فلسفة الهجرة :من حب الأرض إلى أرض الحب

0

كتبه /الأستاذ يوسف عطية

من طبيعة الإنسان أنه كائن يتشبث بالأرض التي ولد فيها وبالتراب الذي نشأ فيه، ويدافع عنهما وعن البقاء فيهما بما أوتي من قوة، لكن هل يستمر حبه للأرض بنفس القوة طيلة حياته؟ وهل هناك أسباب قد تغير ذلك الإحساس وتُضْعِف ذلك الإرتباط؟ وإن كانت فما هي؟..
تلك – وأخرى- أسئلة سنتلمس لها أجوبة مختصرة من دلالات هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وذلك بمناسبة العام الهجري الجديد أهله الله على الجميع ببشائر الخير و الرحمة ورفع الغمة.
والله المستعان.
حب الأرض والارتباط بالتراب، إحساس يولد مع الإنسان وينمو في شخصيته كما ينمو جسده في تلك الأرض التي ولد فيها، لكن أرض الحب هي بيئة يكتشفها الشخص بسبب من الأسباب، عملا كان أو دراسة أو زيارة…فيجد فيها ما لم يجده في أرضه التي ولد فيها وترعرع. يجد فيها ذاته وتتحقق له رغباته كلها أو بعضها، فتتغير أحاسيسه وتتبدل قراراته تبعا لذلك، فيقرر الهجرة كليا أو جزئيا إن لم يكن قادرا على الأولى، لأن أرض الحب قد تجعل الإنسان محبا لها نظرا لتوفر أسباب ذلك الحب، بينما حب الأرض قد يتلاشى مع المدة، وذلك بتلاشي أسباب ذلك الحب.
لذلك فرغم ما كان يكنه النبي صلى الله عليه وسلم لمكة من حب يفوق حب أي أرض أخرى، وقد عبر عن ذلك بقوله” و اَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ” إلا أنه خرج منها إلى أرض أخرى يمكن أن نطلق عليها أرض الحب، تلك المتمثلة في المدينة المنورة، التي وفرت له ما لم يتوفر في الأولى، لأن الأولى انغلق فيها أفق الحوار مع أهلها والثانية فتح فيها أفق الحوار مع أهلها، ولأن الأولى بلغ فيها منسوب الفساد مداه و لم تعد قوة المسلمين كافية معه حينئذ، بينما الثانية كانت أرضا مهيأة لحمل مشروع الإصلاح النبوي، ولأن الأولى لم تعد تتسع لتصريف الثقافة التي اكتسبها الصحابة من مدرسة النبوة، بينما الثانية كانت متسعة لذلك…
و عليه فلم تكن هجرته عليه الصلاة والسلام غاية في ذاتها، ولا رغبة في تغيير الأرض، أو طمعا في ذلك من أجل ذلك، وإنما كانت وسيلة للتخلص من ثقافة وفكر وبيئة لم يعد منطق التدافع ” بالمعنى الضيق” كافيا معها، ولم تعد قنوات التواصل ممدودة مع أفرادها، فكانت أولى خطوات استكمال المشروع النبوي الإصلاحي هي الانطلاق من حب الأرض” مكة” إلى البحث عن أرض الحب، فكانت المدينة أهلا لذلك، ومنذ أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وهي أرض فساد وإفساد إلى أن عاد إليها فاتحا بعد ثمان سنوات من هجرته، فتحولت إلى أرض صلاح وإصلاح وتحقق لها التوازن مع أرض المدينة على مستوى إنتاج حب الأمن والإيمان والسلم والإسلام..
واليوم عندما يقرر البعض الهجرة من مكان إلى مكان آخر، فغالبا ما يكون ذلك بحثا عن أرض قادرة على أن تنمي فيه حبها بسبب تلاشي أسباب الحب في أرضه التي هو فيها، وتكون هجرته إما من أجل البحث عن لقمة العيش أو الاستشفاء، أو بسبب ارتفاع منسوب الفساد بشكل لم يعد قادرا على صده ولا المساهمة فيه، كما يقع لبعض المثقفين في بعض الجهات والمناطق، وهو أخطر أنواع الهجرة على تلك المناطق، لأن هجرة المثقف معناها فقدان محرك الإصلاح، وهذا حاصل اليوم في الكثير من المواقع والجهات التي فقدت أغلب ملامح الإصلاح وكادت تفقد أسبابه -حتى نكون أكثر دقة في التشخيص- ولذلك فإن مفتاح المحافظة على التوازن الديموغرافي أو العدالة المجالية كما يسمونها في المناسبات السياسية -ونحن على أبواب انتخابات الله أعلم بنتائجها- هو العمل على جعل المناطق تُنتج الحب، بدل تركها إلى أن تفقده لدى سكانها الذين ولدوا فيها، فيتركونها اضطرارا أو اختيارا، ويبقى من ليس له حيلة ينتظر موسم الانتخابات ليكون مناسبة للمزايدات الزائدة على تلك المناطق، فينتهي التنازع على الكراسي وتبقى دار لقمان على حالها.
يوسف عطية

بني ملال فاتح محرم 1443/ 10 غشت 2021

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.