المقاصد القرآنية في فكر النورسي

0

                                    

مقدمة: ما من شك أن بحث موضوع المقاصد والحكم في فكر الشيخ بديع الزمان النورسي،

يكتسي أهمية بالغة اعتبارا لارتباطه الشديد بالقرآن الكريم؛ وطول نظره في مضامينه ومعانيه، من خلال معاناته للفهم عن الله؛  والدفاع عن نهجه الرباني، لإرشاد قومه لما فيه صلاحهم وسعادتهم ، ومقاساته المحن المتوالية في سبيل حمل بشائره المباركة إلى الناس، ودعوتهم إلى رحاب هدايته في الدنيا وخلاصه في الآخرة.

أولا: مفهوم المقاصد ومراتبها

     المقاصد جمع مقصد، وهو ما تقصده وتريد الوصول إليه،فهو مقصود لك ولسعيك. ولذلك يستعمل المقصِِد والمقصود بمعنى واحد، ومقاصد الشريعة هي الغايات المستهدفة والنتائج والفوائد المرجوة من وضع الشريعة جملة ومن وضع أحكامها تفصيلا[1].

وذهب الدكتور طه عبد الرحمن[2] في تحديد معنى مقصد إلى كونه لفظا مشتركا بين معاني ثلاثة وهي:

1-  قصد بمعنى ضد الفعل (لغا) باعتبار اللغو هو الخلو عن الفائدة وصرف الدلالة، فيكون المقصد هو عكس ذلك المتمثل في حصول الفائدة أو عقد الدلالة

2-   قصد بمعنى ضد الفعل (سها)، باعتبار أن السهو هو فقد التوجه أو الوقوع في النسيان، فيكون        المقصد هو عكس ذلك وهو حصول التوجه والخروج من النسيان

3-    قصد بمعنى ضد الفعل (لها)، باعتبار أن اللهو هو الخلو عن الغرض الصحيح وفقد الباعث المشروع.

  وأوضح الشيخ بديع الزمان النورسي اختلاف مراتب مقاصد الدين بقوله: “فكما أن لكل من الألماس والذهب والفضة والرصاص والحديد قيمتها الخاصة، وخاصيتها الخاصة بها، وهذه الخواص تختلف، والقيم تتفاوتكذلك مقاصد الدين تتفاوت من حيث القيمة 

والأدلة “[3]. 

وأهم مراتب المقاصد اثنان المقاصد العامة والمقاصد الخاصة التي تندرج تحتها تقسيمات أخرى. وقد عرف الشيخ الطاهر بن عاشور مقاصد التشريع العامة فقال بأنها:” المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها،بحيث لاتختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا: أوصاف الشريعة وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع  كثيرة منها”[4].

      وبين الأستاذ علال الفاسي المقصد العام للشريعة على النحو التالي:”المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ  نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع”[5]

      وبعيدا عن التعاريف الأصولية يعرف الأستاذ بديع الزمان النورسي ما سماه المقاصد الربانية تعريفا تربويا لطيفا فيقول:

   “أهم المقاصد الربانية في خلق الموجودات، هو تعريف وتحبيب نفسه سبحانه إلى ذوي الشعور، ودفعهم إلى تقديم حمدهم وشكرهم وثنائهم له وحده.[6] ويضيف في موضع آخر:”من بين الناس، وهم الذين انسجموا مع المقاصد الربانية، وحببّوا أنفسهم إليه بالإيمان والتسليم، وجعلهم أولياءه المحبوبين المخاطبين له، وأكرمهم بالمعجزات والتوفيق في الأعمال وأدّب أعداءهم بالصفعات السماوية”[7].

      وجمع علال الفاسي مقاصد الشريعة العامة والخاصة في التعريف التالي:”المراد بمقاصد الشريعة، الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها”[8]

      وأما المقاصد الخاصة فهي التي يقصد الشارع إلى تحقيقها في مجال محدد من مجالات الشريعة مثل مقاصد الزواج، مقاصد المعاملات المالية،مقاصد الصلاة، مقاصد الزكاة وهكذا.

      وهناك المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع في كل حكم من أحكام الشريعة، مثل إيجاب شيء أو تحريمه أو الندب إليه أو الإتيان به على هيأة وطريقة مخصوصة، مثل مقاصد وجوب الركوع والسجود في الصلاة، ومقاصد تحريم الغيبة أو شرب الخمر، بحيث لايتصور تشريع القيام بفعل أوتركه إلا لمقصد عظيم وحكمة بالغة، علمها الناس أو لم يعلموها أو اختلفوا في إدراكها.

      وقد يعبر الفقهاء عن المقاصد الجزئية للشرع بالحكمة أو علة الحكم أو السبب أو السر أو  المعنى، كما يوجد ذلك عند أبي إسحاق الشاطبي وأبي حامد الغزالي والطبري وغيرهم كثير.

ثانيا: فوائد المقاصد المنهجية والتربوية.

لاعتماد المقاصد فوائد جمة في مجالات البحث والفهم والتحليل لنصوص الشرع وأحكامه؛ نقف منها عند الفوائد المنهجية والتربوية.

أ) الفوائد المنهجية

وهي عديدة نجمل أهمها فيما يلي:

– تمييز المقاصد بحسب مراتبها

      فبعد تقرير الأستاذ النورسي تفاوت مقاصد الدين من حيث القيمة والأدلة. أشار إلى فائدة التمييز بين مراتبها؛ ضاربا لذلك مثلا كعادته في تقريب المفاهيم الغامضة من الأذهان فقال:”إن من أعطى جوهرة أو ليرة ذهبية في موضع فلس أوعشر بارات، يحجر عليه لسفهه،

 ويمنعمن التصرف في أمواله.

وإذا انعكست القضية فلا يسمع إلا كلمات الاستهزاء والاستخفاف، إذ بدلاً من أن يكون تاجراً صار 

محتالاً يسخر منه. كذلك الأمر في من لا يميز الحقائق الدينية ولايعطي لكل منها ما يستحقه من حق 

واعتبار، ولا يعرف سكة الشريعة وعلامتها في كل حكم. كل حكمشبيه بجزء ترس يدور على محوره 

لمعمل عظيم. فالذين لا يميزون يعرقلون تلك الحركة. مثلهم في هذا كمثل جاهل شاهد ترساً صغيراً لطيفاً في ماكنة جسيمة، وحاول الإصلاح وتغيير ذلك الوضع المتناسق.      ولكن لعدم رؤيته الانسجام الحاصل بين حركة الترس الصغير والماكنة الكبيرة وجهله من حيث

 لا يشعر ويكون وبالاً على نفسه.[9]

      فمعظم الانحرافات التي يقع فيها الناس في فهم الدين وممارسته غالبا ما تكون نتيجة جهل بحقائق الشرع ومراتب أحكامه وتكالفه، مما يوقع في تقديم ما شأنه التأخير أو تأخير ما شأنه التقديم، وكذا الاجتهاد في طلب ما ندب إليه الشرع على حساب التفريط فيما فرضه وأوجبه.

      وكلما استوعب المكلف مقاصد الشرع ومراتبها أمكنه تجنب التشدد على النفس حيث يقبح، واستطاع التيسير عليها حيث يحسن، وتحققت في ذاته ثمرات التدين المقصودة من التشريعات، وهدي إلى الصراط المستقيم.

2– التمييز بين مقاصد الشرع ووسائله.

إن الجهل بمقاصد الشرع يؤدي بالمكلف إلى عدم التنسيق بين الوسائل والمقاصد، فيسلك مسالك فاسدة لغايات حميدة،  أو يعكس الأمر فيركب وسائل مشروعة لعمل مشبوه أو بيِن الحرمة. وقد يجتهد في إتقان الوسائل دون أن يعبأ ببلوغ ما تفضي إليه من مقاصد.

قال الشهاب القرافي:”وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل، وهي الطرق المفضية إليها”[10]

ويقول ابن قيم الجوزية: “لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع بها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها. فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل.”[11]

3– إدراك حقائق الدين والاستنارة بها في معضلات الحياة.

لا تحصل حقائق الدين من البحث العمودي المنحصر في فروع الشريعة وحدها، ما لم تشفع بدراسات أفقية تحاول بناء نظرة شمولية مستوعبة للجزئيات والتفصيلات الفرعية، والتي تكسب الدارس الوعي بالمقاصد العامة للشريعة، بحيث في ضوئها يتعمق إدراكه للمقاصد الخاصة، ويزداد علمه بروح الشريعة، المانعة من اختلال الرؤية وغموضها، إزاء العديد من قضايا الحياة ومعضلاتها. “فسواء فكرفي قضية سياسية أو اقتصادية أو دستورية قانونية أو اجتماعية أو تربوية أو نقابية أو حقوقية، فلا بد أنه سيكون مستحضرا لتلك المقاصد.. وبذلك يعطي كل ذي حق حقه ويحفظ  لكل ذي حظ حظه ويحترم لكل ذي مكانة مكانته”[12]

ب) الفوائد التربوية

وهي التي تبرز ثمارها في ممارسة الدين والتحلي بأخلاقه والقصد إلى غاياته واستلهام أسراره وتوجهاته الهادية لأصوب فهم وأقوم سلوك وعلى رأس تلك الفوائد:

1-    تصحيح العلم بالشرع و تقويم الفهم.

تواجه الناظر في مصادر الشرع كتابة وسنة والمتأمل في الأحكام الشرعية، عقبات ذاتية وموضوعية، تجعله يبتعد بفهمه عن مراد الوحي وكبد حقائقه.

فمن العقبات الذاتية تدخل هوى النفس ونظرتها الخاصة للأمور،  والتي تتضافر عدة عوامل نفسية في بلورتها، بحيث لا تخلو من زيادة أو نقصان في الأخذ باعتبار أوآخر، وفي اختلال التقدير لجانب على حساب جانب آخر، لذا قرر أهل النظر أنه لا يسلم عالم من هوى قليل أو كثير، فما من شك أن أول اختبار يواجهه العبد،  هو فهمه لخطاب الله فهما سليما يوافق مراده تعالى من كلامه، دون إغراق في التأويل البعيد الذي يتجاوز حدود المقاصد .

نقل السيوطي عن أبي حامد الغزالي أنه قال في كتابه (حقيقة القولين) :”مقاصد الشرع قبلة المجتهدين، من توجه إلى جهة منها أصاب الحق”[13] ففقه المقاصد يقي المجتهد سوء الفهم والزلل في الترجيح بين المصالح والأضرار، ويجعله أقرب لروح الشرع فيما يأخذ به أو يذره.

2 – تسديد النية وترشيد السلوك

فكلما علم المكلف قصد الشارع من الشريعة عموما، تيسر عليه فهم أحكامها في كل مجال من مجالات العمل اعتقادا وعبادة وسلوكا، فمن عرف مقصد الإسلام من الصوم مثلا اجتهد في تحقيق ذلك المقصد في صيامه، وازداد حرصه كي يكون وفيا له مهتديا به في تفاصيل ممارسته لهذه الشعيرة.

وإذا استحضر المقاصد العامة للشريعة، وضم إليها المقاصد الخاصة بكل تكليف من التكاليف، استرشد بهدي تلك المقاصد إلى ما يلزم أن تكون عليه نيته في الأمر أو النهي، وأمكنه أن ترتسم في ذهنه صورة السلوك القويم والنهج السديد، فيتحاشى الانحراف في التنفيذ والتقاعس عن تحقيق الحكم والمقاصد.

ثالثا: مميزات المقاصد في فكر النورسي (المقاصد القرآنية نموذجا)

اعتمد الشيخ النورسي منهج الاستقراء في تحديد مقاصد القرآن، فلم يكن ذلك عسيرا عليه ، وهو الذي عاش مع القرآن وله؛ واستنار بأنوار هاديته،  واعتبر رسائل النور التي اشتملت على زبدة أفكاره نوعا من تفسير القرآن الكريم.

فهو يرى “أن القرآن الكريم يذكر في أكثر الأحيان قسماً من الخلاصات والفذلكات في خاتمة الآيات. فتلك الخلاصات: إما أنها تتضمن الأسماء الحسنى أو معناها، وإما أنها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكر والتدبر فيها.. أو تتضمن قاعدة كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها في تلك الفذلكات بعض إشارات من حكمة القرآن العالية، وبعض رشاشات من ماء الحياة للهداية الإلهية، وبعض شرارات من بوراق إعجاز القرآن.”[14].  

    ويواصل تجلية الأمر بقوله:” إن القرآن الكريم – ببياناته المعجزة – يبسط أفعال الصانع الجليل ويفرش آثاره أمام النظر، ثم يستخرج من تلك الأفعال والآثار، الأسماء الإلهية، أو يثبت مقصداً من مقاصد القرآن الأساسية كالحشر والتوحيد.

فيقدم نماذج توضيحية لهذه الحقيقة منها على سبيل المثال:

قوله تعالى (هو الذي خلقَ لكُم ما في الارض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهنّ سبعَ سمواتٍ وهو بكل شيء عليم)[15]

وقوله تعالى( ألم نجعل الارض مهاداً_ والجبال أوتادا_ وخلقناكم أزواجا) إلى قوله تعالى (إن يوم الفصل كان ميقاتاً)[16]

ثم يعلق بقوله: “ففي الآية الأولى: يعرض القرآن الآثار الإلهية العظيمة التي تدل بغاياتها ونظمها على علم الله وقدرته،يذكرها مقدّمة لنتيجة مهمة وقصد جليل ثم يستخرج اسم الله  ” العليم ” .

وفي الآية الثانية: يذكر أفعال الله الكبرى وآثاره العظمى، ويستنتج منها الحشر الذي هو يوم الفصل.”[17]

وينتهي تأمله العميق في آي القرآن؛ وتتبعه لما يتردد فيها كثيرا من القضايا والمعاني، إلى كون مقاصد القرآن تتلخص في هذه الأمور الأربعة فيقول:” أعلم أن مقاصد القرآن الأساسية وعناصره الأصلية أربعةالتوحيد، والرسالة، والحشر، والعدالة مع العبودية.فيصير سائر المسائل وسائل هذه المطالب”[18]. ويؤكد كثرة تكرارها عبر المتن القرآني بقوله:”إن أغلب السور المطولة والمتوسطة – التي كل منها كأنها قرآن على حدة – لا تكتفي بمقصدين أو ثلاثة من مقاصد القرآن الأربعة (وهي: التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية ” [19] . ويزيد هذا الأمر إيضاحا فيقول:”إن مقاصد القرآن الأساسية وعناصره الأصلية المنبثة في كل جهاته أربعة:  إثبات الصانع الواحد، والنبوة، والحشر الجسماني، والعدل.[20]

 ونجده يسمي المقاصد بتسميات عدة تميز بينها فإلى جانب المقاصد الأساسية تحدث عن أنواع أخرى منها:

  1 – المقاصد الإلهية:

وهي المجلية لغاية الله تعالى من خلق الكون والكائنات وخاصة منها الإنسان، الذي اعتبره  

أعظم المقاصد الإلهية، بمعنى أن الله أوجد الكون وسخر ما فيه للإنسان لأجل تكليفه بالرسالة  

وتحميله تبعاتها دنيا وأخرى. فهو يبين ذلك بالقول الصريح:”        

فياترى هل يقبل عقل بأن يُترك هذا الإنسان الذي أصبح مكرّماً بالخلافة والأمانة، والذي

 ارتقى إلى مرتبة القائد والشاهد على المخلوقات، بتدخله في شؤون عبادة أغلب المخلوقات

 وتسبيحاتها بإعلانه الوحدانية في ميادين المخلوقات الكثيرة، وشهوده شؤون الربوبية الكلية..

فهل يمكن أن يُترك هذا الإنسان، يذهب إلى القبر لينام هادئاً دون أن ينبّه ليُسأل عن كل

 صغيرة وكبيرة من أعماله، ودون أن يُساق إلى المحشر ليحاكم في المحكمة الكبرى؟ كلاّ ثم

 كلاّ!.[21]

2 – المقصد الحقيقي:

 وهو عنده صلب ما تقصد إلى تحقيقه أحكام الشريعة وتكليفاتها في واقع الناس من خير وحسن وكمال، حيث يرى أن القبح والشرور نفسها تبرز أمام العقل خيرية الخير وجمال الحسن وكلية الكمال: “وأمثال هذه الشرور والقبائح الجزئية خُلقت في الكون لتكون وسيلة لإظهار أنواع الخير والجمال الكليين. وهكذا يثبت بالاستقراء التام أن المقصد الحقيقي في الكون والغاية الأساسية في الخلق إنما هو: الخير والحسن والكمال، لذا فالإنسان الذي لوّث وجه الأرض بكفره الظالم وعصيانه الله لايمكن أن يفلت من العقاب، ويذهب إلى العدم من دون أن يحق عليه المقصود الحقيقي في الكون. بل سيدخل سجن جهنم!”[22].

3 – المقصد الأصلي والمقصد التبعي:

حيث ميز بين المقاصد الأصلية التي حازت الأولوية في خطاب القرآن؛ وشكلت مقصوده الذي نزل بتبليغه وتعليمه للناس، ومقاصد ثانوية سيقت لتوضيح وبيان المقاصد الأصلية، فنبه إلى ذلك وقال: “اعلم! أن المقصد الأصليّ في القرآن الكريم إرشاد الجمهور إلى أربعة أساسات هي: إثبات الصانع الواحد، والنبوّة، والحشر، والعدالة.. فذكرُ الكائنات في القرآن الكريم إنما هو تبعيّ واستطراديّ للاستدلال؛ إذ ما نزل القرآن لدرس الجغرافيا والقوزموغرافيا*، بل إنما ذكرَ الكائنات للاستدلال بالصنعة الإِلهية والنظام البديع على النظّام الحقيقي جل جلاله”[23].

رابعا: استخلاص المقصد العام للإسلام من فكر النورسي.

لاستخلاص المقصد العام للإسلام من فكر النورسي،  نحتاج إلى استعراض ما تضمنته رسائل النور من أفكار ونظرات تفصيلية،  لما أجمله حين حديثه عن مقاصد القرآن الكريم، سيما ورسائل النور اغترفت من نبع القرآن ودارت مع دلالاته ومعانيه. وفيما يلي بيان ذلك:

1 – أهمية صياغة مقصد عام للقرآن والإسلام

ما من شك أن التوصل إلى صياغة مقصد عام واحد للقرآن وللوحي كتابا وسنة وللإسلام في نهاية المطاف، تفرضه اعتبارات منهجية نذكر منها ما يلي:

أ- إن مما تقتضيه وحدانية الله تعالى،  هو أن تؤول مقاصد دينه المتعددة إلى مقصد واحد عام ينتظمها جميعا،  وتكون كلها بمثابة فروع له، ومعاني تفصيلية عنه ومجالات عمله المتكاملة. فهذا النهج هو ما رسمته بعض آيات القرآن الكريم مثل قوله تعالى:”وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”[24] ورسمه الحديث النبوي كقوله (ص) (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[25] . ولقد عبر الشارع عن مقاصد الدين بصيغ مختلفة يمكن إرجاعها إلى مقصد واحد عام تتجسد فيه كلها.

ب- إن وحدة الدين لابد أن تكون حاضرة ومعاينة في وحدة توجهه ومقصده، وكل تصور يشوش على هذه الوحدة فهو خلل في النظر،  ويؤدي إلى شتات فكري واضطراب في فهم كلية الدين وتماسك تشريعاته. وشأن الدين في هذا الصدد كشأن أي كائن لا يمكن أن يسير على طريق سوي برأسين اثنين أو أكثر.

ج-  تحتاج عملية استخلاص مقصد عام لدين الإسلام؛ إلى دراسة استقرائية متفحصة ومتدرجة في نصوص الوحي قرآنا وسنة،  تبدأ من جرد المقاصد الجزئية في مختلف مجالات التشريع،  ثم تتجه نحو مقاصد أساسية أكثر عمومية،  وتستخرج منها مقصدا واحدا عاما يجمع ما تفرق فيما دونه من المقاصد الأخرى،  والتي يجب أن ترتبط به بوجه من الوجوه. وفي هذا المستوى تعددت مواقف العلماء فتقاربت أحيانا  وتباعدت أحيانا أخرى.

2- معطيات الفكر النورسي لصياغة مقصد عام للإسلام.

إن من يتتبع ما ورد في رسائل النور،  حول المقاصد والغاية من إنزال الشرائع وبعثة الرسل، ووظيفة الإنسان في الحياة الدنيا، ينتهي به البحث إلى بلورة مقصد عام للقرآن هو نفسه مقصد السنة ومقصد الإسلام،  الذي كل المقاصد الأخرى تابعة له ومندرجة تحته وفيما يلي تفصيل ذلك:

أ – إن المقاصد الأساسية التي حددها الأستاذ النورسي للقرآن،  وهي التوحيد والنبوة والحشر والعدل مع العبودية،  تتيح لنا انطلاقا منها الوصول إلى مقصد عام،  مع شيء من التحقيق والتدقيق، حيث نلاحظ تكامل هذه المقاصد وتضافرها لبناء مقصد شامل لها كلها.

وهذه العملية تتطلب منا إدخال الإنسان في الاعتبار،  لكونه المعني بكل مقصد من مقاصد الدين، وهو الذي يتعين عليه إدراك مقصد الله من خلقه على شاكلة بعينها، ولغاية محددة يجب عليه أن يستوعبها ولا يضل عنها.

ومن تم لزم صياغة المقصد العام للدين في ارتباطه بالإنسان المكلف بالشريعة، من أمثلة ذلك ما نجده عند الإمام الشاطبي بصيغ متعددة من كون المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا وأن “قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع. والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة، إذ قد مر أنها موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع” [26]  والأستاذ علال الفاسي حين محاولته صياغة مقاصد القرآن بعد إطالة التفكير والنظر في ثلة من آياته قال:” فمجموع هذه الآيات القرآنية يبين بوضوح أن الغاية من إرسال الأنبياء والرسل وإنزال الشرائع، هو إرشاد الخلق لما به صلاحهم وأداؤهم لواجب التكليف المفروض عليهم”[27] .

فهذه المقاصد القرآنية الأساسية عند الأستاذ النورسي لا ينقصها إلا ربطها بالإنسان لكي يتشكل منها في الأخير مقصد عام واحد فنستخلصه منها على مثل هذا النحو : “المقصد العام للقرآن أو للإسلام هو تكليف الله تعالى للإنسان عن طريق الرسول (ص) بأن يوحده ويلتزم العدل في كل أموره ليكون من الفائزين يوم القيامة”. ويمكن اختزال ذلك كله في كلمات ثلاث : (القرآن تكليف الله للإنسان) أو بعبارة أخرى: (القرآن رسالة الله التكليفية للإنسان).

فهذه هي الحقيقة الجامعة التي رسختها وأكدتها جميع المقاصد،  فتوحيد الله والتزام العدل هما أصلا التكليف الشرعي، والنبوة هي طريقة تبليغ وتعليم هذا التكليف،  والحشر هو يوم حساب الله للإنسان على مدى قيامه بهذا التكليف،  لينال الجزاء على الوفاء والعقاب على الجفاء.

ب – يبدو من الصيغة العامة التي انتهت إليها المقاصد الأساسية عند النورسي أن الذي يجمع بينها ويوحدها في نسق واحد هو مسؤولية الإنسان، وهذا ما تناوله أستاذنا الكبير في عدة مواضيع من رسائله حيث نجده يركز على ابتلاء الإنسان الكائن الحر في هذه الدنيا،  بما يطويه الغيب من مستورات عن الأنظار،  كأركان الإيمان وما جرى مجراها،  مما يقصر عنه البصر وتدركه البصيرة، ليؤمن من شاء ويكفر من شاء. فيقول:”إن هذه الدنيا دار امتحان واختبار، ودار مجاهدة وتكليف، والاختبار والتكليف يقتضيان أن

 تظل الحقائق مستورة ومخفية، كي تحصل المنافسة والمسابقة، وليسمو الصديقون بالمجاهدة 

إلى أعلى عليين مع أبي بكر الصديق، وليتردى الكذابون إلى أسفل سافلين مع مسيلمة الكذاب .[28

فمكونات مجال الابتلاء في هذه الدنيا لها قابليتا التوظيف في اتجاهي الإيمان أو الكفر،

التصديق أو التكذيب بحيث يمكن للإنسان أن يتبع الأدلة المثيرة لهذه القابلية أو تلك بحسب  

رغبته وإرادته، دون التعرض لأي ضغط قد يدفعه في غير الاتجاه الذي يختاره بكامل رضاه

وطواعيته، ولو كان الدليل معجزة خارقة، وهذا ما أشار إليه شيخنا عندما

قال:”إن المعجزة تأتي لإثبات دعوى النبوة عن طريق إقناع المنكرين، وليس إرغامهم على

 الإيمان، لذا يلزم إظهارها للذين سمعوا دعوى النبوة، بما يوصلهم إلى القناعة والاطمئنان إلى

 صدق النبوة. أما إظهارها في جميع الأماكن، أو إظهارها إظهارا بديهياً بحيث يضطر الناس

 إلى القبول والرضوخ فهو منافٍ لحكمة الله الحكيم ذي الجلال، ومخالف أيضا لسر التكليف

 الإلهي ذلك لأن سر التكليف الإلهي يقتضي فتح المجال أمام العقل دون سلب الاختيار منه .29

 

ولقد اعتبر الأمانة التي تحملها الإنسان هي السر في جعله مسؤولا في هذا العالم يسخر طاقاته  

وإمكاناته ومخلوقاته كلها في مآربه الخاصة، فالمسؤولية التي امتازت بها نفسه عن باقي

الكائنات هي مفتاح الولوج لخيري الدنيا والآخرة إن هو أحسن القيام بحقها وقدرها حق قدرها،

فهو يقول: “اعلم !أن مفتاح العالم بيد الإنسان، وفي نفسه، فالكائنات مع أنها مفتحة

الأبواب  ظاهراً  إلاّ أنها منغلقة  حقيقةً؛ فالحق سبحانه وتعالى أودع من جهة الأمانة في 

الإنسان مفتاحاً يفتح كل أبواب العالم، وطلسماً يفتح به الكنوز المخفية لخلاّق الكون، والمفتاح

وما فيك من” أنا ” .  إلاّ أن  ” أنا ”  أيضا معمي  مغلق”[30].

ويذكر الإنسان بموقع الاستخلاف في الأرض الذي يشتمل على كل معاني التكليف والمسؤولية  

المميزة للجنس البشري فيشرح له مقتضياتها: “أيها الإنسان!            

إن ما تملكه من نفسٍ ومال ليس ملكاً لك، بل هو أمانةٌ لديك، فمالكُ تلك الأمانة قديرٌ على كل 

شيء، عليم بكل شيء، رحيمٌ كريم، يشتري منك ملكه الذي عندك ليحفَظَه لك، لئلا يضيع في 

يدك، وسيكافؤك به ثمناً عظيماً، فأنت لست إلا جندياً مكلفاً بوظيفة، فاعمل لأجله واسعَ باسمه،

 فهو الذي يرسل إليك رزقَك الذي تحتاجه، ويحفظك مما لا تقدر عليه”[31].

وهكذا يتضح لنا أن الشيخ النورسي رحمه الله لم يفته أن يجلي المقصد العام للقرآن والإسلام

عبر رسائل النور، وإنما يحتاج الأمر من الدارس إلى استعراض مضامينها كلها للوقوف على

ما فيها من تفاصيل، ذات بعد تكاملي خادم للوحدة الموضوعية، التي اقتضتها محورتها حول

القرآن الكريم، وامتدادها تحت ظلاله وأنواره الهادية.

عبد السلام الأحمر



[1] – الفكر المقاصدي قواعده وفوائده – د أحمد الريسوني منشورات الزمن، دجنبر 1999.

[2] – انظر تجديد المنهج في تقويم التراث ، ص98 بيروت ، المركز الثقافي العربي، ط2، د.ت.

[3] –  صيقل الإسلام/محاكمات – ص: 47

[4] – مقاصد الشريعة، ص  251. ت : محمد الطاهر الميساوي، الأردن، دار النفائس، ط2.  2001م.

[5]  – مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، مكتبة الوحدة العربية – الدار البيضاء ص 41-42.

[6]– الشعاع الثاني – ص: 26.

[7]– الشعاع التاسع – ص: 237.

[8] – نفسه  ص3.

[9] – صيقل الإسلام/محاكمات – ص: 47

[10] – الفروق 2/33 ، عالم الكتب ، بيروت – د.ت

[11] – أعلام الموقعين 3/135. نشر دار الجيل بيروت. د- ت

[12] – الفكر المقاصدي مرجع سابق ص 101.

[13] – الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ، ص182 تحقيق فؤاد عبد المنعم النمر- مؤسسة شباب الجامعة 1405/1985 الإسكندرية- مصر.

[14] – الكلمة الخامسة والعشرون – ص: 483

[15] – البقرة: 29

[16] – النبأ، 6-17.

[17] – نفسه  ص 484.

[18] – المثنوي العربي النوري – ص:75.

[19] – الكلمة الخامسة والعشرون – ص:533

[20]– صيقل الإسلام/محاكمات – ص: 29

[21] – الكلمة العاشرة – ص: 83

[22] – صيقل الإسلام ص 502.

[23] – إشارات الإعجاز 177.

 *القوزموغرافيا: علم الفلك.

[24] – الذاريات 56.

[25] – رواه أحمد في المسند وصححه الألباني.

[26] – الموافقات 2/331. ت: عبد الله دراز- 1395/1975 ، ط2

[27] – مقاصد الشريعة ومكارمها مرجع سابق  ص 43 .

[28] – الكلمة الرابعة عشرة – ص: 196

[29] – الكلمة الحادية والثلاثون – ص: 703

[30] – الكلمة الثلاثون – ص: 635

[31]– اللمعة السابعة عشرة – ص: 183

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.