البناء والهدم في الإصلاح الإسلامي المعاصر

0

malkawoui 4e50d

بقلم فتحي حسن ملكاوي

الحلقة الثانية

 

بقلم فتحي حسن ملكاويmalkaoui f6df0

الحلقة الثانية

بعض الدعاة الذين لا ينقصهم الإخلاص، يتحدثون عن ضرورة هدم مجتمع الباطل، لإقامة مجتمع الحق على أنقاضه. ولو وافَقْتَهم وخَطَوْتَ معهم خطوةً في الاتجاه  الذي يفكرون فيه، لوجدت قصوراً شديداً في تصورهم عن برامج الإصلاح في أي شأن من شؤون المجتمع. وغاية ما يمكن أن يعتذروا به هو أنَّ المجتمع الإسلامي حين يقوم، سوف يجد الحلول لمشكلاته التي تنشأ فيه، أمّا مشكلات المجتمعات القائمة حالياً فإن الإسلام ليس مسؤولاً عن حلّها!

عند الحديث عن ميادين الإصلاح تتبدى أزمة هذا اللون من التفكير بصورة واضحة. فإذا كان الحديث عن النظام السياسي قالوا: إنَّ النظم السياسية المعاصرة كلَّها باطلة، ويجب تقويض هذه النظم، وإعادة بناء نظام الحكم الإسلامي كما مارسه النبي صلى الله عليه وسلم، وكما طبقه الخلفاء الراشدون، وكما عهدناه في قرون الخير الثلاثة، أو في عهد السلف الصالح. فإذا جئنا إلى تفاصيل نظام الحكم الإسلامي هذا وحاولنا تطبيقه في الواقع المعاصر، فإننا سنجد مجموعة من القيم والمبادئ العامة التي قد لا تختلف كثيراً عن القيم والمبادئ، التي قادت إليها التجربة البشرية المعاصرة، لكنّنا لا نجد التشريعات التفصيلية لكيفية تنزيل هذه القيم والمبادئ. ذلك لأن هذه التشريعات التفصيلية اللازمة لضمان وحدة الأمة، وتحكيم الشورى، وإقامة العدل، واستقلال السلطات، إلخ، كلها خبرات بشرية تتطور وفق مستجدات الزمان والمكان والظروف المختلفة. ولن نجد في الهياكل التنظيمية، والنظم الإدارية، التي عهدناها في عصر الخلفاء الراشدين والقرون الثلاثة الأولى ما يُعدُّ ضمانة للالتزام بالقيم والمبادئ العامة للنظام السياسي في الإسلام.

سوف تكون هناك حاجة ماسة إلى اختيار بعض ما كشفت الخبرة والتجربة المعاصرة عن صلاحيته في نظم الإدارة المركزية والإدارة المحلية، وفي طريقة انتخاب أهل الشورى، وتعيين المسؤولين، وحماية الأمن، وتنفيذ الحدود والعقوبات، وتنظيم العلاقات الدولية، وغير ذلك من مسائل إدارة الحكم والسياسة. وسوف تكون هذه الإجراءات في الغالب أقرب إلى الممارسات المعاصرة منها إلى الموروثات التاريخية، الفارق الإساسي هو أن هذه الممارسات تحتكم إلى القيم الإسلامية التي تضمن تحقيق مقاصد الإسلام.

وإذا كان الحديث عن النظام التربوي في الإسلام فإننا قد نجد من يقول قولاً مماثلاً، قد يصل إلى القول بأنه نظام كفر، أو نظام غربي، علماني، ليبرالي… يخالف الإسلام جملة وتفصيلاً، ولا بد من هدمه من أساسه وبناء نظام تربوي إسلامي على أنقاضه. وإذا جئنا إلى تفاصيل النظام المنشود فإننا سنجد مرة أخرى مجموعة من القيم والمبادئ العامة التي قد لا تختلف كثيراً عن القيم والمبادئ التي قادت إليها التجربة البشرية في الواقع المعاصر. أما البحث عن التفاصيل التي لا بد من التخطيط لها عند بناء النظام التربوي الإسلامي المعاصر، فإننا في الغالب لن ننطلق من الخبرة التاريخية، بل من متطلبات التشريعات والأنظمة والهياكل المعاصرة للبحث عما يعتَوِرُها من خَلَل في الرؤية الحضارية الإسلامية، لإجراء ما يلزم من تعديل أو تبديل. سيكون هناك قرارات تختص بفلسفة التعليم وسياساته، وخططه وبرامجه، ومراحلهومناهجه، إلخ. وسيكون هناك اختيارات تختص بالتعليم العام والتعليم الخاص،  وسيكون هناك تحديد لسن البدء بالتعليم وإلزاميته، وسنواته اللاحقة، وسائر ما يجري في النظم التعليمية المعاصرة.

وعند التفكير في النظام الاقتصادي، سيكون هناك مؤسسات وأدوات وأشكال من التعامل الاقتصادي، وسيكون هناك أسواق وبضائع وأسعار ونقد، كما كان في المجتمع الإسلامي الأول، لكن ذلك المجتمع لم يبدأ من الصفر، بل استأنف ما كان موجوداً، ونظَّمه، وأحاطه بالقيم الإسلامية، لكن بعض الأدوات لم تتغير إلا فيما بعد، فمثلاً لم يشعر المسلمون في بداية الأمر بمشكلة في استعمال الفلوس البرونزية، والدراهم الوَرِقِيَّة (الفضية) والدنانير الذهبية، البيزنطية والساسانية. صحيح أن بعض الروايات تشير إلى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمر بضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها، والفلوس البرونزية على الطراز البيزنطي، وأن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ضرب الدراهم والفلوس وعليها اسمه وصورته، لكن التوثيق التاريخي لمسألة تعريب النقود بصورة كاملة، كانت في عهد عبد الملك بن مروان الذي أتم هذا العمل سنة 77 للهجرة، وذلك إثر الخلاف الذي جرى بين المسلمين والبيزنطيين على شروط تصدير الفضة وورق البردي من مصر إلى بيزنطة. فقد كانت أوراق البردي المصدرة تدمغ بدمغة عقيدة الإيمان المسيحية، فطلب عبد الملك إبطال ذلك ودمغها بشهادة التوحيد، فلما وصلت إلى الامبراطور البيزنطي جوستنيان غضب، وأعلن الحرب، وهدد المسلمين بضرب العملة بما يسئ إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فما كان من الخليفة إلا أن اتخذ قراره باستقلال العملة الإسلامية والاستغناء على العملة البيزنطية التي كانت تعد إلى ذلك العهد عملة عالمية معترفاً بها.

إنَّ الخبرة الإسلامية المعاصرة في مسائل الاقتصاد مَثَلٌ على إمكانية اعتماد بعض الهياكل والأدوات وتكييفها الإسلامي. فعلى الرغم مما قد يؤخذ على خبرة البنوك الإسلامية الحديثة النشأة، فإنها ستكون تجربة صالحة للتطوير فيما لو تبنّى المجتمع نظاماً اقتصادياً إسلامياً كاملاً، في فلسفته ومؤسساته وأدواته. فالبنوك الإسلامية المعاصرة تقوم بما تقوم به سائر البنوك الأخرى من خدمات مصرفية وائتمانية واستثمارية، وقد أخذت في تنظيمها وإدارتها أشكال البنوك الربوية العادية، مع تطوير بعض الممارسات التي تتجنب المعاملات الربوية المحرمة.

لن يبدأ الإصلاح الإسلامي المعاصر من الصفر، ولن يعود إلى لحظة معينة من التاريخ الإسلامي، ليستأنف منها ما كان سائداً ويواصل البناء عليه. إنما يبدأ من اللحظة الحاضرة، ويعيد الحضور للقيم والمبادئ الإسلامية، ليَبْنِي عليها، ومنها، ما يلزم من تعديل أو تبديل في التشريعات والهياكل والنظم. والله أعلم.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.