د.مراد الصوادقي
المجتمعات القوية الفاعلة في الحياة تمتلك مفردات لغوية ثرية ومعاصرة تساهم في قدراتها على استيعاب التطورات المتسارعة من حولها، ولا يمكن لمجتمع أن يكون متقدما من غير ثراء لغوي متواكب مع مستواه الحضاري. وهكذا نجد في المجتمعات المتألقة أن الفرد ومنذ طفولته المبكرة، قد امتلك مفردات لغته التي تعينه على التعبير عن أفكاره ومشاعره بمهارات واضحة وقدرات مؤثرة في سلوكه والمحيط من حوله.
وفي عالمنا المعاصر هناك العديد من البرامج والمبتكرات التي تساهم في تقوية المعرفة اللغوية وزيادة أرصدة مفرداتها في عقول الناس، وتثري ثقافتهم وتمدهم بأدوات تكفي لصياغة الأفكار والتعبير عن التطلعات. كالكلمات المتقاطعة وملئ الفراغات ولعب الكلمات وغيرها الكثير جدا، مما يخطر ولا يخطر على البال من النشاطات التي تنمي الأرصدة اللغوية . بينما نحن لا نعرف جيدا هذه المبتكرات التي تساهم في التقدم والارتقاء. ولا نفهم في دور المفردة اللغوية وتأثيرها الجاد في تحفيز العقول، وتحقيق الإبداع الأصيل على جميع مستويات الحياة وأروقة التقدم والتطلع الإنساني. ولدينا كتاب واحد، أجدادنا قد فقهوا ما فيه من المفردات ومعانيها فاستحضروا أمهات الأفكار، التي شيدت معالم حضارية ذات قيمة إنسانية وتاريخية. بينما نعيش في زمن لا نعرف فيه إلا نسبة ضئيلة من مفردات القرآن، وعدم قدرتنا على تطوير المعاني وتجديد الكلمات لكي تكون ذات دور مؤثر ومعاصر.
بل ما نراه هو جنوح عن اللغة وهرب إلى لغة أخرى خصوصا الإنكليزية، وعدم التمعن بالعربية وإظهار دورها وفعالياتها الإبداعية، وقدراتها الفائقة على المواكبة والنماء والابتكار مثل أية لغة أخرى في الأرض. بل أنها تتفوق على العديد من لغات الأرض بأبجديتها وأصواتها وتركيباتها ونضوجها البلاغي والنحوي المتميز. فالكثير من اللغات لم تنضج بلاغيا ونحويا إلى اليوم، لكنها تتفاعل بمعاصرة وجد ونشاط مع ما يستجد من تغيرات وتطلعات إبداعية متسارعة.
والسبب الأساسي ليس باللغة العربية، وإنما في أبنائها الذين استهانوا بأنفسهم ودورهم الإنساني وداسوا على لغتهم بأقدام الجهل والتداعي والامتهان، وأصبح الكثير منهم يخجل من نفسه عندما يتحدث بلغته، ويفضل الكلام بلغة أجنبية، لكي يحسب على أنه صاحب شأن وينتمي إلى حلبة الحياة التي تتصارع فيها القدرات.
وفي زمن يحتاج فيه البشر للقضاء على أي شيء يضعه في خانات الأوصاف التي تبرر الهجوم الشرس والمدمر عليه واجتثاثه من الحياة، أصبحنا في زاوية ضيقة نحشر فيها لغتنا وما عندنا، وننظر إلى أحوالنا بعين السوء ونستجلب الأفكار السيئة والحملات المتوحشة إلى ديارنا، لكي نحقق نداء هزيمتنا الداخلية ونقضي على وجودنا الصحيح.
وبسبب هذه الهزيمة الداخلية المريرة والعميقة، صرنا أعداء لغتنا، بإهمالنا لها وعدم احترامنا لمفرداتها وكسلنا في تطوير أرصدتنا من المفردات، مما وفر الأسباب اللازمة لضعف تعبيرنا وخمول تفكيرنا وتنامي انفعالاتنا واستعار غضبنا، الذي يتم توظيفه لتدميرنا والقضاء علينا.
وفي هذا الوقت الحضاري العصيب أصبح من أولويات البقاء والتواصل الإنساني، العودة إلى المفردة اللغوية وتعميق المعرفة اللغوية، لكي نستعيد شخصيتنا ودورنا، ونتخلص من أفكار اليأس ومفردات الذل والهوان، ونتعلم كيف نضع أفكارنا في كلمات معبرة عن الفعل والجد والاجتهاد والإبداع المتميز والقوي.
فمن القوة والتقدم أن نتمسك بلغتنا ونتباهى بقدراتنا اللغوية وما نعرفه من مفردات ضرورية للتفاعل مع مستجدات العصر، وأن نبني مخزونا لغويا وفيرا عند أطفالنا يساعدهم على هضم كل جديد واستيعابه وتمثله لكي يحققوا دورهم وإضافاتهم المتميزة. وكلما تعلمنا مفردة لغوية ازددنا قوةً ووعيا وتمكنا من التعبير الأفضل عن أفكارنا ومشاعرنا والتفاعل المنير بعقولنا. وبهذا نتحرر ونتقدم ونمتلك إرادتنا فنكون. فاللغة العربية هويتنا، وبضعف لغة الإنسان وعجزه عن التعبير عن أفكاره ومشاعره بها، تكون أمته قد فقدت أهم ملامح وسمات شخصيتها، وطمست دورها وأنكرت تأريخها واندحرت في آبار ذاتها المظلمة وكهوف هزائمها المتفاقمة، وهي تقف كالمسمار تنتظر أن تسقط على رأسها مطرقة الفناء التي تحملها أذرع الطامعين بها.