هل المرجعية للنقل أم للعقل؟ قضية زائفة!

0

malkawoui 4e50d

الدكتور فتحي حسن ملكاوي

وقفات فكرية

الحلقة الثالثة: قضية زائفة

malkawoui 4e50d

يشيع بين بعض المثقفين استعمال مصطلحات فكرية تُعبِّر عن مفاهيم راسخة لديهم، يحاولون فيها الخروج من دائرة الثقافة العربية الإسلامية، إلى دوائر ثقافية أخرى، تغلب عليها محاولات استبعاد الإيمان الديني بالغيب تحت ذريعة العقل والعقلانية، أو على الأقل تحييد هذا الإيمان عما يتصورونه من تأثيرات سلبية على فرص الإبداع العقلي والعملي، ويفسرون الواقع المتخلف للشعوب العربية والإسلامية بسيادة ثقافة النقل وإهمال العمل بالعقل. ويستشهدون في ذلك ببعض المراحل في التاريخ الإسلامي، الذي شهد معارك فكرية حول علاقة النقل والعقل. كما يستشهدون بالتاريخ الأوروبي الذي حسم المعركة لصالح العقل، وفصل المقولات النقلية الدينية عن واقع الحياة العامة، فانطلقت الحضارة الأوروبية تبدع في كل العلوم الطبيعة والاجتماعية والتطبيقية.

وسوف أتناول هذا الموضوع من مدخل واحد لا غير، هو مدخل التوحيد في بعده الإسلامي. وأنطلق في هذا التناول من مبدأ أساس من المبادئ التي يقتضيها التوحيد بالضرورة، هو مبدأ “عدم التناقض”، وهو مبدأ معروف كذلك في دوائر الفلسفة العقلية، بل إنه يمثل جوهر العقلانية! وهنا نحاول تطبيق هذا المبدأ على العلاقة بين النقل والعقل.

إذا لم ننطلق من مبدأ عدم التناقض فلا بد من الوقوع في الشك. فالتناقض في نهاية المطاف يعنى أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها. صحيح أن التناقض قد يقع في تفكير الإنسان وفي قوله. وقد يبدو التناقض في فهمنا الظاهريبينما نستمده من الوحي بوصفه مصدراً، وما يوصلنا إليها العقل بوصفه أداة. وإذا كان الإسلام ينكر الإمكانية المنطقية لهذا التناقض، فإنه في الوقت نفسه يقدم توضيحاً للكيفية التي يمكن إزالة التناقض لو أنّه اختلط بفهمنا.

إن القضية التي ثارت في الثقافة الإسلامية حول مرجعية العقل والنقل، بمعنى تحكيم أحدهما في الآخر، هي في نظرنا قضية زائفة. ذلك أننا نرى أن النقل والعقل ينتميان إلى فئتين مختلفتين، ليس ثمة ما يسوغ القول بتحكم أحدهما في الآخر. فالنقل المقصود هنا هو في المصطلح الإسلامي “الوحي”. وهو مصدر للمعرفة. وثمة مصدر آخر هو العالَم الذي يتحدد في التعبيرات القرآنية بثلاثة مجالات هي العالم الطبيعي، والعالم الاجتماعي، والعالم النفسي. والوحي يلزم المؤمن بالنظر في العالَم بمجالاته الثلاثة، وفهمها وإدراك قوانينها وسننها، وتسخيرها في بناء عمران الحياة. والعالَم بدوره يعطي لنصوص الوحي دلالاتها، وكلما تعمق فهم المؤمن لأشياء العالَم وظواهره وأحداثه زاد فهمه لدلالات نصوص الوحي. وهذا ما نسميه التكامل بين المصدرين، والجمع بين القراءتين، وهو الجمع الذي يلزمنا به أمر القراءة التكاملية لكل من العالَم المنظور، والوحي المسطور، وذلك في مطلع سورة العلق.

أما العقل فهو أداة لاستمداد المعرفة من مصادرها. وهو ليس أداة مادية في صورة عضو محدد، في الدماغ أو القلب وإن كان لكل منهما دوره في التعقل، وإنما هو قدرة على التعقل والتفكر والتدبر والفهم والتمييز، ويشترك في هذا القدرة الكيان البشري من خلال الخبرة الحسية والتأمل والحدس. وإذا جاز لنا أن نميز بين العقل بوصفه قدرة على التعقل، والحس بوصفه مجموعة أدوات أو منافذ لخبرات السمع والبصر وغيرها من منافذ الإحساس، فإن هذا التمييز يسمح لنا بالقول إن استمداد المعرفة من مصدريها إنما يكون بهاتين الأداتين العقل والحس، وأنهما تتكاملان في عملهما. وأي معرفة نستمدها من الوحي أو من العالم إنما نُعمِل فيها الحسَّ والعقل معاً.

إننا بهذه الصياغة لا نحتاج إلى القول بتحكم الوحي بالعقل، فكيف نميز نصاً من نصوص الوحي عن غيره إلا بالعقل؟ وكيف نفهم فكرة يقدمها لنا الوحي ونميزها عن فكرة أخرى إلا بالعقل؟ صحيح أن نصوص الوحي قائمة بذاتها وتتمتع بالانسجام الداخلي فيما بينها بصورة تستبعد وجود أي تناقض شريطة أن تفهم بالعقل فهماً صحيحاً، وإذا بدا لنا شيء من التناقض سواءً بين نصين من الوحي أو بين نص وخبرة من خبراتنا عن العالَم، فإن الأمر لا يعدو أن يكون خطأ في فهمنا للنص أو للخبرة أو لكليهما.

إنّ التوحيد الذي يقتضي إقرار مبدأ عدم التناقض، يطلب منا إعادة قراءة النص من أجل فهم آخر، يزيل اللبس عند وقوعه، ويوضح المعنى الملتبس، ويطلب منا فحص الخبرة البشرية، والتأكد من صحتها بالأدلة والاختبارات والبراهين المناسبة.

ومن ثم فإننا بهذا المنهج في تفكيك القضية الزائفة لا نحتاج إلى طرق المتكلمين من أمثال الرازي وابن رشد وغيرهما الذين يفترضون احتمال وجود التعارض بين النقل والعقل ويعدّون العقل هو المرجعية، لأن به يفهم النقل، كما لا نحتاج إلى الأخذ بآراء الغزالي في الموضوع نفسه الذي يوافق الفلاسفة والمتكلمين في احتمال وقوع التعارض ويقدم النقل على العقل في المرجعية.

لا حاجة لتخيل إمكانية التناقض بين النقل والعقل، فهما من طبيعتين مختلفتين؛ النقل مصدر والعقل أداة!

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.