عبد السلام الأحمر
مقدمة
يكتسي موضوع القيم أهمية أساسية، ليس في التربية المدرسية فحسب وإنما في كل وسائل التثقيف والتنشئة الأسرية والاجتماعية، فهي منطلق كل تغيير يرام إحداثه في أعماق النفس، وأغوار الفكر ودوافع السلوك، إذ القيم شأنها أن توجه الإنسان في دروب الحياة وتصنع له اختياراته كلها، وترسي عقيدته وأخلاقه، بحيث تظل جميع إنجازاته محكومة بما تنطوي عليه من سواء وصواب، ومن حيوية وثبات أو عوج وقصور.
وإذا كانت الأديان السماوية مصدرا غنيا للقيم السامية، فإن الإسلام خاتمها هوالجامع لما تفرق فيها، والشاهد على مايستجد في واقع الإنسانية من قيم؛ لها صلة معينة بالمعتقدات أوباختيارت بشرية محضة.
والسؤال الموجه لهذا الموضوع هو: ما هو حظ مناهجنا من التربية على القيم، باعتبارنا أمة وارثة لقيم الدين الإسلامي؟ وتحديدا ما موقع القيم في المنهاج الحالي للتربية الإسلامية ؟
أولا: مدخل التربية على القيم[1]
1- مفهوم القيم
القيم مفهوم حديث، وهي عبارة عن “تقدير نقوم به تجاه شخص أوفرد أونشاط حسب ما يمكن تحصيله منه. وتتكون القيم من مجموع معتقدات واختيارات وأفكار تمثل أسلوب تصرف الشخص ومواقفه وآراءه وتحدد مدى ارتباطه بجماعته، وتشكل مجموع القيم النظرة إلى العالم”[2] .
وهي عبارة عن الأحكام التي يصدرها الفرد بالتفضيل لأشياء أو سلوك، ويكون لحكمه هذا طابع ذاتي اختياري، لاإكراه فيه لعامل خارج الذات، ويرقى إلى درجة الاعتقاد الراسخ الذي يملي على صاحبه مواقف وسلوكات وأخلاقا معينة. فهي تشمل كل ما يحتل مكانة عالية في النفس ويحظى بحبها وتقديرها ويدوم تقديسها له واعتزازها به؛ مثل الدين عقيدة وعبادة وأخلاقا، وكل ما يمت له بصلة من آداب ومقاصد ورموز وعلوم، وكذا عادات المجتمع وتقاليده ونظمه العامة، التي اكتسبت مع الأيام قيمة معنوية، وصار لها تأثير في الفكر والوجدان والسلوك بكيفية أو بأخرى.
والقيم فوق كل هذا التزام شخصي، تنتج عنه أفكار وتوجهات واختيارات وانفعالات وعواطف جياشة وأخلاق ثابتة، وهذه القيم تتبلور في النفس عن طريق التربية والتعليم والتنشئة داخل البيئة الاجتماعية.
2 – المجتمع وترسيخ القيم
تتميز القيم بخاصية الثبات والجماعية، بمعنى أنها قد تضعف لدى فئة من الأشخاص لكنها تظل حاضرة بقوة في التوجه العام للمجتمع، لأنها تشكل أهم مقومات وجود الأمم واستمراريتها في الزمان والمكان، كما أنها تدوم بدوام المعتقدات والاختيارات الفكرية المؤطرة لها، وتترسخ برسوخها، ولا يصيبها التغيير إلا بعد حقب طويلة من التألق والعطاء، حيث تتأثر عادة بحركية الأمة، وأوضاع صحتها ومرضها ومنعطفات نهوضها وانحطاطها. فقد يرفع مجتمع ما شعار قيم ما، ويصدر بها اختياراته في مجالات التربية والثقافة والإعلام وغيرها، لكن ذلك لايعول عليه في شيء، ما لم يفلح في ترجمتها إلى سلوك حي لدى المواطنين، وعبرأنشطة الدولة وفي حركة المجتمع.
فللقيم قدرة خارقة على إبداع الأفكار، وصبغها بصبغتها الخاصة، و توجيه العواطف وتأجيجها، وضبط السلوك وتقويمه، وتوحيد وجهة الأمة وتعبئتها في ميدان التنمية والبناء الحضاري.
ومن ثم فإن قيم الأمة، تحضر بقوة فاعلة، في سياستها واقتصادها وقانونها واجتماعها وتربيتها وفنونها، و تشكل القلب النابض لثقافتها و فلسفتها في الحياة.
والقيم توجد ضمن منظومة متكاملة يشد بعضها بعضا، وتقوي ممارسة كل قيمة ما يرتبط بها من القيم الأخرى، وتحتاج ممارسة كل قيمة، إلى ما يتصل بها من القيم الأخرى، وتستدعي اكتساب أخلاقها ومقتضياتها السلوكية والانفعالية، وكل إخلال بقيمة ما، يؤدي حتما إلى تصدع المنظومة برمتها و يعرضها للانهيار.
3- أساسيات مدخل التربية على القيم
أ – الامتداد عبر مختلف المواد الدراسية.
أي حضورها في المستوى الواحد، والمراحل المتوالية. وتقتضي عملية إدماج القيم في المنهاج الدراسي، العمل على بناء مقررات المواد المختلفة عبرالمستويات المتدرجة من الروض إلى الجامعة، على أساس ترسيخ منظومة شاملة من القيم، وممارسة شبيهاتها ومتعلقاتها المعضدة لها من القيم الأخرى.
ففي كل مادة تقدم القيم من خلال منهجها الخاص، والذي يوجه للكشف عن بعض أبعادها المعرفية والسلوكية والحضارية، ويكون التدرج في أسلوب تناولها، وفق ما يواكب نمو المتعلم العقلي والعاطفي والجسمي، حتى يتواصل ترسيخ القيم بمقاربات مناهج المواد كلها، موازاة مع النمو المعرفي والمهاري، وعبراكتساب مختلف الكفايات العامة والخاصة .
ب – اختيار قيمة مركزية.
ويتوصل إليها باختيار قيمة أساسية، تدور حولها جميع القيم المطلوب ترسيخها لدى النشء.
فكلما كانت القيم المجتمعية المطلوب ترسيخها لدى الناشئة، قابلة للتركيز في قيمة واحدة، ازدادت قدرتها على تعبئة النفس للعمل على تجسيدها في الواقع، وتحقيقها عبر الالتزام السلوكي بالمنظومة في جميع عناصرها ومكوناتها المختلفة، حيث إن تركزها في قيمة جامعة يجعل النفس تستوعبها بسرعة، و تستلهمها في كل حين، وتتحسس كل ما يتصل بها من الأفعال والأقوال و الوجدانات، فيسهل الاحتكام إلى روحها، وتمثلها في السلوك، وانضباط النفس بهديها وتوجيهها .
وتبرز أهمية هذا النهج في المجال التربوي، لربط الناشئة بنظام قيمها، وجعلها تدرك قدرها وأبعادها منذ فجر طفولتها، لينمو في نفوسها حب تلك القيم والتشبع بها مع نمو جسمها وفكرها.
ويشترط في القيمة المركزية القدرة على تأطير تعلم القيم الأخرى المطلوبة دون تكلف، فيتم تحديد القيمة المركزية باعتبار القاسم المشترك بين جميع قيم المنظومة، والذي يشترط فيه أن يكون روحا سارية وبينة في كل قيمة على حدة، من حيث كونها عنصرا ينتمي إلى منظومة معينة .
ج – الإدماج في نشاط المتعلم.
اعتماد النشاط الفكري والعضلي والتفاعل الوجداني للمتعلم، أساسا لترسيخ القيم في نفوس الناشئة ، إذ ليس ثمة طريقة أنجع في ترسيخ القيم في نفوس النشء، من التعريف بها و بيان مزاياها وفوائدها في حياة الفرد والمجتمع، فذلك ما يدفع المتعلم إلى منحها التقدير اللازم في نفسه، فيحبها ويحب الاتصاف بها، ويتطلع إلى أن يتقوى وجودها و تأثيرها في أحوال الناس، حتى ينعموا بعطاءاتها في واقع نفوسهم وأوضاعهم الحياتية كلها .
وإذا حصل هذا التقبل والتعلق الوجداني، احتاج المتعلم إلى ممارسة تلك القيم، ليزداد معرفة بها وإحساسا بآثارها الطيبة في فكره ونفسه وسلوكه، مما يحفزه على تعلق قلبه أكثر بممارستها باقتناع وحماس، يفضيان إلى ترسيخها في النفس وتوجيهها للسلوك.
وهذا ما تسمح بتحققه مقاربة التدريس بالكفايات، التي تمكن من التركيز على تحقيق كفاية ترسخ قيمة معينة، عبر سلسلة من الأنشطة التربوية، التي تفسح المجال أمام المتعلم، ليتعرف بنفسه على قيمة من القيم، ويكتشف من مميزاتها ما يحمله على تخصيصها بما يليق بها من التقدير والحب، يؤديان به في آخر المطاف إلى استلهامها في سلوكه، و تقويم الأفكار والتصرفات والظواهر الاجتماعية، وتكوين مواقف شخصية إزاءها.
ثانيا: واقع القيم في منهاج التربية الإسلامية
لمقاربة واقع القيم في منهاج التربية الإسلامية، نحتاج إلى البحث على مستويين: أحدهما الوثائق الرسمية التأسيسية للإصلاح، وثانيهما تقويم آثار القيم الملقنة في سلوك المتعلمين، ونظرا لصعوبة العمل والإنجاز في المستوى الثاني فسنكتفي بالاشتغال على المستوى الأول، والذي إذا تبينا وجود اختلال في بنائه صرنا في حل من إلزامية الانتقال إلى مجال التقويم، الذي يحتاج إمكانيات كبيرة تضمن درجة أعلى من الدقة في نتائجه واستنتاجاته.
1 – في الميثاق الوطني والكتاب الأبيض
أ – في الميثاق الوطني
أشار الميثاق الوطني للتربية والتكوين في بعض مرتكزاته الثابتة، إلى موقع القيم في هذا الإصلاح في الفقرات التالية:
“يهتدي نظام التربية والتكوين للمملكة المغربية بمباديء العقيدة الإسلامية وقيمها الرامية لتكوين المواطن المتصف بالاستقامة والصلاح، المتسم بالاعتدال والتسامح الشغوف بطلب العلم والمعرفة، في أرحب آفاقها، والمتوقد للا طلاع والإبداع، والمطبوع بروح المبادرة الإيجابية والانتاج النافع”[3]
“يتأصل النظام التربوي في التراث الحضاري والثقافي للبلاد، بتنوع روافده الجهوية المتفاعلة والمتكاملة، ويستهدف حفظ هذا التراث وتجديده، وضمان الإشعاع المتواصل به لما يحمله من قيم خلقية وثقافية”[4].
وفي الغايات الكبرى تحدث عن “تنشئة المتعلمين على الاندماج الاجتماعي، واستيعاب القيم الدينية والوطنية والمجتمعية”[5] ثم أضاف: “وتأسيسا على الغاية السابقة، ينبغي لنظام التربية والتكوين أن ينهض بوظائفه كاملة اتجاه الأفراد والمجتمع وذلك بمنح الأفراد فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية، وفرصة مواصلة التعلم كلما استوفوا الشروط والكفايات المطلوبة”[6]
وأثناء كلامه عن التنظيم البيداغوجي المتعلق بالتعليم الأولي والابتدائي وفي إطار تحديد أهدافه العامة نقرأ ما يلي:”ضمان المحيط والتأطير التربويين القمينين بحفز الجميع، تيسيرا لما يلي:
– التفتح الكامل لقدراتهم.
– التشبع بالقيم الدينية والخلقية والوطنية والإنسانية الأساسية ليصبحوا مواطنين معتزين بهويتهم وبتراثهم وواعين بتاريخهم ومندمجين فاعلين في مجتمعهم”[7]
ثم بين ما يسعى إلى تحقيقه السلك الأول من التعليم الابتدائي المكون من سنتين، فذكر ما يلي:”تملك قواعد الحياة الجماعية وقيم المعاملة الحسنة والتعاون والتضامن”[8] كما أوضح بأن السلك الثاني من التعليم الابتدائي والذي مدته أربع سنوات يستهدف تعميق وتوسيع المكتسبات المحصلة خلال السلكين السابقين، في المجالات الدينية والوطنية والخلقية.
وفيما يتعلق بالتعليم الإعدادي وبعده الثانوي، لا نجد تذكيرا باعتماد التربية على القيم مما سينبه على أهميتها إلى جانب ما يتم تحديده من أهداف أخرى مرحلية تخص مختلف الكفايات والقدرات المؤهلة للحياة المهنية،ومنها قضايا ذات الصلة بحقوق الإنسان وواجباته، ويكتفي بالقول بأن كل مرحلة ترمي إلى تعميق مكتسبات الأطوار السابقة.
ب – في الكتاب الأبيض
تناول الكتاب الأبيض موضوع القيم في فقرة الاختيارات والتوجهات التربوية العامة بتفصيل أكبر حيث صرح “باعتماد التربية على القيم وتنمية وتطوير الكفايات التربوية والتربية على الاختيار كمدخل بيداغوجي لمراجعة مناهج التربية والتكوين”[9]، واعتبر “المدرسة مجالا حقيقيا لترسيخ القيم الأخلاقية وقيم المواطنـة وحقوق الإنسان وممارسة الحياة الديموقراطية”[10]. وقد حدد “اختيارات وتوجهات في مجال القيـم انطلاقا من القيم التي تم إعلانهـا كمرتكزات ثابتة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والمتمثلة فـي:
– قيـم العقيدة الإسلامية؛
– قيـم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية؛
– قيـم المواطنـة؛
– قيـم حقوق الإنسان ومبادئها الكونيـة.
ثم ذكر: وانسجاما مع هذه القيم، يخضع نظام التربية والتكوين للحاجات المتجددة للمجتمع المغربي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي من جهة، وللحاجات الشخصية الدينية والروحية للمتعلمين من جهة أخرى”[11].
فهذه القيم المعاصرة الثلاث الواردة إلى جانب قيـم العقيدة الإسلامية، تتنازع معها مجال التربية وتحاول أن تكون هي الأصل وليست الفرع، الذي يتبع القيم الإسلامية الثابتة وينضبط لروحها، باعتبارها وحي الله المنزل المعصوم من الهوى البشري المتقلب، والمحكوم بفلسفات مادية جامحة في كثير من نظراتها ومسلماتها.
بعد ذلك عدد الكتاب الأبيض مجموعة من الحاجات الشخصية للمتعلمين، والتي سيعمل نظام التربية والتكوين بمختلف الآليات والوسائل على الاستجابة لها وتتمثل فيما يلي[12]:
– الثقة بالنفس والتفتح على الغير؛
– الاستقلالية في التفكير والممارسة؛
– التفاعل الإيجابي مع المحيط الاجتماعي على اختلاف مستوياته؛
– التحلي بروح المسؤولية والانضباط؛
– ممارسة المواطنة والديموقراطية؛
– إعمال العقل واعتماد الفكر النقدي؛
– الإنتاجية والمردودية؛
– تثمين العمل والاجتهاد والمثابرة؛
– المبادرة والابتكار والإبداع؛
– التنافسية الإيجابية؛
– الوعي بالزمن والوقت كقيمة أساسية في المدرسة وفي الحياة؛
– احترام البيئة الطبيعية والتعامل الإيجابي مع الثقافة الشعبية والموروث الثقافي والحضاري المغربي.
فكل هذه الحاجات ترتبط بشكل وثيق بمنظومة القيم الإسلامية، التي تعتبر المدخل الطبيعي لغيرها من القيم الأخرى على اختلاف مجالاتها، ما دامت مستندة إلى التطلعات الإنسانية؛ الخالية من شوائب تأليه الإنسان، والتي تجعل فكره المبتدأ والمنتهى في كل شيء.
2 – في دفتر التحملات للتأليف المدرسي
يعتبر دفتر التحملات الخاص بالتأليف المدرسي مرحلة هامة في أجرأة الاختيارات والتوجهات التربوية لمراجعة المنهاج، فهو الذي ينقل التوجهات العامة من دائرة الإنشاء التنظيري إلى مجال إبداع البرامج وبناء الكتب المدرسية، حيث تصير فيه العموميات النظرية أكثر تخصيصا ومجملا ت المقدمات التصورية أكثر تفصيلا، لكن المدقق في دفاتر التحملات بمختلف المستويات، يلاحظ فيها اختصارا شديدا، وإشارات خفيفة، لاتدفع المؤلف في اتجاه إعارتها أدنى اهتمام، بل قد تغيب تلك الإشارات تماما في بعض المراحل، كما هو الحال بالنسبة لدفتر تحملات السنة الأولى ثانوي إعدادي؛ الذي اكتفى بإيراد عبارة “مساهمة الكتاب في إنماء شخصية إسلامية وطنية أصيلة”[13]، ضمن المواصفات الخاصة بمحتوى الكتاب.
فهذا تراجع واضح عما سطره الكتاب الأبيض، الذي اعتمد التربية على القيم وتنمية وتطوير الكفايات التربوية والتربية على الاختيار، مدخلا بيداغوجيا لمراجعة مناهج التربية والتكوين كما سلف.
ولعل المسؤولين تنبهوا لهذه الثغرة الكبيرة فحاولوا تدارك الأمر في دفتر التحملات لمستوى السنة الثالثة إعدادي الذي نص على”بناء الكتاب انطلاقا من القيم والكفايات المستهدفة”[14] إلى جانب ” مساهمة الكتاب في إنماء شخصية إسلامية وطنية أصيلة حفاظا على خصوصيات الأمة المغربية ووحدتها”[15] ، كما نص على “احترام الكتاب مباديء الإنصاف والمساواة ومحاربة العنف” وإقحام هذه العبارة هنا يمكن تفسيره بأحد الاحتمالات التالية:
– الجهل بحقيقة القيم الإسلامية التي تقوم على أساس العدل وإنصاف الآخر من النفس والمساواة بين البشر ذكورا وإناثا عربا وعجما، حيث لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، ولا يعتقد وجود عاقل يسوي بين المحسن والمسيء والمجد والكسول، فكلما ارتفع قدر قيم المرء المترسخة في نفسه زاد معها شأنه وعلا . أما محاربة العنف فالإسلام دين السلام والحرية والإقناع بالحجة العقلية، ولم يبح من استعمال القوى إلا القدر الذي يدرأ به عدوانا وشيكا أوظلما قائما.
– مجاراة بعض الأصوات المعادية لدين الأمة جهلا أو عنادا، والتي تنتهز كل مناسبة سانحة لتلصق بالإسلام تهما شتى على رأسها عدم مساواته بين الذكر والأنثى، واعتماده العنف في نشر الإسلام، وركوبها الموجة المتنامية ضد الإسلام، وتسويته بالإرهاب لفعل أفراد معدودين.
– التنبيه على عدم تحميل قيم الإسلام ما يتعارض معها ومع انشغالات الرأي العام العالمي في هذه الظرفية الاستثنائية، لكن هذا الاحتمال ضعيف لعدم الإفصاح عن مقصود العبارة والاكتفاء بإرسالها دون قيد.
ومن أغرب ما أورده هذا الدفتر، دعوته كتاب التربية الإسلامية إلى احترام الدين الإسلامي،”احترام الكتاب الدين الإسلامي، والمباديء والحقوق المعترف بها للأفراد والجماعات، والمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية المصادق عليها من لدن المملكة المغربية.”[16] والسؤال الذي يثيره هذا التوجيه هو: هل يمكن تصور مؤلف كتاب مدرسي في التربية الإسلامية لا يحترم الإسلام؟ سيما وهو يدخل منافسة قوية، الحكم النهائي فيها للجنة المصادقة التي تعينها الوزارة. ولو وردت مثل هذه العبارة في دفتر تحملات لمادة أخرى يخشى من أصحابها الإساءة للإسلام عن جهل وضعف التثبت، لكان ذلك أمرا مقبولا بل مطلوبا، بالنظر إلى ما يوجد في كتب بعض المواد الدراسية، من تعارض صريح مع تعاليم الدين وشرائعه وآدابه. أليست هذه العبارة إهانة ما بعدها إهانة لكل من ألفوا ويؤلفون في مادة التربية الإسلامية ولرجالها ونسائها من مؤطرين وأساتذة؟ كما أنها في نهاية المطاف إدانة صريحة لمن يضعون دفاتر تحملات هذه المادة؛ وهم يقولون مالا يجوز قوله ويسكتون عما يجب قوله. فإذا كان أهل التربية الإسلامية يحتاجون لمن يذكرهم بضرورة احترام الإسلام فمن الذي سيحترمه غيرهم؟ أم أن هذه الفئة وحدها هي التي يتعين في حقها احترام الإسلام، وكل من عداها له ألا يحترمه؟ إن هذا السلوك مؤشر صارخ على وجود أزمة قيم حادة لدى من وقعوا في هذا الخبط الفادح.
وختاما لهذه الإطلالة على ما دون بدفاتر التحملات الموجهة لعملية التأليف المدرسي نقف مع الدفتر الخاص بالجذوع المشتركة الذي يبدو من مواصفاته العامة أن محريريها غير مرتاحين للمسار الذي أخذته القيم في كتب المادة المؤلفة بالإعدادي، فأرادوا تصحيح المسار وتحذير المؤلفين من الانطلاق العفوي في تعاملهم مع القيم الإسلامية على الخصوص.
ونسجل لأول مرة تركيز المواصفات العامة على القيم والوفاء لمدخل التربية على القيم! لكن بصيغ غامضة قابلة لكل التفاسير، ولا يتبين من سياقها أي معنى محدد، فقد تثير في نفس المؤمن بخلود قيم الإسلام وسموها، أنها تستهدف محاصرتها والتضييق عليها، حتى لا تزاحم قيم العولمة والحداثة التي قد يراد لها لسبب أو آخر أن تكون هي المهيمنة لا القيم الإسلامية.
ففي أول هذه المواصفات:”ينبغي أن تتحرر محتويات الكتاب المدرسي من الجاذبية الضاغطة لبقايا القيم المتجاوزة تاريخيا والتي ما زالت تفعل، عن طريق التعود والاجترار وإعادة إنتاج الصيغ الجاهزة والصور التنميطية الاختزالية، في موروثنا الثقافي والبيداغوجي والتي يشكل تواترها اليوم عائقا في وجه عملية تفعيل إصلاح المنظومة التعليمية التربوية.”[17]
فإذا حملت هذه المواصفة على إحسان الظن بها؛ دلت على أن المراد بها الحذر من الترويج لقيم دخيلة على روح الإسلام وسماحته، لكن يعترض على هذا الفهم بأن من يتصدى للتأليف المدرسي في التربية الإسلامية ليس ممن ستختلط عليه مثل هذه الأمور.
والذي يترجح من هذا الكلام هو السعي إلى تبليغ رسالة إلى المؤلفين، دون امتلاك الجرأة على كشف مضمونها، الذي سيستفز المشاعر، ويفجر الكثير من التساؤلات والاستنتاجات بلا حد أو حصر.
ولعل الانتقال إلى العنصر الثاني يسلط أضواء إضافية على هذه التركيبة المحيرة.”يجب أن يتفادى الكتاب المدرسي السقوط في النزعة التمييزية على أساس الجنس أو العرق، أو في كل ما يوحي إلى تكريسها”[18] فهذه التحذيرات المفتعلة إنما يتوخى من ورائها تكبيل يد المؤلف وشل فكره، والدفع به لإنتاج كتاب مدرسي تطغى عليه الشكلانية والسطحية.
وهكذا بدل أن تنصرف المواصفات لصياغة التوجيهات والكيفيات، الكفيلة بإكساب أبنائنا القيم الإسلامية بالأساس، وكذا ما لا يتعارض معها من القيم الإنسانية المشتركة، والتنبيه على ضرورة إبراز قيمنا وتفعيلها وبناء الدروس على أساسها، نجد هذه المواصفات تنحو منحى واحدا هو عرقلة توظيف التربية على القيم ووضع الحواجز في المدخل إليها.
3 – في البرنامج
تم بناء برنامج التربية الإسلامية الحالي على أساس المدخل التربوي، حيث حل البعد التربوي محل البعد المعرفي، الذي كان تجسيده بواسطة مكونات العلوم الإسلامية: مكون القرآن، مكون الحديث … واعتمد لتعميق البعد التربوي في البرامج الجديدة، اختيار التربية في علاقتها بمجالات الفعل الإنساني داخل الواقع، إعدادا للنشء للتفاعل الإيجابي والسوي في ممارسة الحياة، وتكريسا للبعد الوظيفي للتربية الإسلامية، وربطا لها بإصلاح الذات وإصلاح البيئة الاجتماعية .
وهكذا تم تحديد وحدات تربوية بحسب حاجات المتعلم المتعددة مع استحضار متغيرات الحياة المعاصرة وقضاياها الراهنة، وبلغت هذه الوحدات عشرة: وحدة التربية الاعتقادية، وحدة التربية التعبدية، وحدة التربية العقلية والمنهجية، وحدة التربية الاقتصادية والمالية، وحدة التربية الأسرية والاجتماعية، وحدة التربية الصحية والوقائية، وحدة التربية التواصلية والإعلامية، وحدة التربية الحقوقية، وحدة التربية الفنية والجمالية، وحدة التربية البيئية.
وهذا الاختيار التربوي يتناسب تماما مع التربية على القيم، حيث تمثل المجالات المحددة فضاء مواتيا لاكتساب القيم وترسيخها، مشكلة منظومة متناسقة، لإخراج نشء متوازن في فكره وسلوكه قادر على الإفادة والاستفادة وأن يحيا عصره من منطلق دينه وقيمه الخالدة.
وقد فصلت هذه الغاية ديباجة البرنامج التي اشتملت على توضيحات نسوق منها “استحضار الجانب الوظيفي للمادة ليتمكن المتعلم من عملية نقل القيم الإسلامية قصد توظيفها في واقعه المعيش”[19]
كما وفقت في الربط بين القيم وأنواع الكفايات المعتمدة مدخلا لمراجعة المناهج والبرامج وهي الاستراتيجية والتواصلية والمنهجية والثقافية والتكنولوجية .
وذلك على النحو التالي[20]:
الاستراتيجية
أن يكتسب المتعلم قدرا كافيا من المعارف والمواقف والسلوكات الإسلامية، وتمثلها في تصرفاته اليومية.
التواصلية
أن يكتسب القدرة على التواصل والانفتاح والاندماج، في المحيط انطلاقا من القيم الإسلامية.
المنهجية
أن يكتسب المتعلم عبر منظومة القيم الإسلامية، تقنيات الفهم والتحليل والتقويم والتطبيق العملي.
الثقافية
أن يتمكن المتعلم من رصيد معرفي إسلامي، يؤهله لاستيعاب ثقافته الإسلامية، والتفاعل الإيجابي مع الآخر.
التكنولوجية
أن يحسن استثمار الوسائل التقنية الحديثة، في اكتساب المعارف والقيم الإسلامية، التي تحصنه من الانحرافات الأخلاقية.
4 – في الكتب المدرسية
تتميز الكتب المدرسية لمادة التربية الإسلامية بتوافر القيم الإسلامية، وتناولها بكيفية موفقة على العموم داخل مفهومها الإسلامي ، كما أن منهجية التعريف بها وترسيخها عبر إدماجها في الأنشطة التعلمية، عرفت تطورا بينا تحقق لها به قدر هام من البروز في المضامين المستخدمة، وفي الخطوات البيداغوجية المتبعة.
لكن غياب القيمة المركزية، التي ترتبط بها جميع القيم وتدور في فلكها، حرم النشء من إمكانيات الاستفادة الواسعة منها، وضمان ترسيخها والتخلق بها، واكتساب الكفايات التربوية التي لا تتحقق في أية عملية تعليمية مفتقدة لخاصية التركيز والتمركز حول مبدإ أو خلق أو قيمة قادرة على فرض حضور دائم، عبر جميع المبادئ والأخلاق والقيم الأخرى، التي تستحيل أداتا لرفع درجة ترددها على الوعي والإحساس، وتواترها على السمع والذهن ، فتترسخ وتتمكن من القلب، ثم تصبح قيمة فاعلة وموجهة، لا مجرد معلومة عالقة في الذاكرة، وقلما تفلح في مغالبة عوامل النسيان والإهمال.
فالقيم بطبيعتها لا تفعل فعلها التربوي في النفس والضمير منفردة، وإنما مجتمعة ومتضافرة، مما يبقي عليها حية مؤثرة في الوجدان والسلوك، وهذا مما تتيحه القيمة المركزية عبر ارتباطاتها الواسعة مع جميع قيم المنظومة الرائجة في البرنامج أو المجال الاجتماعي.
خاتمة:
ما يستخلص من بحث مسألة القيم في مناهجنا التعليمية؛ هو وجود ارتباك كبير في تفعيل التربية على القيم في الإصلاح الجاري، ناجم أساسا عن اختلال في تشخيص الأزمة، أو غياب إرادة صادقة لتوجيه المنظومة التعليمية للإسهام في تجاوزها.
فمن الجلي حصول تدهور خطير لدى الإنسان المغربي في الإحساس بالمسؤولية وتقدير الواجب، وإتقان الأعمال وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وغيرها من أعراض احتضار الضمير، وضعف التربية على قيم الأمانة، فكيف نتعامى عن كل ذلك أو نتحدث عنه في التوجهات العامة ثم ننساه ونركز على المهارات والكفايات العملية التي لا تصنع أبدا وحدها المواطن الصالح المصلح الذي يقود النهضة ويبني المستقبل.
كما أن التربية على المواطنة التي جاء بها الإصلاح الجاري الفاشل، ما دامت مفصولة عن الإيمان بالله ومراقبته، وعن قيم المسؤولية النابعة من الإسلام، فهي مضيعة للوقت وهدر للطاقات، وتكريس لتيهنا وعجزنا عن تسخير مقوماتنا الذاتية لبناء المواطن المغربي القوي الأمين.
بقي أن نشير في الأخير إلى أن تقرير المجلس الأعلى أرجع سبب إخفاق الإصلاح إلى كون ” المنظومة لم تتمكن بعد من فتح بعض الأوراش الصعبة، من قبيل إرساء آليات لتقويم الفاعلين فيها وترسيخ مسؤولياتهم، بما يمكن من حفز الجميع على بدل المزيد من الجهود لتحسين أدائها.”[21] وأضيف بأن الإخفاق الأكبر للمنظومة هو فشلها في تربية الجيل الذي يتعلم حاليا في المدارس على التشبع بروح المسؤولية والمواطنة الحقة.
[1] – انظر “المسؤولية أساس التربية الإسلامية- محاولة في التأصيل – عبد السلام الأحمر – سلسلة كتاب تربيتنا رقم 4 ، مطبعة طوب بريس1428/2007. الرباط ، ص 37.
[2] – معجم علوم التربية، 1 مصطلحات البيداغوجيا والديداكتيك – المجموعة- مطبعة النجاح الجديدة ، ط1، 1994
[3] – الميثاق الوطني للتربية والتكوين ص 9 – يناير 2000.
[4] – نفسه.
[5] – المرجع المذكور ص10.
[6] – نفسه
[7] – نفسه ص32.
[8] – نفسه ص 33 .
[9] – الكتاب الأبيض ، ج 1- الاختيارات والتوجهات التربوية العامة المعتمدة في مراجعة المناهج التربوية – ربيع الأول 1423 يونيو 2002
[10] – نفسه
[11] – نفسه
[12] – نفسه ص 12.
[13] – دفتر التحملات الخاصة المتعلق بتأليف وإنتاج الكتب المدرسية (كتاب التلميذ ودليل الأستاذ) مادة التربية الإسلامية لمستوى السنة الأولى من التعليم الثانوي الإعدادي. أكتوبر 2003.
[14] – دفتر التحملات الخاصة المتعلق بتأليف وإنتاج الكتب المدرسية (كتاب التلميذ ودليل الأستاذ) مادة التربية الإسلامية لمستوى السنة الثالثة من التعليم الثانوي الإعدادي. يوليوز 2004.
[15] – نفسه.
[16] – نفسه
[17] – – دفتر التحملات الخاصة المتعلق بتأليف وإنتاج الكتب المدرسية (للجذوع المشتركة لسلك التعليم الثانوي التأهيلي) مادة التربية الإسلامية. دجنبر 2004.
[18] – نفسه.
[19] – الكتاب الأبيض الجزء الثالث : المناهج التربوية للسلك الإعدادي- ربيع الأول 1423 – يونيو 2002.
[20] – نفسه
[21] – انظر ملخص التقرير السنوي للمجلس الأعلى للتعليم لسنة 2008.
التحديث الأخير (السبت, 20 نيسان/أبريل 2013 15:14)