د. عبد المجيد قاسم/ ليبيا
د. عبد المجيد قاسم/ ليبيا
توصف المصارف التي تقدم خدماتها بعد مراجعتها من متخصصين في الشريعة بأنها إسلامية، فصفة (إسلامية) لم تلحق بهذا النوع من المصارف تيمنًا، بل وضعت لتقرير حالة هذه المصارف، وليعلم المتعامل أنه سينجز معاملاته فيها وفق الشريعة الإسلامية.
ولأن هدف القاصد لأبواب المصارف، من بعد الإيداع، التمويل الذي تكتنفه الكثير من الصعوبات الشرعية والعملية، فإن الفارق بين المصارف الإسلامية وغيرها مما اتصف ـ بالمقابل- بصفة (التقليدية)، أو (الربوية)، إن لم يكن واضحًا، ومميزًا، ومخرجًا من مشكلة، وغير شكليٍ، فسيكون دون معنى، بل سيكون محرجًا، ومضحكًا، ومؤسفًا في آن واحد.
إن الإشكالية التي تعتري العمل المصرفي الإسلامي -وهذه الإشكالية لا تنفي غيرها من الإشكاليات- هي أن المصارف (الإسلامية) عبارة عن محاولة لبناء نمطٍ من المعاملات (المصرفية) بأدواتٍ نظريةٍ صرفة، في مقابل نمطٍ آخر من المعاملات أوجدته الحاجة ثم استتبعه التنظير.
فالمعاملات –في واقعها ونشوئها وتطورها- إنما تُبنى على حاجة الناس. ولأن ثمة علاقة بين الحاجة والاستغلال، فإن أفكارًا تأتي بعد ذلك لمحاولة تعديل المعاملات المبنية على هذه العلاقة، أو تبرير تلك المعاملات بصيغها الاستغلالية، دون إلغائها، فالإلغاء لا يكون سوى بواعز أقوى من مجرد الصالح والأصلح، فهو يحتاج إلى وازع من سلطة دينية أو دنيوية.
في الإسلام الأمر واضح، فقد أراد الله بدينه الخاتم سعادة خلقه في الدارين، فكان التدخل في صيغ الكثير من المعاملات القائمة، التدخل بالتعديل أو الإلغاء، هنا لا يوجد تبرير، ولا يوجد إنشاء لمعاملات جديدة. وبناءً على النصوص (المعصومة)، من كتابٍ أو سنة، خرج الفقهاء بفقه المعاملات، واحتاجوا ـ من باب تقعيد العلم- إلى تعريف كل صورة من صور المعاملات حسبما كان سائدًا، وإعطائها حكمها وفق النصوص، واستمر الحال دون تطور، إلى أن حدثت تلك الطفرة الكبرى في الاقتصاد والمال، وباتت المصارف جزءًا من حياة الناس، ولأن النظام المصرفي غربي النشأة، ومبنيٌ على (سعر الفائدة) الذي تم تكييفه (شرعيًا) على أنه الزيادة المحرمة مقابل الزمن في الديون، ولأن هذا النظام قد عمّت به البلوى، فقد وجد فقهاء العصر أنفسهم مضطرين إلى إيجاد مخرج للمسلمين عن طريق مقاربة الصيغ التي يتم التعامل بها في هذه المصارف مع صيغٍ جائزة في الفقه الإسلامي؛ فوجدنا مثلاً محمد رشيد رضا يجيز تعامل المسلم مع المصارف في بلاد الكفر استنادًا إلى رأي الحنفية الذي يجيز الربا بين المسلم وغير المسلم في دار الحرب، ووجدنا فتوى بجواز أخذ الفوائد على الودائع استنادًا إلى الرأي القائل باستحقاق عامل المضاربة أجرة المثل في حال فساد عقد المضاربة، ثم ظهر نوعٌ جديدٌ من المصارف قائمٌ على تقديم الأموال بصيغٍ أخرى غير الإقراض الربوي (الاتجار بالنقد)، هذه الصيغ يفترض أن من شأنها تحقيق دور المصرف في التمويل دون الوقوع في الربا، فصيغة القرض الحسن لا يمكن أن تقوم عليها مؤسسات مالية تم تأسيسها لغرض الربح، وقد اصطلح على تسمية هذه المصارف، التي تقدم المال بصيغ ذات أسماء لم يكن يعرفها سوى فقهاء الشريعة الإسلامية، باسم المصارف (البنوك) الإسلامية.
فالمصارف الإسلامية هي تلك المؤسسات المالية التي تتعامل بصيغٍ توضع أو تجاز من متخصصين في الشريعة الإسلامية، وهذه الصيغ هي أشكال من المعاملات المعروفة قديمًا، والتي أجازها الشرع؛ تم تحويرها لتناسب وظيفة المصارف في التصرف في المال، فالمصارف ليس لها وظيفة سوى قبول الإيداعات وإقراضها بمقابل، هذا المقابل الذي يسمى (فائدة) هو ما يقوم عليه النظام المصرفي، لأن المصارف باختصار ليست مؤسسات خيرية، وإنما هي مؤسسات ربحية، فهل نجحت المصارف الإسلامية في إيجاد بدائل فعلية عن المعاملات المصرفية الربوية، بمعنى هل نجح النظام المصرفي الإسلامي في إيجاد مؤسسات مالية ربحية تقدم المال بطريقة ربحية دون الوقوع في الربا؟
إن إشكالية المصارف الإسلامية إشكالية عقل، إن صحّ التعبير، فالنظام المصرفي (الإسلامي) قام على أفكار تبعها التنفيذ، وهذه الأفكار حاولت مقاربة ما هو موجود في الفقه الإسلامي بما هو مستجد من المعاملات، وأضحى دور الفقيه الشرعي المتعامل مع المصرف الإسلامي بدلا من الاجتهاد في حكم ما هو قائم، المشاركة في استحداث صيغ للتعامل، هذه الصيغ تم تسميتها بأسماء المعاملات الجائزة في الفقه الإسلامي، مع إغفال فارق جوهري، هو أن طرفي المعاملة في الصيغ التي عرفها فقهاء الشريعة الإسلامية يختلفان عن طرفي المعاملة في الصيغ التي تحمل ذات الاسم ويقوم بتنفيذها المصرف الإسلامي، فعقد المضاربة (القراض) مثلاً في الفقه الإسلامي طرفاه، أحدهما رب مالٍ، والآخر شريك (عامل)، وكلاهما ليس مضطرًا إلى المعاملة، والعقد ينشأ بينهما بالتفاوض والتراضي، ولأي منهما الحق في الرجوع عن الاستمرار في العقد، بينما الأمر في المصارف الإسلامية مختلف، فطرفا عقد المضاربة أحدهما بيت تمويل، والآخر (زبون)، بمعنى أن أحد طرفي المعاملة، وهو الشريك المضارب، ليس أمامه سوى قبول المعاملة بشروط صاحب المال، وهو هنا المصرف، أو عدم التقدم لإنجاز المعاملة، فيكون العقد بينهما عقد إذعان أكثر منه عقد مبني على التراضي وعدم الإلزام، مما يعني أننا أمام عملية إقراض مقنّعة، ليس إلا، تم استعمال الحيلة فيها لشرعنتها، والحال كذلك في باقي المعاملات التي أطلق عليها اسم (منتجات)، والتي تقوم عليها المصارف الإسلامية.
إن إشكالية (العقل) في العمل المصرفي الإسلامي تبدو جلية في اشتراك الشرعيين والاقتصاديين في عملٍ مشتركٍ برغم اختلاف البناء المعرفي لدى كليهما، فالصيغ التي يتم تصميمها أو اعتمادها (من قبل الهيئات الشرعية)، يتم تنفيذها بعقلية أخرى غير العقلية التي اعتمدتها، هذه العقلية قائمة على الفكر الاقتصادي والمصرفي السائد، بمعنى أن المحاذير الشرعية -صحيحة كانت أو موهومة- في مرحلة التنفيذ قد تبدو عند المنفذين من بديهيات العمل المصرفي، مما يعني أننا –ولكي نلبي حاجات المسلمين المالية- لسنا في حاجة فقط إلى مجرد منتجات إسلامية لتنفيذها عبر نوافذ أو مصارف إسلامية، بل نحن في حاجة إلى إيجاد نظامٍ جديدٍ قائمٍ على آليات التمويل الإسلامية الحقيقية، مع إعادة النظر فيما هو سائدٌ في الفكر الاقتصادي المقارن، وتكييفه بتجرد.
ختامًا أقول إن إشكالية التوفيق بين مقتضيات الشرع ومعطيات الواقع قديمة، وربما كانت صعوبة التوفيق ناجمة عن توهم التعارض، فيعمل الناظر على تطبيق حلول هي أكثر جلاء في معارضتها للشرع، من تلك التي توهم معارضتها، فتزل أقدام بعد ثبوتها، والأمر موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام كما يقول ابن القيم، وعليه فإننا ربما نحتاج إلى إعادة قراءة الكثير مما هو مطروح من معاملات حديثة تم النظر إليها بعين الريبة، وأثرت تلك النظرة على الحكم بنوع أو بآخر.