجزأ من منظومة التكاليف التي ينبغي فيها الانتباه لهذا الأمر، بل خصوصية هذه العبادة تتطلب عناية خاصة من قبل المكلفين بها فتأمل.
إن المتأمل في حقيقة شهر الصيام يجد أنه شهر التدريب على الانضباط والالتزام بامتياز، ذلك أن ما يستصحبه معه من قيم وآداب وأحكام، وقبل ذلك من أجواء ونفحات ربانية ظاهرة وباطنة، كل ذلك يوحي حقيقة، أن هذا الشهر هو شهر الانضباط والمسؤولية والالتزام، قال(“إذا جاء رمضان فُتّحـت أبواب الجنة، وغُـلّـقـت أبواب النار، وصُفّـدت الشـياطين”[أخرجه مسلم]فالأرض كلها تستعد لاستقبال هذا الضيف الكريم، الذي جاء لإكرام المؤمنين، عكس ما تقتضيه القاعدة من كون الضيف هو الذي يتم إكرامه.
إن آيات الصيام في سورة البقرة تؤكد أن المقصد العام من هذه العبادة ابتداء هو تحقيق التقوى، وما هاته الأخيرة في جوهرها إلا انضباط والتزام؛ وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي والابتعاد عن كل ما يغضب الله عز وجل، قال سبحانه﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[سورة البقرة 183]، وقال بعدها ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[سورة البقرة 185]
إن المتأمل في الآية الأخيرة يدرك أن الانضباط يبدأ من رؤية الهلال بل ينبغي التحري والالتزام في رؤيته، بما يجعل المؤمن يستشعر قيمة ما هو مقبل عليه.
وأنظر إلى هذا الحديث المليح الذي رواه أبو هريرة وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما-والذي يوضح بجلاء ما نحن بصدد بيانه- قال(“…والصِّيامُ جُنَّةٌ فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فَلاَ يرفُثْ ولا يصْخَبْ فإِنْ سابَّهُ أَحدٌ أو قَاتله فَليقُلْ إِني صائِمٌ”. إن المتأمل لهذا المقطع الذي توسط المتن الكامل للحديث بشكل يشكل معه منزلة القلب من الجسد، يجد أن مقصد الانضباط واضح فيه، ذلك أن الصيام الحقيقي يعتبر”جنة” في ذاته، أي وقاية بما تدل عليه الكلمة من معاني؛ وأن الصائم صياما منضبطا لا يجوز في حقه ما قد يقع فيه غيره ممن لم يفهموا حقيقة عبادة الصيام؛ من رفث أو صخب أو فجور أو مقابلة سيئة بمثلها.
إن قمة الانضباط انطلاقا من الحديث السالف الذكر، هي عندما يصل المؤمن إلى درجة التحكم في ذاته ونزواته ولا تصدر عنه ردود أفعال مماثلة لمن أساء إليه-ليس لأنه غير قادر على الرد عليه- ولكن لأنه بلغ درجة عالية من الانضباط وفهم مقاصد الصيام بشكل جعله يضبط جوارحه ويتحكم فيها لا العكس، ويسعى جاهدا نحو نيل الجائزة العظمى من الصيام”مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”[أخرجه البخاري ومسلم].
إن حقيقة الصيام أو الصيام الحقيقي لا يتأتى-فقط-من خلال الامتناع عن المباحات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بل هو -بالإضافة إلى ذلك كله- انضباط استثنائي على غير العادة، وليس معنى ذلك أن التقوى المطلوبة في رمضان غير مطلوبة في باقي الايام، لكن حضورها بشكل استثنائي ومركز خلال شهر الصيام، هو أشبه ما يكون بدورة تدريبية أو معسكر تدريبي يجعل الجندي بعدها قادرا على خوض غمار الحرب بعزيمة قوية وقدرة على مغالبة العدو؛ وذلك هو الضامن لاستمراريتها في باقي الأيام بعد شهر رمضان، والقيم الناتجة عن ذلك لا تنتهي بانتهاء أيامه ولياليه؛ ولكنها تبرز بعد خروج شهر رمضان ليظهر الفرق جليا بين من كان صيامه على صراط مستقيم وبين من كان على غير ذلك.
فاللهم اجعلنا ممن صام رمضان ملتزما بأحكامه ومستفيدا من مقاصده وحِكَمِه.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.