مقدمة : يميل الإنسان دائما إلى التجرد من مسؤولياته البينة والخفية ،
ويبذل ما يستطيع من جهد، ويسخر ما أوتي من قدرة على الجدال والمراوغة، لتبرئة نفسه من أخطائها وانحرافاتها ، وهكذا نجده ينسب ما يقع فيه من المخالفات الشرعية وما يقارفه من الذنوب والآثام ، إلى جهات خارجة عن ذاته دون اعتبارأي دخل لها فيما يحصل له من غواية وفتنة .
وهذا الموضوع يهدف إلى بيان نصيب النفس من المسؤولية في كل زيغ وانحراف، تماما كمسؤوليتها عما يكون عليه حالها من الاستقامة والصلاح.
هل ظاهرة تبرئة النفس من مسؤوليتها عما تقع فيه من ضلال وغواية وفتن ونسبة ذلك إلى عوامل خارجية ظاهرة شائعة في واقعنا بشكل: كبير؟ نسبي؟ أو ضعيف؟
لا شك أننا، جميعا واقعون في هذا الأمر، ومحتاجون إلى معرفة وجه الحق فيه، حتى لا نتمادى في مخادعة أنفسنا واستمراء مهادنتها، واتباع أهوائها ونكران مسؤوليتها عن هفواتنا وأدوائنا وغفلتنا، لعل الله ينفعنا بذلك ويأخذ بأ يدينا إلى الحق وإلى صراطه المستقيم.
ما هي الأدلة من الكتاب والسنة على مسؤولية الإنسان عن أعماله في الحياة الدنيا حسنها وسيئها؟.
لقد تواترت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي أخبرت الإنسان عن دوره في هذه الحياة الدنيا، والمتمثل في القيام بأمانة الاستخلاف في الأرض، المقتضي مسؤولية بني آدم عن أفعالهم كلها، ما حسن منها وما قبح، وتعرضهم على امتداد الوجود الدنيوي للابتلاء بهذه الأعمال والافتتان بها، ثم التعرض للمحاسبة عليها بين يدي العلي القدير يوم الحشر، فمن أحسن كوفئ بالجنة، يتنعم فيها خالدا مخلدا، ومن أساء عوقب في نار الجحيم وعذابها المقيم.
قال تعالى ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور)[1].
ومن مقتضيات مسؤولية الإنسان، أن الله تعالى زوده بالإمكانيات والقدرات التي تجعله مالكا لأمر نفسه ، حرا مختارا في تصرفه، مستعدا لأن يصلح ويفسد، ويؤمن ويكفر، ويرقى ويتسامى أوينحط وينحدر، ويستقيم أو ينحرف عن نهج الشرع وهدي الدين.
قال تعالى مؤكدا هذه الخاصية البشرية (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )[2].
فقد ركب الله في النفس قابلية الفجور كما ركب فيها قابلية التقوى، والإنسان حر في توظيف أي من القابليتين الخاضعتين بالأساس إلى إرادته واختياره.
ما أ مثلة قابلية التقوى وقابلية الفجور في النفس البشرية؟
- § فمن قابلية التقوى في ذات الإنسان، ما جبلت عليه فطرته من تطلع لمعرفة الله وتوحيده، وتقديسه وإجلاله، واستغفاره ومحبته، والتوكل عليه والإنابة إليه، وحب الحق والجمال والعدل، والمكارم والفضائل الحميدة، قال تعالى(فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها )[3].
- § ومن قابلية الفجور الميل أو الزيغ، الذي قد تندفع به النفس للإثم بإلحاح من الرغبة المتأججة لإشباع شهوات الجسد الفائرة، واستجابة لرعونات النفس وأهوائها الجامحة، قال تعالى (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )[4].
- يرى بعض الناس أن الإنسان يخضع لضغط قوي من الجهات الخارجة عن الذات والتي توقع به في المعصية فما حيلته في صد هذه الفتن الهوجاء عن نفسه؟
- فالإنسان هو المسؤول عن تحريك قدرات نفسه وتوجيه طاقاتها في اتجاه معين دون آخر، مع الإقرار بوجود عوامل للفتنة وأسباب خارجية، لا تستقل بالفعل والتأثير في النفس إلا بموافقتها، ورغبتها في الاستعانة بهذه العوامل المساعدة، لإنفاذ مراداتها ورغباتها وتحقيق نتائجها في الواقع.
وهكذا نجد في اتجاه الصلاح والاهتداء والاستقامة: الفطرة السليمة مدعومة بالوحي، قرآنا وسنة، وآيات الله في الأنفس والآفاق، وبعبارة أخرى نجد الروح المنفوخة وما يزكيها من بينات الوحي المقروء كتابا وسنة، والآيات المنشورة في النفس والكون.
ونجد في اتجاه الضلال والغواية والانحراف: الجسد بشهواته ونزواته المنحطة، وإبليس بوساوسه وتزييناته وتلبيساته، ومباهج الدنيا وزخارفها ومفاتنها التي تسبي العقول والألباب.
ومدار تأثير كل هذه العوامل بنوعيها على قصد النفس وتوجهها، الذي يفتح أبوابها على مصراعيه، لتفعل فيها فعلها المعلوم بالهداية والرشاد، أو العماية والغواية.
وهذا يعني اشتمال الذات الإنسانية على أسس الهداية والضلال، وتحكمها الكامل في تقرير مصيرها، وبناء جميع أفعالها المحمود منها والمذموم، وهو ما عبر عنه الشاعر بقوله:
دواؤك فيك وما تبصر * وداؤك منك وما تشــــــــعر
وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
إنه غاية العدل الإلهي القاضي بمنح الإنسان كل ما هو في حاجة إليه، ليقوم بإدارة أمر نفسه وتوجيهها إلى ما يشاء ويختار، من أعمال وتصرفات وأخلاق، فيها الإحسان والإساءة أو الرشد والغي.
فإن أحسن الإنسان فلنفسه، وإن أساء فلنفسه ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)[5]
(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)[6].
فكل الآيات القرآنية المشيرة إلى عمل الإنسان حسنه وسيئه تقرر مسؤولية المكلف الكاملة عنه وتستبعد خضوعه لأي إكراه أو قسر من العوامل الأجنبية عن ذاته.
ثانيا: مصادر الفتن راجعة إلى النفس البشرية:
يبدو مما سبق وكأن النفس هي مصدر كل فتنة يقع فيها الإنسان فهل هذا صحيح؟.
لنؤكد بداية أن النفس هي مصدر كل فتنة وغواية، مهما تعدد ت المصادر الخارجية، والتي تزيدها قوة واستحكاما وبروزا على صفحة الواقع المعيش، وهذه الحقيقة أوضحتها الآية: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) [7]،كما تضمنتها نصوص من القرآن كثيرة منها: ما حكاه عن حال المنافقين يوم القيامة عندما يغشاهم ظلام جهنم ويحال بينهم وبين المؤمنين، فيسألونهم شيئا من النور، ويجري بينهم حوارصريح: (ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور)[8] ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة )[9]، فالنفس المهتدية بهدي الشرع تلازم لوم نفسها، وتداوم عتابها لذاتها، لما ترسخ فيها من اليقين بأنها هي مصدر ما تقع فيه من المعاصي والموبقات، وفي الحديث:(الكيس من دان نفسه (أي حاسبها ) وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)[10].
لنمحص هذه الحقيقة بعرضها على قصص قرآنية لأخطاء وقع فيها أنبياء مكتوب لهم العصمة فنبحث فيها هل كانت نفوسهم بريئة تماما أم مسؤولة نسبيا أو كلية؟
إن أول فتنة وقع فيها الآدميون، هي فتنة آدم وحواء عليهما السلام ،عند ما أكلا من الشجرة الممنوعة في الجنة، ورغم أن هذه المخالفة لأمر الله، كانت بسبب نسيانه للتوجيه الرباني وخضوعه للإغواء الشيطاني الذي أقسم فيه إبليس أنه لهما ناصح أمين، فإن آدم لم يتخل عن لوم نفسه وتحميلها مسؤولية الخطإ الحاصل منه، قال تعالى (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أوتكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)[11] وفي هذا تأكيد لأصل ثابت وهو كون النفس مسؤولة عن كل انحراف تقع فيه سواء كان دورها فيه خفيا أو جليا.
وكذا اعترف موسى عليه السلام كليم الله بذنبه حين استغاثه رجل من شيعته على الذي من عدوه فضربه موسى فقتله، فهو مع إقراره بأن ما فعله من عمل الشيطان، العدو المضل المبين، فإنه لم يخرج نفسه من دائرة المسؤولية، عن هذا الفعل الذي نتج عنه القتل، دون قصد منه ( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم )[12]. فما من عدو أشد على الإنسان ولا أخطر على سعادته وسلامته في الدنيا والآخرة، من نفسه ذاتها، فهي بحق مصدر كل ما يحصل له من شقاء وانحطاط وعماية وفتنة عارمة، يضل بها سعيه، ويختل نتيجة لها سلوكه، ويزيغ بها قلبه، ويبعد صوابه ورشده.
لكنها أيضا إذا اهتدت بهداية الله، وسلكت نهج دينه وشرعه، كانت مصدر الخير والرشد والصلاح، وجلبت بذلك للإنسان رضى الله والخلود في جنات النعيم، وجنبته سخط الله وعذابه في نار السعير.
هل يمكننا أن نخلص إلى حقيقة أخرى وهي قابلية كل مجالات الابتلاء بدون استثناء لتكون مصدرا للهداية أو الغواية؟.
يمكن القول بأن كل تكليف شرعي سواء كان أمرا أو نهيا، فهو مجال لابتلاء الإنسان واختبار إرادته، هل سيهتدي بفعل الأمر واجتناب المنهي عنه، أم أنه سيضل ويغوي بترك الأمر وفعل النهي.
فثمة انسجام كامل بين طبيعة الإنسان ذات قابليتي الهداية والغواية، وطبيعة تكاليف الدين ومجال الابتلاء بها، التي لها هي أيضا قابلية الإفضاء إلى الهداية أوإلى الغواية، وذلك ما يصدق حتى على ما يعتبر مصدرا أساسيا للهداية، من قرآن وسنة وآيات الأنفس والآفاق المبثوثة في الوجود.
هل يمكن أن يكون القرآن الذي هو مصدر الهداية ومن أجلها أنزل، وسيلة للإضلال أيضا؟
القرآن الكريم أنزله الله هاديا البشر إلى خالقهم، ومنهجه الذي ارتضاه للناس لينعموا في رحابه بالعزة والكرامة والطمأنينة في الدنيا والآخرة، (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المومنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا)[13].
هذا القرآن العظيم ذو قابليتين اثنتين، قابلية الهداية، وهي الأصل فيه والغاية من نزوله، وقابلية الضلال، وهي شيء طارئ عليه وراجع إلى طبيعة النفس المتلقية له، والتي إذا اختارت الكفر بالله أو التكذيب بآياته البينات، لم تظفر منه إلا بمزيد التيه والإمعان في الغي والعمه المطبق، قال تعالى(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب )[14].
لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون تأثير الأشياء في النفس البشرية تابعا لحالها وإرادتها، وقبولها لتأثير الشيء وانفتاحها عليه، أو رفضها لذلك التأثير وانغلاقها تجاهه، بحيث عند الاختيار الثاني ينقلب التأثير إلى ضده تماما، كما ينقلب القلب من التعرض لتأثيرمعلوم، إلى الإعراض عنه ومنع حصوله.
فما يكون لشيء من أمر الهداية والضلال أي تأثير بذاته في ذات الإنسان، إلا بموافقة ذات الإنسان ومطاوعتها له، وإذا أبت وعاندت استحال التأثير، وتوقف بل قد ينعكس على النفس في اتجاه مضاد .
لذلك جاء خطاب القرآن للمكلفين بالأحكام والتوجيهات، مسبوقا بنداء: يأيها الذين آمنوا، لأنهم المعنيون بأوامر القرآن ونهيه وبيا ناته ومضامينه، أما الكافرون به ما داموا على صفة الكفر، فإنه مضروب بينهم وبين علم القرآن ونوره وهديه بحجاب عازل لقلوبهم عن تأثيراته النافذة في أعماق النفس،( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا (نفاقا وكفرا) إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون )[15].
وكما يكون الأثر الطيب في النفس، منعكسا بحسب ما تنطوي عليه من جحود له وإنكار، فكذلك لا ينفذ الأثر الخبيث في النفس إلا بتواطئها ورضاها، أو إحجامها عن استنكاره ورفضه.
وماذا عن إبليس أليس هو من يغوي النفوس ويحملها على معصية الله تعالى؟
إن أثر إبليس عن طريق وساوسه وكيده، وتلبيسه الحق بالباطل في نظر البشر، لا يبلغ مداه ومفعوله في النفس، إلا إذا سمحت له ومالت مع تزيينه واستمرأته ،( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين، قال هذا صراط علي مستقيم (حق علي مراعاته)، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (تسلط وقدرة على الإغواء) إلا من اتبعك من الغاوين، وإن جهنم لموعدهم أجمعين)[16].
فواضح من هذه الآية ومثيلاتها في الموضوع، أن الغواية لا تكون من جانب إبليس بالوسوسة والتزيين فحسب، وإنما تكون بالأساس نتيجة لرغبة النفس فيها وسعيها في طريقها واتخاذها منهجا ومسلكا لها في الحياة، أو بسبب تخاذلها وترك الحزم في التصدي لإملاءات الشيطان وإغراءاته المكشوفة في حين من الأحيان.
ولا يستطيع إنسان أن يدفع عنه المسؤولية عما يقع فيه من فتنة وغواية، متذرعا بمكر الشيطان ونفخه ونفثه في صدره آناء الليل وأطراف النهار، لأن سلطانه على النفس رهين بخضوعها وانصياعها التلقائي، واستجاباتها الحرة ،( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل، إن الظالمين لهم عذاب أليم )[17].
فالذي يغوي الإنسان في حقيقة الأمر، هي نفسه، أما الشيطان فيأتي دوره في المرتبة الثانية، حتى ولو كان هو البادئ بالإغراء والتحريض والفتنة، وفي المقابل، تكون معاداة الشيطان واتخاذ الحذر منه مفضية للهداية وميسرة لها.
وماذا عن شياطين الإنس ودعاة الضلال الذين يعرضون الأباطيل في قوالب الحق فيوقعون بالأتباع في حبائل مكرهم وكيدهم الذي يفوق كيد الشيطان الجني نفسه؟
كثيرا ما يخون المرء نفسه عندما يسلك مسلك لوم الآخرين، من شياطين الإنس الضالين المضلين، ويخدعها بالرضوخ لأفكارهم وأباطيلهم، ويدعي براءة ذاته من أية مسؤولية، فيما يحصل له عن طريقهم من فتنة وارتباك، ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين أستضعفو ا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين أستضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين )[18].
فالمتبعون ينفون يوم القيامة حين تتكشف الحقائق وتزول الغشاوات عن البصائر والأبصار، المسؤولية الكاملة عن فتنة التابعين، ويثبتون لهم نصيبهم من المسؤولية في تقبل غواياتهم وتضليلهم إياهم.
وكما يملك دعاة الفتنة والضلال قدرة على إغواء من في قلبه قابلية لاتباعهم واعتماد توجيهاتهم الخاطئة على درب الحياة، فإنهم يمثلون مصدر استبصار، واتعاظ واعتبار لذوي القلوب السليمة الخالية من الزيغ والفساد، فكلما أمعنوا النظر في مواقفهم وأحوالهم، ودققوا في أفكارهم ومبادئهم واستعرضوا مآلاتهم وعواقب سعيهم المنتهية إلى سوء الخاتمة، زادهم ذلك إيمانا وتثبيتا بالحق الذي نهجوه، وساروا على طريقه المبين ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )[19]،( يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم )[20]
فالفاتنون المبطلون عند ما يتأمل الإنسان أحوالهم، تقوده لا محالة إلى خلاف نهجهم، ويقوم مسلكهم دليلا ساطعا على إفلاس شرعتهم وخسران مسعاهم، وبالتأكيد على صواب ما يعارضونه من مبادئ الدين وقيمه السمحة فيكونون بهذا وبغيره عاجزين عن تغيير ما انطوت عليه القلوب المؤمنة من الهداية والحرص عليها.
هل نخلص من كل ما تقدم أن الإنسان قادر على التصدي لكل فتنة مهما كانت طاغية تخترق كل الحصون الإيمانية؟ وهل من أمثلة على قدرة النفس على الثبات أمام الشهوات والتعذيب مثلا؟
1 – مثال ثبات النفس أمام الشهوة:
- § ما رواه البخاري عن السبعة الذين يضلهم الله يوم لاضل إلا ضله ومنهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله.
- § وما ورد في صحيح مسلم عن أصحاب الغار الثلاثة الذين توسل كل واحد منهم بصالح عمله ومنه َالذي قَالَ “اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَقُمْتُ عَنْهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً فَفَرَجَ لَهُمْ”
- §وقصة الرجل المسلم الذي عشق امراة رومية حتى إذا جاءت عنده إلى منزله وتعشى معها لم يزن بها خوفا من عذاب الله لكن في الصباح لما مرت أمام دكانه بهره جمالها من جديد وتوسل إليها مرة أخرى عن طريق عجوزكما في المرة الأولى، فقبلت على شرط أن يدفع لها ثلاثة أضعاف ما سألته في المرة الأولى ويتكرر معها نفس الموقف، ويراها مرة ثالثة فتقع في قلبه وترفع المبلغ المالي أضعافا مضاعفة، فيفكر أن يبيع دكانه ليستجيب لشهوته ويقول لنفسه من أنا حتى أتعفف عن هذا الجمال الفتان أأنا أبو بكر أم عمر ويعزم أن يزني بها في هذه المرة لكن تحضره خشية الله ويذكر نفسه بأنه لاطاقة له بعذاب الله فيتراجع رغم المبالغ المالية التي قدم لتلك الفاتنة ثم ينادي المنادي بأن يرحل المسلمون وإلا صودرت أموالهم وهجروا عن مناطق نفوذ الحكم الصليبي فيغادر البلدة وبعد مدة انتصرالمسلمون على الصليبين وولى صاحبنا التاجر أمر النساء المسبيات فلما نظر إليها عرفها فذكرها بقصته معها وتزوجها ثم أسلمت ووجد معها المال الذي قدمه إليها كاملا غير منقوص فجزاه بعفته عن الحرام أن عاد له ماله وعادت إليه حليلة طيبة.
2 – ثبات النفس أمام الألم والتعذيب:
- § قصة سحرة فرعون الذين لم يثنهم تهديد فرعون لهم بأشد العذاب عن الإصرار على الإيمان
- § قصة ماشطة بنت فرعون: فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها، فقالت: تعس مَنْ كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لك من إلهٍ غير أبي؟ فقالت: إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له، فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقتْ، فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وأقري بأني إلهك، قالت: لا أفعل فمدَّها بين أربعة أوتاد، ثم أرسل عليها الحيات والعقارب، وقال لها: اكفري بإلهك وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين، فقالت له: ولو عذبتني سبعين شهرًا ما كفرت بالله. وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على قرب منها. وقال لها: اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على قلبك، وكانت رضيعًا، فقالت: لو ذبحت من على وجه الأرض على فيَّ ما كفرت بالله عز وجل، فأتى بابنتها الصغرى فلما أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالا وقالت: يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتا في الجنة. اصبري فإنك تُفْضِين إلى رحمة الله وكرامته، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله الجنة.
ثالثا : خاتمة
يتضح مما تقدم أن الإنسان هو صاحب المبادرة في كل ما يصير إليه حاله من الهداية والغواية، مهما بلغت درجة الفتنة، وقدرتها على توجيه اختيار الإنسان دون أن تملك أبدا أن تتحكم فيه تحكما مطلقا ، تتلاشى تجاهه حرية الإنسان ومسؤوليته .
والخلاصة التي نستنتجها ختاما فيما يتعلق بمواجهة أسباب الفتن الخارجية، هي كما يلي .
1 – الاعتقاد الجازم بأن لا شيء قادر على فتنة الإنسان وإغوائه رغم أنفه، وأن ما من فتنة يقع فيها إلا وستعبر إلى قلبه بعلمه وموافقته واختياره ، وأنه لن يفقد حريته تماما في رفض ما يضره ويفسد أخلاقه وعمله، ويجلب له تعاسة الدنيا والآخرة، وسخط الله وتأنيب ضميره .
2 – إذا فشل الإنسان في مقاومة دواعي الفتنة، وعجز عن صدها ودفعها عن نفسه، فإنما يكون ذلك بسبب تقاعسه في اتخاذ التدابير الشرعية، للوقاية من الفتن والاقتدار على مواجهتها واتقائها ، ومن تلك التدابير: مبدأ التقوى والاحتياط بعدم الاقتراب من المحظور، واستحضار القاعدة: (كل ما يؤ دي إلى الحرام فهو حرام ) وعدم المغامرة بالرعي حول الحمى باجتناب الشبهات، والمتشابهات المفضية حتما إلى مقارفة المحارم واقتحام الكبائر .
3 – تعجيل التوبة فور وقوع الفتنة، كي لا تستمرأها النفس فتزداد افتتانا بها، مما قد يجعل الخروج من دائرتها عسيرا ومتباطئا عند ما تألفها النفس وتعتادها.