ذ.الحاجي الوزاني/ أستاذ مادة التربية الإسلامية
من دروس السنة أولى بكالوريا درس (الإيمان والفلسفة)، وهو درس يندرج ضمن مدخل (التزكية) الذي يضم أربعة دروس، وهي: الإيمان والغيب، الإيمان والعلم، الإيمان والفلسفة، الإيمان وعمارة الأرض، وهي دروس تناقش قيمة مركزية هي (الإيمان)، وتسعى لبنائها وجدانيا وفكريا وعمليا عند المتعلمين من خلال أربعة مفاهيم، وهي: الغيب، والعلم، والفلسفة، وعمارة الأرض، فالغيب بيان لحقيقة الإيمان، والعلم حجة لضرورة الجمع بين سنن الكتاب المسطور والكتاب المنظور، والفلسفة اعتراف بنعمة العقل ووجوب استعمالها، وعمارة الأرض هي الغاية والمقصد، وهكذا يكتسب المتعلم قيمة الإيمان، ويبني مفهومها من خلال الوعي بمقتضياتها التصورية، وأبعادها المعرفية، وآثارها العملية في الواقع.
غير أن درس (الإيمان والفلسفة) قد لا تبدو وظيفته بهذه السهولة، فكثير من المدرسين يرون أنه درس يثير إشكالا عقديا يصعب مناقشته مع المتعلمين، كما أنه أثار ويثير جدلا بين أساتذة مادة التربية الإسلامية وزملائهم في مادة الفلسفة، خصوصا وأن التمثلات السائدة، سواء عند التلاميذ أو عند كثير من المدرسين؛ هي أن الفلسفة والدين ضدان لا يجتمعان، وهي تمثلات لها جذور تاريخية في تراثنا تغذيها، وتجليات في بعض الفلسفات المادية الحديثة والمعاصرة تؤكدها، فإذا كان الإيمان يقوم على الخضوع والاستسلام؛ فإن الفلسفة تقوم على الشك والتساؤل، وإذا كان الإيمان يقرر حقائق يجب اعتقادها كوجود الله مثلا؛ فإن بعض الفلسفات ترفض هذه الحقيقة وتراها دعوة خرافية بلا برهان، وإذن، كيف نجمع بين الإيمان والفلسفة؟
الجمع بينهما يمكن أن يتم بطريقتين؛ الطريقة الأولى؛ هي الاحتكام إلى الإطار المرجعي، وفيه نجد حلا سهلا لهذه المعضلة، وهو أن ” لا تعارض بين الفلسفة الراشدة والإيمان الحق “1 ، ومن أجل إقناع المتعلمين بهذه النتيجة؛ يلجأ المدرس إلى تعريف (الفلسفة الراشدة) بأنها: الفلسفة التي تجمع بين النقل والعقل، فكل تفلسف يستند إلى نصوص الوحي ومبادئ العقل؛ فهو تفلسف راشد ينتج فلسفة راشدة، وبناء على ذلك؛ يقفز إلى النتيجة، فيستنتج أن المنهج الفلسفي الموضوعي يرسخ الإيمان ويقويه، ثم يؤكد هذه النتيجة بقراءة نص ابن رشد الموجود في الكتاب المدرسي، والذي يقول: ” فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق؛ بل يوافقه ويشهد له “2
غير أن هذه الطريقة السحرية في حل الإشكال تزيد الطين بَلًّا كما يقال؛ لكونها ترسخ مزيدا من التباعد والتضاد بين الإيمان والفلسفة، وتزكي التمثلات السائدة؛ لأنها قارنت بين الإيمان والفلسفة الإسلامية، ولم تقارن بين الإيمان والفلسفة، وهي بذلك أقصت الفلسفة من حيث لا تشعر، إذ يفيد تعريف الفلسفة الراشدة إقصاء كل تفلسف يستند إلى العقل المجرد، والفلسفة في حقيقتها وطبيعتها هي الاستدلال البرهاني العقلاني المجرد، وترفض الاستدلال بنصوص الوحي، وإلا فنحن أمام فقيه وليس أمام فيلسوف، فإذا كان الفقيه في الدين يستند أساسا إلى نصوص الوحي، فيستدل بها على أحكامه، وإذا كان العالم في الطبيعيات يعتمد على التجارب المحسوسة في المختبرات، فيقرر ما أفرزته التجربة؛ فإن الفيلسوف لا يؤمن إلا بما أنتجه المختبر العقلي بعد تمحيص وتحليل، وعندما نقرر أن الفلسفة الراشدة هي وحدها التي توافق الإيمان، فمعنى ذلك؛ أننا قمنا بالتشطيب على الفلسفة منذ ظهورها في اليونان إلى عصرنا الحاضر، ولم نُبْقِ منها إلا نصوصا أنتجها مفكرون إسلاميون، وحتى هذه النصوص لو عرضناها على نصوص الوحي قد نسقط بعضا منها.
الطريقة الثانية؛ هي المقارنة بين الإيمان كنصوص والفلسفة كمنهج في سياق إشكالي، وبيان ذلك على الشكل التالي:
نناقش مع المتعلمين هذه الإشكالية في إطار (وضعية مشكلة) ننطلق منها، حيث نعمل من خلالها على استفزاز المتعلمين معرفيا لا كتشاف تمثلاتهم، وتحفيزهم على البحث والحوار والنقاش لتنمية مهاراتهم، وأقترح هنا الوضعية المشكلة التالية:
في حوار بين خالد وكريم قال كريم: ” المسلم لا حاجة له إلى التفكير الفلسفي الذي ينكر وجود الله، ويُعلِّم الكفر والإلحاد، فكلام الله تعالى شامل لجميع المجالات ويجيب عن جميع التساؤلات، فرد عليه خالد قائلا: “بل نحن في حاجة إلى التفكير الفلسفي الذي يتجاوز حدود النصوص الدينية التي تقيد العقل، وتحرمه من التفكير، فالفلسفة هي التأمل والتحليل والاستنتاج؛ بينما الإيمان هو التسليم والخضوع وتجميد العقل” !
وأثناء نقاش هذه الوضعية؛ ينبغي للمدرس أن يبقى محايدا، بل يقوي وجهة نظر المتحاورين معا، فإذا أجاب أحدهم بأن التفكير الفلسفي لا يعلم الكفر والإلحاد؛ رُد عليه بمقولة أحد الفلاسفة التي تنكر وجود الله، وإذا أجاب آخر بأن الإيمان لا يمنع التفكير؛ قيل له إن الله تعالى عرَّفنا الحقيقة كاملة وأمرنا بالعبادة، وهكذا يدفع المدرس بالمتعلمين إلى الباب المسدود، وخلق عدم التوازن المعرفي لديهم، أي إيجاد شروط التعلم.
وبعدها ننتقل إلى تحديد المهام المطلوبة التي يجب أن ننجزها من أجل حل الإشكالية، وهي مرحلة مهمة جدا يجب إشراك المتعلمين فيها، وهذه المهام هي:
• خصائص التفكير الفلسفي؛
• موقف الإسلام من التفكير؛
• الدين والتدين.
نقوم أولا بتحديد الخصائص المنهجية العامة للتفكير الفلسفي، وهي:
– التأمل: يتأمل الفيلسوف ظاهرة كلية من الظواهر التي يشتغل عليها ثم يطرح تساؤلات في شأنها؛
– التحليل: يقوم الفيلسوف بعد ذلك بتحليل نظري عقلاني مجرد، وهو يحاول أن يجيب عن تلك التساؤلات؛
– الاستنتاج: إقرار النتيجة التي توصل إليها .3
ثم نقوم ثانيا بالنظر في نصوص الوحي، فنحدد موقف الإسلام من النظر والتفكير، وسنجد نصوصا كثيرة تدعو إلى التأمل والتفكير في مخلوقات الله تعالى، سواء قبل الإيمان من أجل إدراك الحقيقة، أو بعده من أجل إدراك عظمة الله تعالى وترسيخ الإيمان، وهي ملاحظة مهمة ودقيقة حتى لا يقال: إن الإسلام يدعو فقط إلى التفكير قبل الإيمان؛ أما بعده فيمنع ذلك، ومن هذه النصوص:
– قبل الإيمان: قال تعالى: ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت..)[ الغاشية: 17-20] .4
– بعد الإيمان: قال تعالى: ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك، فقنا عذاب النار) [آل عمران: 190-191] .5
ثم نطلب ثالثا من المتعلمين أن يقارنوا بين الخصائص المنهجية العامة للتفكير الفلسفي؛ وما تقرره هذه النصوص، وسيصلون إلى نتيجة مفادها؛ أن تلك الخصائص هي نفسها موجودة في هذه النصوص التي تخاطبنا وتدعونا إلى التفكير؛ بل جعلت ذلك عبادة يتقرب بها المؤمن إلى ربه.
وقبل دعوة المتعلمين إلى تحديد العلاقة بين الإيمان والفلسفة بناء على ما سبق؛ ندعوهم إلى ضرورة التمييز بين الدين والتدين، أو بين العقيدة والمعتقد، فالدين أو العقيدة؛ هي نصوص الوحي نفسها ودلالتها القطعية، أما التدين أو المعتقد؛ فهو ما يعتقده الإنسان المؤمن بناء على فهمه ووعيه بتلك النصوص، وقد يكون معتقدا صحيحا أو خطأ، إذ ليس كل معتقد يعتقده مسلم وينسبه للدين؛ فهو موافق للعقيدة الصحيحة بالضرورة، فما أكثر الاعتقادات المنسوبة إلى الدين وليست منه !
وأخيرا نصل إلى تحديد العلاقة بين الإيمان والفلسفة، حيث نقوم بمساعدة المتعلمين، بناء على المكتسبات السابقة؛ إلى استنتاج النتائج التالية:
– لا تعارض بين الفلسفة كمنهج ( التأمل، التحليل، الاستنتاج )، والإيمان كدين ( نصوص القرآن والسنة ودلالاتها القطعية)؛ بل هما شيء واحد، فديننا يدعونا، قبل التصديق والخضوع؛ إلى التفكير واستخدام العقل من خلال التأمل في مخلوقات الله تعالى، وتحليلها عقليا من أجل استنتاج الحقائق، ويرفض التقليد الأعمى الذي يعطل نعمة العقل.
– أما الفلسفة كمضمون، أي ما أنتجه وينتجه الفلاسفة من أفكار ونظريات وأطروحات؛ فبعضها يوافق الإيمان وبعضها يخالفه، مثله مثل الفهم البشري للدين، أي ما عبرنا عنه سابقا بالتدين، إذ ليس كل ما أتتجه المسلمون من أفكار فهي صحيحة، فالذي يقتل المسالمين بدعوى الجهاد في سبيل الله؛ هو حتما فعل مخالف للدين وإن انتسب إليه بالتأويل.
– الفلسفة مثلها مثل العلم، فإذا كان الإيمان يدعونا إلى العلم؛ فإنه أيضا يدعونا إلى الفلسفة، وكما يمكن أن تخالف بعض النظريات العلمية بعض حقائق الإيمان؛ فإن النظريات الفلسفية ينطبق عليها نفس الشيء، فالعلم يصحح أخطاءه بمزيد من البحث، والفلسفة تتجدد بتجدد النظر والنقد.
وفي الختام نعود إلى قراءة الوضعية المشكلة في سياق التقويم الإجمالي، وهنا لا نطلب من المتعلمين تحديد موقفهم؛ بل نطالبهم بتفسير الاختلاف بين خالد وكريم من خلال تحديد أسبابه، حيث إن كليهما على خطأ؛ فكريم أساء فهم الإيمان ويجهل الفلسفة، وخالد أساء فهم الفلسفة ويجهل الإيمان.
كانت هذه مناقشة خفيفة وموجزة لإشكالية العلاقة بين الإيمان والفلسفة، وقد حاولت قدر الإمكان مناقشها معرفيا وتربويا في سياق تربوي خاص، وهو كونها إشكالية تندرج ضمن درس تربوي موجه لفئة خاصة خلال مدة زمنية لا تتجاوز ساعتين، ومن الخطأ تعميق النقاش أكثر من هذا، ليمتد تاريخيا إلى ظهور الفرق الإسلامية وإشكالية النقل والعقل، فيحضر الغزالي بتهافته، وابن رشد بتهافت تهافته، وابن تيمية بدرء تعارض النقل والعقل وغيرهم، فذاك انزياح معرفي ومنزلق ديداكتيكي يجب الحذر منه، وأتمنى أن أكون قد وفقت في مساعدة بعض زملائي لتجاوز بعض الصعوبات المعرفية والديداكتيكية المتعلقة بهذا الدرس، والله المستعان.
الهوامش:
1.الإطار المرجعي للسنة أولى باك.
2.فصل المقال، ابن رشد الحفيد، تحقيق محمد عمارة، دار المعارف، ط 3، ص: 32.
3.صحيح أن الفلسفة فلسفات وتيارات ومذاهب، لكن هذه الخصائص التي ذكرناها مشتركة بين الجميع، وهي التي تحدد ماهية التفكير الفلسفي وتميزه عن باقي العلوم الأخرى.
4.الدعوة هنا إلى النظر في مخلوقات الله؛ هو دعوة للتأمل والتحليل والاستنتاج، استنتاج حقيقة وجود الله تعالى، وليس مجرد نظر بصري للتنزه.
5.لنلاحظ كيف مدح الله تعالى أولى النهى من المؤمنين الذين يذكرون الله في جميع أحوالهم؛ بالتفكر في قدرة الله تعالى، فينزهون فعله في الخلق عن العبث، فيزدادون إيمانا مع إيمانهم.
بارك الله فيك أفحمت ويسرت. هذا ما أروم إليه في درسي مع المتعلم وقد أفدتني كثيرا.