الأمة الواحدة: ووحدة البناء

0

أعده ذ: عبد الرحيم مفكير

سننطلق في تحديد معالم هذا الموضوع المتواضع اعتمادا على الحديث النبوي الشريف، وما يخدم مضمونه ويحقق مراميه وأهدافه، راجين أن نساهم في التعرف على قواعد لبناء الأمة وتثبيت وحدتها وتماسكها كي لا ينفرد بها المتربصون والحاقدون، وينتبه الغافلون والمستلبون، ويثبت المؤمنون الصادقون. فعن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” والحديث في صحيح البخاري في كتاب الأدب: باب رحمة الناس والبهائم حديث 6011.

وصحيح مسلم في كتاب البر والصلة: باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم حديث 2558. ويسبقه حديث: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وجاء بصيغة أخرى: المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر”. وقوله عليه السلام ” المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله”. قال أهل العلم ” هذا الحديث صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه. وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام. وهذا منهج نبوي سديد ومعروف، فقد ضرب الله الأمثال في غير موضع، ونذكر على سبيل المثال لا العد والحصر: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، كمل الأترجة: ريحها طيب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مر. وقوله عليه السلام ” مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة وجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون لولا هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيئين” ” مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا( اقتسموا بالقرعة) على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”.

هذا حديث عظيم، فيه الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمنين أنهم على هذا الوصف.

لقد جاء الإسلام فوجد أهل الجاهلية، تحكمهم عادات وتقاليد، بعيدة عن شرع الله ومنهاجه، فبدل الله من فساد العقيدة، إلى صحيحها، وجعل لهم مرتكزات للقوة. كانت الفئة المهتدية بهدي الإيمان أقوى تماسكا ومتانة من غيرها.

والمسلم عليه أن يعرف مكامن القوة والضعف في الجماعة المسلمة الأولى التي صاحبت التغيير النبوي الذي أحدث قفزة نوعية في تغير مسار الأمم من بعدهـا، وأصبح لأهل الإسلام مكانة لم تكن لهم ولا لغيرهم في سالف الأزمان. فأصبحوا أعزة بعد ذلة، وأهل فضل وخير ورحمة، وتماسك، بعد فرقة وضلال، واستغلال واحتقار.

مكامن القوة:

وحدة في المنهج، والوجهة، والعقيدة، وتماسك في البناء. ” والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا …. فعباد الرحمان اتصفوا بصفات لم يتصف بها غيرهم، وتربوا على يد أفضل الخلق عليه السلام، فكانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار. قبلتهم واحدة، وربهم واحد، ودينهم واحد، وعقيدتهم واحدة. تتجلى مظاهر الوحدة في أقوالهم ، وخطابهم المتميز عن غيرهم دعاة رساليون للحق، وأفعالهم تدل عن حسن صنيعهم وقربهم من ربهم، رهبان وفرسان، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.دعاة إلى دين الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة المتزنة، والنصيحة، والقدوة، والابتسامة الصادقة. لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، كبيرهم، وصغيرهم، شريفهم وأذناهم، أفضلهم، وأكرمهم عند الله أتقاهم” إن أكرمكم عند الله أتقاكم” أهل الإيمان به يرفع الله أمما، ويحط آخرين.

إنه البناء المتين: بناء العقيدة الصحيحة السليمة، التي تستعلي عن النسب، والدم. وإذا تعارضت عقيدة رابطة الدين والتوحيد، مع رابطة وآصرة القرابة غلبنا عقيدة وآصرة الدين، ويتجلى ذلك من خلال قصتي إبراهيم مع أبيه، ونوح مع ابنه، ومحمد عليهم أفضل الصلاة والتسليم مع عمه.

بناء متماسك، وحدة في الدين مثلها الأنبياء بالرغم من اختلاف شرائعهم قال تعالى” شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه” الشورى الآية 13. وحدة في الانتماء لهذا الدين، ومساواة في الحقوق وأداء الواجبات، ووحدة في المنهج الذي يسير عليه المنتسبون لهذا الدين، ولوازم للاتصاف بالصفات الحميدة التي جاءت في كتاب الله، وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام.

مواصفات أهل الإيمان:

قال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما” الفتح 29. وقوله سبحانه: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون. والذين هم للزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. والذين هم على صلواتهم يحافظون. أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالون” المؤمنون 1-11 انظر إلى متانة البناء، والتماسك في البنيان، إن الآية 29 تضمنت خصائص المجتمع المؤمن المؤهل لنصر الله والمستحق للفتح، تصف الآية أخلاق أهل الإيمان الرفيعة، والمنهج الذي تربوا عليه.

سبل المحافظة على وحدة الأمة وتماسك البناء:

سلامة العقيدة: أي عقيدة الإسلام” قوة الإيمان، وصلاح النفس، وتزكيتها” لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” وقوه عليه السلام ” ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان..” نشر المحبة بين الناس، ونبذ الفرقة ” واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا الآية” شيوع الرحمة والمودة: داخل الأسرة، وفي الحي، ومع الجيران، والأقارب، والمجتمع. رحمة بالمؤمنين، والوالدين، والأطفال، والخدم، والعصاة، وبالجسد، وبالناس أجمعين..

الاهتمام بقضايا الأمة، والتفكير في همومهم واعتباره واجبا دينيا. والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويومنون بالله ضمان حقوقهم: وقد ضمن الإسلام الحقوق العامة كحق الحياة، والمساواة، والحرية، والعمل، وحق الجنين في بطن أمه، والحيوان غير المؤدين وحقوق الأجير والمستأجر، وذوي الحاجات الخاصة،.. وقدم عليه السلام نماذج ومواقف في رعاية هذه الحقوق، ومنها: تخفيفه الصلاة حين سماع بكاء الطفل، وحمله الدائن على التخفيف على المدين،وإلحاقه الإثم بمن ضيع حق اليتيم والمرأة، ودعوته لصلة الرحم، وبره عليه السلام بأصدقاء أم المؤمنين خديجة، وزيارته خادمه الغلام اليهودي حين مرضه، وبسطه الرداء لأبويه من الرضاعة وأخته منها..وغيرها كثير لقد تضمن الحديث الحث على المحافظة على البنيان ” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه” متفق عليه وأن يكونوا إخواناً متراحمين متحابين متعاطفين، يحب كل منهم للآخر ما يحب لنفسه، ويسعى في ذلك، وأن عليهم مراعاة المصالح الكلية الجامعة لمصالحهم كلهم، وأن يكونوا على هذا الوصف فإن البنيان من ذلك لا يقوم بمفرده حتى ينضم بعضها إلى بعض المجموع من أساسات وحيطان محيطة كلية وحيطان تحيط بالمنازل المختصة، وما تتضمنه من سقوف وأبواب ومصالح ومنافع. كل نوع من ذلك لا يقوم بمفرده حتى ينضم بعضها إلى بعض. كذلك المسلمون يجب أن يكونوا كذلك. فيراعوا قيام دينهم وشرائعه وما يقوِّم ذلك ويقويه، ويزيل موانعه وعوارضه.

فالفروض العينية: يقوم بها كل مكلف، لا يسع مكلفاً قادراً تركها أو الإخلال بها. وفروض الكفايات: يجعل في كل فرض منها من يقوم به من المسلمين، بحيث تحصل بهم الكفاية، ويتم بهم المقصود المطلوب. وقال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وأمر تعالى بالتعاون على البر والتقوى فالمسلمون قصدهم ومطلوبهم واحد، وهو قيام مصالح دينهم ودنياهم التي لا يتم الدين إلا بها. وكل طائفة تسعى في تحقيق مهمتها بحسب ما يناسبها ويناسب الوقت والحال.

ولا يتم لهم ذلك إلا بعقد المشاورات والبحث عن المصالح الكلية. وبأي وسيلة تدرك، وكيفية الطرق إلى سلوكها، وإعانة كل طائفة للأخرى في رأيها وقولها وفعلها وفي دفع المعارضات والمعوقات عنها، فمنهم طائفة تتعلم. وطائفة تعلم، ومنهم طائفة تخرج إلى الجهاد بعد تعلمها لفنون الحرب. ومنهم طائفة ترابط، وتحافظ على الثغور، ومسالك الأعداء. ومنهم طائفة تشتغل بالصناعات المخرجة للأسلحة المناسبة لكل زمان بحسبه.

ومنهم طائفة تشتغل بالحراثة والزراعة والتجارة والمكاسب المتنوعة، والسعي في الأسباب الاقتصادية، ومنهم طائفة تشتغل بدرس السياسة وأمور الحرب والسلم،.وما ينبغي عمله مع الأعداء مما يعود إلى مصلحة الإسلام والمسلمين، وترجيح أعلى المصالح على أدناها، ودفع أعلى المضار بالنزول إلى أدناها، والموازنة بين الأمور، معرفة حقيقة المصالح والمضار ومراتبها وبالجملة، يسعون كلهم لتحقيق مصالح دينهم ودنياهم، متساعدين متساندين، يرون الغاية واحدة، وإن تباينت الطرق، والمقصود واحد، وإن تعددت الوسائل إليه. فما أنفع العمل بهذا الحديث العظيم الذين أرشد فيه هذا النبي الكريم أمته إلى أن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. ولهذا حث الشارع على كل ما يقوي هذا الأمر، وما يوجب المحبة بين المؤمنين، وما به يتم التعاون على المنافع، ونهى عن التفرق والتعادي، وتشتيت الكلمة في نصوص كثيرة حتى عد هذا أصلاً عظيماً من أصول الدين تجب مراعاته واعتباره وترجيحه على غيره والسعي إليه بكل ممكن. فنسأل الله تعالى أن يحقق للمسلمين هذا الأصل ويؤلف بين قلوبهم، ويجعلهم يداً واحدة على من ناوأهم وعاداهم.. إنه كريم.” انظر بهجة قلوب الأبرار”

 

العودة إلى مقالات

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.