كان ذلك خلال أيام عيد فطر هذه السنة، حين رجعت قافلا من حاضرة الريف الناظورية في اتجاه السعيدية. أدركتنا فترة مابعد الزوال بشاطئ أركمان (أقر بشاطئ للناظور ويبعد عنها ب حوالي 25 كلم) فقررت وأسرتي الصغيرة الاستجمام قليلا بهذه المحطة المتوسطية.
جلست تحت المظلة الشمسية بعد ما لطفت مياه المتوسطي شعوري بالحر، أثار انتباهي صوت منبعث من خلفي يتغنى بلحن شجي بعبارات اسبانية سلسة وبنبرة مغربية واضحة، مالبثت الكلمات أن تحولت إلى الريفية، تكررت فيها عبارة “لاتحزن فإن الغد سيكون أفضل”.
أنهى صاحبي فقرته الفنية، توجهت بنظري نحوه مظهرا تقديري لهذه الموهبة الفنية، سألته عن العبارة الريفية التي تعني “بالصحة”. أجابني أحد رفاقه: نفس العبارة الدارجة. قلت له:”بالصحة” وهنأته على الأداء الرائع واللحن الجميل(لست من أهل الفن ولكن لي مخالطة بهم وتقدير للمبدعين منهم خاصة الذين يسخّرون مواهبهم للبناء). شكرني على الاهتمام، وأهداني ابتسامة فنية.
سألني أحد جلسائه بالريفية عن المنطقة الأمازيغية التي أنتمي إليها، أجبته :”نحن في المغرب بحمد الله امتزجت دماؤنا، الدم العربي امتزج بالدم الأمازيغي والريفي، فأنا مثلا أمازيغي النسب من جهة الأم، عربي من جهة الأب”.
تدخل الفنان هذه المرة ليعبر عن شكواه الفنية، قائلا: “هذا التنوع لم يتم إنصافه بشكل ديموقراطي في بلادنا”. أجبته :”كثيرة هي الأمور في بلادي التي لم تعط حقها”، لكن استدركت قائلا :”متى تم عرض أي قضية بمثل هذا الإبداع، وبلغة القلوب والمشاعر المشتركة، فستفرض نفسها بأي لغة تم التعبير عنها”. ابتسم صاحبي لهذا الاعتراف والتقدير.
ثم استأنف كلامه ليؤكد أن هذا الحرص على الحق في التنوع تمليه حاجة واقعية وليس امتداد لمشاريع عنصرية بغيضة، “إن هذا الفن الذي قدمته قبل قليل ، فن ملتزم،كلماته راقية وقضيته عادلة”.
اتسعت ابتسامتي أمام هذا الوعي العميق الذي يغذي عقول هذه الصفوة من شبابنا الريفيين. قلت له: “اطمئن فالغد سيكون أفضل مادمنا حريصين على مايجمعنا مستثمرين ما يميِّز كلا منّا”.
عاد صديقي الريفي لقيثارته يبثها همومه، التي عبر عنها هذه المرة بالعربية. شعرت حينها أن لغة الفصاحة التي نبحث عنها ليست فصاحة الألسن بل فصاحة القلوب حين تتشبع بقيم الحياة. لايضر صاحبها أن يعبر عنها بأي لغة حققت البيان وبلّغت المقصود.
ولعل هذا المعنى هو الذي حذا بعلمائنا وأدبائنا للتعبير بكل اللغات المحلية والوطنية، وكانت خدمتهم للغة العربية باعتبارها لغة القرآن، ومفتاح فهم الوحي الإلهي وعاء الهداية والرشاد، دون أن يفقد اللغة الأم التي رضعوها مع الألبان حضورها وبريقها.
شعرت بيد تمتد لي حاملة حبيبات “كوكاو مقرمشة” من فاكهة الناظور و”باروكها”، شكرت زوجتي وسألتها أن تزيد من نصيبي، ثم وجدتني أتوجه نحو صديقي الريفي وصحبه لأقدم لهم حبيبات قليلة معها كل الحب والتقدير. قلت بعبارتنا المغربية “نتشارك الطعام”، شكر لي أصدقائي الريفيين هذا المعروف، وقابلوني بحب عميق ظهر على محياهم المشرق.
لم ألبث إلا لحظات حتى غادرنا المكان بعد أن حييت الأصحاب الريفيين على أمل اللقاء.
افترقنا ومازالت ذكراهم الطيبة تنعش وجداني، ونغمة صوتهم ترن في أدني:”لاتحزن فالغد سيكون أفضل”.
د.نور الدين عادل