زهرة الحب النبوي

0

الدكتور نور الدين عادل: إن ذكرى ميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم مناسبة عظيمة لتجديد الولاء القلبي لجنابه الكريم،

كيف لا، وقد اختاره الله تعالى ليكون هادي البشرية من لدن بعثته إلى أن تقوم الساعة.

كما إنها فرصة لتعميق فهمنا لرسالته الخاتمة التي نطق بجوهرها قوله تعالى:”ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”. إنها حياة القلوب حين تتصل ببارئها، وسعادة الإنسانية حين تدرك معنى وجودها. أما عنوان هذه السعادة فهو الحياة الطيبة المعجلة في الدنيا حين يعمُرها الفرد، المستجيب لنداء الله تعالى ورسوله، بالعمل الصالح الذي يعم مداه عِيال الله تعالى الأقرب فالأقرب، بالنية التي تزكو بها الأعمال وتشرُف، نية الخدمة والتقرب، خدمة الخلق والتقرب للحق سبحانه.

بهذا يخرج الإنسان من كدح الدنيا وضيقها إلى سعة الدنيا والآخرة، وهذه خطوة حاسمة في مسيرة من شاء نيل الحياة الحقيقية في الدنيا قبل الآخرة، أعلنها في فرح وبشارة خالدة خريج مدرسة النبوة الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه في بساط رستم:” الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.

         وتمتد الحياة إلى كل الأمم، إذ بحياة أفرادها تحيى، فتستقر الأحوال، ويحلو السفر في رحلة جماعية إلى السعادة الأبدية، وهذا بعض ما يشير إليه البيان الإلهي الموجه إلى أب البشرية آدم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وذريته:”ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين”.

ميلاد الرسول والرسالة

         إن الناظرفي الأحداث التي سبقت وواكبت ميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم يلحظ إشارات إلهية، ويخلص إلى حقائق علمية ننبه على اثنتين منها:

         -الأولى: احتفال الملأ الأعلى بهذا الميلاد السعيد، لهذه النفس الكريمة التي جعلها البارئ عز وجل أزكى نفس وأطهرها خِلقة وخُلقا. كما قال الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم:                       

                     وأحسن منك لم تر قطّ عيني………..وأجمل منك لم تلد النساء

                    خُلقت مبرءا من كل عيب ……….كأنك خُلقت كما تشاء

 نفس ارتضاها الله تعالى لختم الرسالات السماوية، بل جعل صاحبها إمام الرسل والأنبياء في الدنيا والآخرة، فكيف يغيب عنا هذا المعنى؟ وهل يليق بنا أن نقابل هذا الميلاد المبارك بأقل من واجب التعظيم والتبجيل لهذا الشخص الكريم؟ وهل يعقل أن نُجهِد أنفسنا في البحث عن كل سبب للقول ببدعيّة الاحتفال بهذه المناسبة قياسا على أعياد ميلاد غيرنا، وبدعوى ألا أصل لذلك في شريعتنا. أوليس الأفضل أن نقتدي بصنيع أهل السماء وفرحهم بهذا الميلاد الذي سعدت به الأكوان، أوليس الله تعالى أمرنا أن نفرح بفضله ورحمته:”قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا”وهل تمة أعظم مِنّة وفضلا من بعثة الرحمة المهداة والسراج المنير صلى الله عليه وسلم القائل منبها لنا لهذا الكنز العظيم:”ياأيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة”.

         إننا إن لم نقبل هدية الله تعالى، ورحمته المجسدة في سنة المصطفى وسيرته المبيّنة للحق المنزل في كتاب الله تعالى:”وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم”فلا نهاية لحسرتنا، ولا معنى لوجودنا.

         إننا لم نؤمر فقط بالاحتفال بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان في ذلك شرفنا، بل إننا مدعون لأن نجمع إلى هذا الفرح عزمنا على الاستجابة لأمر الله ورسوله المُضمّن في رسالة الإسلام التي اختار الله تعالى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتعليمنا إيّاها، وتربيتنا على السلوك على نهجها. وهذا من الأنوار التي تضمنها الدعاء الذي افتتح الله به كتابه العزيز:”اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم”.أنعم الله عز وجل على رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام بمقام النبوة والرسالة، وأتم النعمة على أممهم بشرف اتباع أنبيائهم ورسلهم، والسير على منوالهم. جعلنا الله معهم في الدنيا محبة واقتداءا، وفي الآخرة نُزلا ومعادا. آمين.

         ولعل من اللطائف التي يحسن إيرادها في هذا المقام أن الأكوان بحيوانها وجمادها تلهج بمحبة هذا النبي الكريم، فأُحد، الجبل العظيم، يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجذع الشجرة يبكي شوقا إليه، والذئب يدعوا إلى الإيمان به التصديق برسالته، وغصن الشجرة يشهد على كرامته عند ربه. أيليق أن يقِلّ شوقنا إليه عن شوق غيرنا من المخلوقات؟

الميلاد القلبي

        إنها لحظة قدسية تلك التي جمعت الأرض بالسماء، لحظة الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، والحنيفية السمحة، لحظة أودع الله تعالى فيها الهدى والنور للبشرية جمعاء، ولحظة أخرى لا تقل عنها قدسية، تلك اللحظة التي تشهد ميلاد المؤمن والمؤمنة في عالم الإيمان، لحظة قبول البشارة والتعرض لأنوار الرسالة. إنها الولادة الحقيقية للإنسان حين يكتشف أنه خُلق لمعرفة الله رب العالمينوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”قال حَبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية:”إلا ليعبدوني أي إلا ليعرفوني”

لقد خلقنا لأمر عظيم نحن عنه غافلون! وإنها لنعمة عظمى أن نجد لوجودنا معنى، ولغايتنا وِجهة. يبحث الإنسان عن السعادة وما درى أنها تنبع من قلبه حين تسكنه محبة الله تعالى والسعي لطلب فضله ثم رضاه ثم وجه الكريم.

         ألسنا أبناء الآخرة، فيها وجدنا وولدنا، وإليها نعود؟ قال حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح:

           حي على جنّات عدن فإنها……..منازلك الأولى وفيها المخيم

                              ولكننا سبْي العدو فهل ترى……… نعود إلى أوطاننا ونُسلّم

 أليس الله تعالى قد خصنا بالتكريم“ولقد كرمنا بني آدم”أكرمنا في الدنيا بعبادته، ودعانا لكرامة الآخرة، بجواره والنظر إلى وجهه الكريم.

         إن هذه المعاني الجليلة لن تعدو حبرا على ورق إذا لم يخالط الإيمان بشاشة القلوب، وإذا لم يَسعد المسلم بتوبة تنقله من حال الغفلة إلى حال اليقظة والحضور مع الله تعالى، وهذه الهَبّة الإيمانية يُخشى عليها أن تفتُر إن لم تُسعفها المجالسة في الله ويغذيها ذكر الحق سبحانه والتواصي بالصبر على طاعته في دقيق الأمر وجليله، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى:”واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه”

في هذه البيئة التي يشع فيها نور الإيمان ببركة المحبة في الله تعالى والتعاون على ذكره ونصرة الحق الذي يدعو إليه، يتهيأ القلب لميلاده السعيد، وبهذا الميلاد القلبي يُطل المؤمن والمؤمنة على الطِلبة العظمى، والغاية الأسنى: محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

إن هذا المعراج الإيماني هو ما يعرض له البيان النبوي الجامع“ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار”

         إنها معادلة الإيمان:

توبة+محبة في الله ومجالسة= تلذذ القلب بطعم محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم

 هما خطوتان أساسيتان ليخفق القلب بحياة الإيمان: توبة هي أقرب للعزلة الشعورية عن عالم الكفر والفتنة ومعانيهما تثمر استعدادا للتحلي بخصال الإيمان ثم إقبال على بيئة الخير تظللها المحبة في الله تعالى ويسقيها التعاون على البر والتقوى.

إن نجاح الإنسان في تحقيق مشروع الإيمان الذي يمنحه سعادة الدنيا ويرشحه للسعادة الأبدية لهو من وظائف النبوة التي من أجلها بعث الله تعالى نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:”هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم”. يزكي قلوبنا ويطهرها بنور النبوة، ويعلم عقولنا بما يتلوه علينا من الآيات والحكمة.

         وإنها لبشارة عظيمة تلك التي يتضمنها قوله تعالى:”وآخرين منهم لـمّا يلحقوا بهم” ذلك أن رحمة الله المجسدة في نبي الرحمة، سبق إليها الأصحاب رضي الله عنهم، ولكن فضلها ونورها ممتد إلى كل من جاء بعدهم، ولحق بهم، واتبعهم بإحسان.قال تعالى:”والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه”

         إنه نور النبوة بيننا، مازال وهاجا، وهو سراج قلوب المحبين من الأصحاب السابقين أو الإخوان التابعين الذين جمعوا بين المحبة القلبية للجناب الشريف والبذل المتواصل لبسط نوره في العالمين. قال الحبيب المصطفى يبادل إخوانه من بعده الود والشوق، ويوشحهم بوسام الرفعة الأبدية:” وددت أن قد رأينا إخواننا” قالوا-أي الصحابة رضي الله عنهم- أو لسنا إخوانك يارسول الله؟ قال:”أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بَعْد”

         إن أي تجمُّع، أو تكتل بشري في ديار المسلمين أو في ديار الغرب-دار الدعوة والبلاغ- لا تسكنه روح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمشي في الناس بنور الإيمان، لهو عين الحسرة وإن تسمّى بمسمى الإسلام.

لهذا يصح القول: إن المؤسسات التربوية والتعليمية، والجمعيات والهيئات أينما وجدت مدعوة إلى جعل غاية برامجها، ونهاية أعمالها، وأسمى أهدافها تهيئة البيئة الصالحة، والظروف المواتية لميلاد قلوب روادها والمنتسبين إليها حتى يذوقوا حلاوة الإيمان المجموعة في حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا غرو أن من واجب المسلمين أفرادا وجماعات أن يبذلوا وسعهم للتعريف برسالة الرحمة والهداية بكل أدوات البيان، وصور البلاغ، وما أكثرها في زماننا.

إننا مدعون لبذل الجُهد في تعريف أنفسنا والعالم بهذه الفرصة العظيمة التي يعرضها علينا منادي الفلاح خمس مرات في اليوم:”حيّ على الصلاة، حيّ عل الفلاح”..إنها فرصتنا لنيل أسمى حق في الوجود: حقنا في معرفة ربنا في الدنيا قبل الآخرة، وإنه فلاح ما بعده فلاح أن نصل أرواحنا بربها عز وجل.

        ميلاد خير أمة

        أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي البشرية جمعاء منذ بعثته إلى أن تقوم الساعة، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم:”أنا رسول من أدركت حيا، ومن يولد بعدي”. غير أن تفاعل الأمم مع بشرى السعادة التي تحملها رسالة النبوة يحدد موقعها على خريطة الإيمان؛ فأمة قبِلت العرض النبوي، فسعدت به فتلك أمة الاستجابة، وأمة في حاجة لمن يُسمعها نداء الرسالة النبوية في صفائه وقوته، ويغذي فيها التعطش الفطري لمعرفة الحق وتلك أمة الدعوة.

        ولأن وظائف النبوة مستمرة في التزكية والتعليم فإن هذا يفرض على أمة الاستجابة أن تقوم بواجب توجيه القلوب إلى حقها في معرفة ربها، وحق الأمم في العيش تحت ظل شريعة “عدلكلها، ورحمةكله، ومصالحكلها، وحكمة كلها”

         ولن تقوى أمة الاستجابة على النهوض بهذه الرسالة إلا بما معها من وراثة لنور النبوة، الذي استودعه الله تعالى قلوب وعقول الأولياء الأتقياء، والعلماء الحكماء إذ “العلماء ورثة الأنبياء”، وهم الذين أُمرنا بمحبتهم وحِفظ نبيّنا فيهم فقد قال صلى الله عليه وسلم:” أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما: كتاب الله، وأهل بيتي عترتي”.

          وإنه لعنوان سعادة أمة الاستجابة أن تلوذ بعلمائها الأتقياء لما معهم من هداية القرآن“ألم، ذلك الكتاب لاريب فيه. هدى للمتقين”. ولما أودع الله قلوبهم من نور النبوة، وراثة عن سيد الأنام، الذي كان خلقه القرآن. والعلماء الأتقياء هم أهل النسبة الحقيقة لنبي الهدى، وهم آله حقا وصدقا.

         وفي رحاب الإيمان تجتهد عقول ذوي الكفاءة لاكتشاف سنن الله الكونية، واستخلاص الحكمة البشرية وتطويعها لخدمة الإنسانية بما يحقق استقرارها وسعادتها اليوم وغدا، هنا وهناك.

         ما أحوجنا أن نعيد ترتيب أمورنا، وأن نوجه أنظارنا إلى طب النبوة نلتمس فيه دواء قلوبنا، وشفاء عجزنا حتى تحلّ في وجوهنا الأقفال، وتوضع عنا الأغلال، فنجمع إلى فوزنا بربنا، عز أمتنا وسعادة كل الأمم. وإنه الإسلام أو الذل والهوان!

         إن ميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم مناسبة لها أكثر من معنى، اخترت الوقوف عند دلالاتها في ميلاد الفرد والأمة، فكيف لا نسعد بميلاد من جعل الله محبته شرطا لخلاصنا الفردي، بميلادنا القلبي، وخلاصنا الجماعي، بميلاد خير الأمم؟

         إن شهر ربيع الأول، بل شهور السنة كلها تستحق منا أن نجعلها مناسبات لتجديد محبتنا للجناب الشريف صلى الله عليه وسلم، وأن نتنسم فيها عبير ربيع النبوة حتى لا تذبل زهرة حبه الشريف في قلوبنا، ويضعف مسكها في سلوكنا.

المؤمنون مطالبون بأن يبذلوا جهد استطاعتهم، أما النصر فلا يكون بهذه الأسباب ولا بغيرها، إنما النصر من اللهوما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . مطالبون نحن بالتبليغ لا بالاستجابة، وبالدعوة لا بالهداية، محاسبون على الأسباب لا على النتائج. وكثير من القصص القرآني يسرد علينا انتصار الحق والمؤمنين. وفي سورة أخرى يسرد علينا المتن القرآني قصة المؤمنين الذين رُمُوا في الأخدود، ولم تكن نهاية القصة على شاكلتها من القصص الأخرى، وهذا درس بليغ في ضرورة الاتباع والانصياع التام لأوامر الشرع دونما تقصير، أما النصر والتمكين فمن مدبر الكون المتصرف في ملكوته الذي يملك قلوب العباد ومفاتيح السموات والأرض، يفعل في ملكه ما يريد. لا يرضى المؤمن المهاجر إلى الله ورسوله بأنصاف الحلول ولا أرباعها، ولا يعطي الدنية في دينه، ويصدع بالحق، لا يخشى في الله لومة لائم، ويأخذ بالأسباب ويخطط ويبرمج ويجتهد ويتدرج، أما النصر فمن الله.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.