السياق التاريخي:
يفرض علينا التساؤل التالي حتمية البحث في تاريخ الشيخ: كيف تكون وعيه العلمي وهل قاده إلى العمل السياسي؟ وكيف تكون وعيه السياسي في ضوء ثقافته التقليدية والدينية في بيئة لها خصائصها المتميزة؟ وفي هذا الصدد كيف تم تكييف هذه الثقافة مع الاختيار السلفي في سياق الحركة الوطنية؟ وما المؤثرات التي شكلت بنية التفكير عنده؟ إذا كان للتكوين الأولي تأثير على مكونات الشخصية لإيضاح بعدها العلمي والإشعاعي واهتماماتها اليومية، فإن ذلك يقودنا إلى تحديد مواد هذا التكوين المنحصرة في مقررات التعليم الأولي من رواية وألفية ومتون وأسانيد ونصوص ومنظومات وفصول فقهية وأصول ومقولات شعرية… وقد أثر أيضا في تكوينه التقاؤه بالنخبة لنباهته وتفوقه، وتحصيله العلمي، حيث ارتمى كلية في جو المعرفة الوطنية، ووظف اللغة العربية في مواجهة الاستعمار ووسائله، وأضحت عنده وسيلة للتواصل الوطني للرد على هجمة الثقافة الأوربية، حي وجد في السيطرة الاستعمارية على مقاليد الأمور ظاهرة مخالفة للقيم، وشروط الوجود الإنساني، وكان من الطبيعي أن يقف بجانبه جماعة من الطلاب للتصدي لها في غياب وجود حركة سياسية، فكان هو بصيص الأمل بالنسبة لجيل مختار السوسي والشيخ العربي العلوي، لم يكن يمثل تيارا سياسيا بقدر ما كان يجسد شعورا وطنيا ونفحة عربية إسلامية أصبحت إشعاع مرحلة بكامله، وعندها ظهرت الملامح الأولى الداعية إلى تأسيس نواة الحركة الوطنية.
عرف مسار الشيخ أبو شعيب الدكالي تحديات كبيرة فقد واكب زمن الانبهار بالحضارة الغربية، وواكب ضعف المغرب سلطة وشعبا، كما تابع علماء سبقوه كانت لهم مواقف مشرفة. ويكفي أن نلقي نظرة على الأحداث التي عاشها لمغرب خلال هذه الحقبة التاريخية، والتي تميزت بتكالب قوى الاستعمار ( فرنسا ـ اسبانيا) باتفاق مع الدول العظمى.فقد عرف المغرب في الفترة الممتدة على طول القرن 19م، أحداثا ووقائع، أثرت بشكل عميق في مسار تطور أفكار نخبته العالمة. لقد استفاق العالم المغربي، خلال هذه الحقبة، على وقع صدمة المغرب، التي هزت كيانه بشكل أقوى من مفعول صدمة اكتشاف القوة الإبيرية في أواخر القرن 15 وأوائل القرن 16، فمن سقوط الجزائر بيد الاستعمار الفرنسي سنة 1830، وما خلفه من انعكاسات على الأوضاع المغربية، دفع المغرب ثمنها هزيمة إيسلي سنة 1844م ن إلى حرب تطوان سنة 1860م، وما نشأ عنها من مشكل الحمايات، وتصاعد المطالب الأوربية لحصول على المزيد من الامتيازات في المغرب، بدا المغرب مثقلا بمشاكله الممتدة عميقا في التاريخ، الناضجة بمفعول الاحتكاك الأولى بالعالم الغربي، وقد كان طبيعيا والوضعية على هذه الشاكلة، أن تعمل النخبة العالمة، شعورا منها بالمخاطر التي باتت محدقة بالبلاد، على بلورة أفكار إصلاحية، استهدفت إخراج المغرب من أسر أوضاعه المتهاوي إلى الدرك الأسفل، ووضعه على عتبة مسايرة تطور ركب الحضاري الإنساني. في هذا السياق ظهر مصلحون مل كل من موقعهن على نشر أفكار، اعتبرت في نظرهم كفيلة بإنهاض المغرب، ومن جملة هؤلاء المصلحين، المؤرخ أحمد بن خالد الناصري 1835-1897م ، والشيخ المختار السوسي، والشيخ العربي العلوي، تلامذة الشيخ أبو شعيب الدكالي.
كما تتبع وعن كثب أصداء الحركة الوهابية خلال مرحلتين الأولى: مرحلة وصول أخبار قيام الدعوة واشتداد أمرها، ومرحلة قيام جدل فكري مغربي حولها والحد الفاصل بين المرحلتين هو سنة 1803م، حيث توصل المغرب برسائل تتعلقان بالعقيدة الوهابية. وتمحو الجدل حول القضايا الخمس: التوسل بالأنبياء والصالحين- كرامات الأولياء- زيارة القبور- الذبح عند أضرحة الأولياء- البناء فوق قبور الصالحين- ورسمت لأوربا صور مختلفة أهمها صورة واحدة ذات وجه أوربا الحربية ـ وجه أوربا ” المنظمة“ ووجه أوربا ” الغاوية“ غواية حسية مباشرة تتجلى في سفور النساء وتبرجهن، وغواية معنوية غير مباشرة: غواية العقل وغواية الإيمان..
ويطرح سؤال مهم في هذا الصدد هل الفكر السلفي بالمغرب هو مجرد امتداد للفكر السلفي بالمشرق أم هو ظاهرة محلية قائمة بالذات؟ واقعتان تفرضان نفسيهما في هذا الصدد: الأولى: التواصل الثقافي بين المشرق ( مصر) والمغرب، والثانية: الأصول والمرتكزات المحلية الفاعلة في تبلور الظاهرة السلفية بالمغرب. فبالنسبة للأولى الكل يعرف أن هذا التواصل قديم ومستمر، فالتطور البارز الذي حصل داخل العلاقات المغربية المصرية عرف أوجه في النصف الثاني من القرن 19 ومطلع القرن 20، والاعتبار الثاني يمكن الوقوف عليه من خلال مستويين: الأول: مستوى رسمي، وأهم تجلياته التمثيل القنصلي الذي أصبح للمغرب في مصر إبان الحكم في عهد السلطان المولى سليمان ( 1792 –1822) وكانت مهمة القنصل الأساسية استقبال موكب الحجاج المغاربة وتيسير سبل انتقالهم إلى الحجاز وتطور الأمر في النصف الثاني من ق 19 إلى إرسال بعثات طلابية مغربية إلى مصر ومحاولة الاستفادة من تجربة التقدم المصرية. والمستوى الثاني فردي: يتمثل في العلاقات التي كان العلماء المغاربة يقيمونها مع نظرائهم في الأزهر من خلال التراسل أو الاتصال المباشر قصد الدراسة أو التدريس. وهذه هي حال من يمكن اعتبارهما رائدي الفكر السلفي بالمغرب: عبد الله السنوسي وأبو شعيب الدكاليبتصرف) فالاثنان سافرا إلى الشرق وتأثرا هناك بالدعوة الإصلاحية السلفية، عادا إلى المغرب داعيتين متحمسين: ففشل الأول ونجح الثاني.
فهل السلفية المغربية ليست إلا صدى وامتداد للسلفية في المشرق؟ نجيب بالسلب، وذلك بالنظر إلى الأصول والمرتكزات التي اعتمدتها السلفية بالمغرب، فقد بادر السلطان محمد الرابع والحسن الأول إلى طرح وإنجاز مبادرات إصلاحية يمكن نعتها بالفوقية والمفروضة على استصدار الفتاوى المؤيدة للعلماء والاستشارة معهم، ولم يطرح الفكر السلفي بالمغرب نفس أسئلة النهضة التي عرفها المشرق واعتمدها محمد عبده والأفغاني. وقد حتم الأمر طرح مشاريع إصلاحية جديدة في العقد الأول من ق 20، ومن أهمها مشروع بن سعيد الإصلاحي 1904، ودستور علي زنيبر المعنون بحفظ الاستقلال ولفظ سيطرة الاحتلال، ودستور الشيخ عبد الكريم 1906، ودستور جماعة لسان المغرب 1908م. وقد جاءت هذه المشاريع متفاوتة من حيث القيمة الفكرية والصياغة الشكلية ويمكن اعتبار جماعة لسان المغرب النص الأرقى مضمونا وشكلا. كما ارتبط وضع تقديم هذه المشاريع بتطور المسألة المغربية وبروز الأطماع الاستعمارية السافرة والقوية إزاء المغرب( الاتفاق الودي الفرنسي الإنكليزي مؤتمر الجزيرة الخضراء..) وعليه فهذه المشاريع جاءت في سياق الرد الوطني على الوضعية القائمة وارتكزت على مفاهيم الوطنية والوطن والمواطن وهي مفاهيم جديدة في المغرب، وتبلور على إثرها إنشاء مجلس الأعيان، وبروز الصحافة الوطنية، وتأسيس جمعيات سرية وطنية لقد برزت الحركة الوطنية وانطلقت في الثلاثينات وكانت في مضمونها العميق استمرار لحركة المقاومة السياسية كما تجسدت في الحركة الحفيظية 1907 ومن جهة أخرى في حرب الريف التحررية التي لم تكن مجرد مقاومة مسلحة، وبالتوازي معها وعقب توقيع عقد الحماية نشطت ببعض المدن العتيقة كالرباط وتطوان وسلا وفاس، حركة إصلاحية بقدر ما تحمست لفعل المقاومة المسلحة، أو بالعكس تحفظت عليه، فقد كان لها من خلال نصوص فكرية فيما يخض قضايا الإصلاح أو النهضة التي كان يواجهها المرغب آنذاك وهو ينخرط في صيرورة التحديث الاستعماري، كما عرفت سنوات العشرينات نشاطا فكريا تجلى في قيام منازعات فكرية من أبرزها الضجة التي أثارها كتيب للمكي الناصري مولود 1906 عنوانه إظهار الحقيقة في علاج الخليقة 1925 متضمنا لهجوم عنيف على الطرقية وأربابها سرعان ما أثار رد فعل عنيف تمثل في صدور كتابين مضادين “غاية الانتصار على نهاية الانكسار” لمحمــــــــــد الشــــــــــــــــــــرقاوي و” تحفة المنصفين وتذكرة المخالفين” للغربي. وهذا السجال الفكري كان بداية مواجهة سياسية بين من يمكن نعتهم بمعسكر المحافظين وأنصار الحقيقة.
لقد اتخذ الغزو الأوربي أساليب في تفكيك مكونات المركب الحضاري الإسلامي بحسب مستويات هذه المكونات على الشكل التالي: ( كما صاغها أحمد العماري في نظرية الاستعداد في المواجهة الحضارية للاستعمار الغربي نموذجا) أولا مكون الأصول الضارية وهي الأصول العقدية والتشريعية والأخلاقية، ومكون الأركان الحضارية وهي اللغة العربية، العلماء، الوحدة، الشورى الرسالية، التجديد التراث، التاريخ، العدل، الحرية العادات والتقاليد والأعراف. ومكون المرتكزات الحضارية كالمرتكز الجغرافي الجيو سياسي والمرتكز الاقتصادي، والمرتكز البشري. واستعمل الغزو المدني التقنيات المدنية (الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية والفكرية…) في التغيير الحضاري. وقد استخدم الغزو سياسة الفتح الديبلوماسي، ويتلخص في الدور الذي قام به سفراء الدول النامية وقناصله خلال المرحلة المدروسة 1830- 1912) لفرض مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات التي تخدم مصالح دولهم وأهدافها في مرحلة ما قبل الحماية. وأرغم المغرب على التخلي عن العمل بمبدأ الجهاد وحقوق الأخوة والروابط الجامعية مع الجزائر (الاتفاقيات الأربع) ومنعته من التعامل بقانون الجامعة الإسلامية، وأجبرته على التعامل بقانون الوطنية الضيقة فقط، كما أرغم على التنازل عن حقوق سيادته، التي أصبحت تتصرف فيها الدول الاستعمارية الأوربية بوضوح كامل، كم شخص ذلك مؤتمر مدريد 1880م ومؤتمر الجزيرة الخضراء 1906م حيث قررت تلك الدول تدويل المسألة المغربية.
وركز الغزو على سياسة الحماية القنصلية فشاركت الدول بلدنا في حق المواطنة، والتجنيس، والرعاية، وكان ذلك من أخطر عناصر الاحتلال والتدخل