تقوم الأسرة بدور أساسي في بناء قيم الجد والاجتهاد لدى الأبناء، والاسهام في التنشئة الاجتماعية، والانخراط في تخريج أجيال تقدر قيمة الاجتهاد والجد في العمل، وتستند الأسرة في قيامها بهذه المهمة على منظومة القيم الرائجة في المجتمع، والتي تستمد أصولها من الثوابت الدينية والمجتمعية؛ فالإسلام بقيمه ومبادئه يوفر للأسرة مجالا أرحب في تنمية حب الجد والاجتهاد لدى الأطفال، وتمليك هذه القيم سلوكا وممارسة للناشئة.
أولا: الأسرة وقيم الجد والاجتهاد
تعتبر قيم الجد والاجتهاد من القيم التي تنشأ وتنمو في أحضان الأسرة، وترعاها الممارسات اليومية والملحوظة لدى الناشئة، فالأسرةُ هي التي تُكسب الطفل، قيمَه؛ فيميز السليم عن غير السليم، والخير عن الشر، والحسن عن القبيح، إن قيام الأب والأم بأعمالهما والتزاماتهما بكل حزم وجد أمام ناظري أبنائهما، ليعتبر من أهم دروس الجد والاجتهاد، بحيث إن الآباء يعتبرون المثل الأعلى والقدوة الأسمى للأبناء. لذلك يتعين على هؤلاء الاتصاف على قدر ما يطيقون من صفات الجد والبذل، والابتعاد على كل أنواع الغش والتحايل، لفظا كان أو سلوكا.
كما أن قيم الجد والاجتهاد تتجلى من خلال الحفاظ على نظام الأسرة، فلكل أسرة نظامها الخاص بها، وعليه تتم تنشئة الأبناء، وكلما حافظ هذا النظام على مقومات نجاحه، كانت النتيجة مرضية، ويتجلى هذا النظام في طبيعة السير العادي للأسرة، صباحا ومساء، ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، فطريقة إعداد وتناول الطعام، والاستيقاظ والنوم، وترتيب البيت، ومشاهدة التلفزة، ومراجعة الدروس، والقيام بالواجبات المدرسية (…)، وكل هذه الأعمال تقدم صورة مبطنة عن قيم الجد والاجتهاد، وعبرها يتم تدريب الأبناء على القيام بواجباتهم أحسن قيام. وكلما رآى الآباء سلوكا غير سليم داخل البيت انتهزوا الفرصة بطريقة ذكية لتصويبه وبيان خلله.
ثانيا: التربية على محاربة الغش داخل الأسرة
كلما تعدد أفراد الأسرة الواحدة، كان الاحتمال واردا في تعدد مظاهر المحاولات التي ينتعش فيها الغش في السلوك والعمل داخل الأسرة، فتنافس الأطفال فيما بينهم لكسب رضى الأب أو الأم، يدفعهم إلى سلوك الغش والتحايل والكذب داخل الأسرة، أو حينما لا ينتبه الآباء إلى تفاوت القدرات الفطرية والطبيعية لدى أبناءهم، فتتم المساواة بينهم في التكليفات والواجبات، وهذا من شأنه تشجيع الغش فيما بينهم اثباتا للذات. وهذا الأمر يضاعف من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الآباء، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم”، وتجليات هذه المسؤولية تكمن في ضرورة احترام الآباء في سلوكهم لقيم الجد والاجتهاد، وهذا يخدم سلوك الأبناء تلقائيا، فهم على دين وأخلاق آباءهم.
ثالثا: دعم التربية الوالدية
يطلق مفهوم التربية الوالدية على كل فعل تربوي يكون مصدره الوالدان، وسياق هذه الأمر، كان هو عزوف الأسرة عن القيام بواجبها التربوي تجاه أبناءها، بحيث حلت مكانها دور الحضانة، والرعاية الاجتماعية التربوية، وتخلى الأب والأم عن ممارسة دورهما في التربية. وعلى سبيل المثال، يمكن ذكر حالة الحكومة البريطانية لما استشعرت خطورة هذا الوضع في منتصف القرن الماضي، حيث قامت بتقديم مساعدات لتشجيع الآباء والأمهات على تربية أبنائهم في بيوتهم، واستفراغ الجهد في ذلك، بهدف تنشئتهم واستقامتهم، والحيلولة دون جنوحهم وانحرافهم، لأن المجتمع والدولة هو من سيتحمل تبعات هذا الجنوح والانحراف؛ والتعاطي مع ظاهرة الغش أحد تجليات هذا الجنوح والانحراف.
رابعا: الدعم الديني في التربية على قيم الجد والاجتهاد
يتعين على الأسرة أن تفقه ما نصت عليه آيات وأحاديث صريحة في الدعوة الى العمل والكسب بكل جد واجتهاد، من قبيل قول الله تعالى: “وهل جزاء الاحسان الا الاحسان”، وقوله تعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من بات كالا من عمله بات مغفورا له”، وغيرها من النصوص التي يجد فيها الأبوان ما يقوي تنشئة أبناءهم على قيم الجد والاجتهاد والبذل والعطاء، أما في موضوع الغش؛ فهناك العديد من النصوص المحرمة للغش، لأنه يجمع الخداع والكذب والتحايل، وأخذ ما لا حق فيه، والاعتداء على حقوق الآخرين. وقد حرم الاسلام الغش تحريما قطعيا، واعتبره من الأفعال المذمومة والمنكرة والمستقبحة، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من الغاش؛ فهو في حكم من يفقد انتسابه الى الاسلام، حينما قال: “من غش فليس مني”(رواه مسلم)، وهذه درجة من الخطورة تبصر الإنسان بشناعة هذا الجرم، لأن الغاش يزور الحقيقة، ويمارس الخديعة، ويتحايل على الناس. وهو في حقيقة الأمر خداع للنفس وكذب عليها، كما قال الله تعالى في سورة البقرة: “يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون”.
خامسا: أدوار وقائية لدعم قيم الجد والاجتهاد
تتجلى هذه الأدوار في تقوية قدرات الآباء في تمثل قيمة القدوة، بحيث لا أحد يجادل في كون أن الطفل يأخذ تربيته وسلوكه من تربية وسلوك أبيه وأمه، فالأبوان هما القدوة، والتجربة العملية التي يقيس عليها الطفل سلوكه، وينسج إلتزامه على منوالها. والابداع في المبادرات الأسرية الداعمة لسلوك الجد والاجتهاد، من حيث فتح الباب أمام الأبناء لفتق مواهبهم والكشف عن قدراتهم الذاتية، ومراعاة الفروقات الموجودة بين الأبناء في مدى تحملهم وقدرتهم على العطاء والعمل، واستيعاب الأبناء لفكرة الرقابة الالهية على سلوكهم، وأن الله تعالى هو الرقيب على كل الأعمال، فهو يجازى ويكافئ المجد والمجتهد، ويعاقب الغاش والكاذب. واختيار الرفقة الصالحة لأبناءهم، وايجاد مكتبة داخل البيت تضم كتبا وقصصا وروايات تتحدث عن قيم الجد والاجتهاد، ومآل الغشاشين.
الدكتور :صالح النشاط
ماستر في الدراسات الاسلامية / جامعة محمد الخامس الرباط وأستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية المحمدية/ جامعة الحسن الثاني
……………………………….
المقال يعبر عن راي كاتبه