الأستاذ أحمد أولاليت
الإنسان كائن رامز يعيش بعدين : البعد الواقعي الذي يعيشه اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا … وبعده الرمزي الذي يرمز إليه بالكتابة والرسم والأسطورة والقصة…
ومن بين التعاريف التي يحد ( يعرف ) بها الإنسان أنه كائن لغوي لأن اللغة قدرة خاصة بالنوع البشري على التعبير عن الفكر والتواصل بواسطة أنساق متعددة من العلامات وبخاصة منها العلامات اللسانية أو الصوتية . فإلى جانب كون هذه القدرة استعداد فطري و طبيعي لدى الإنسان من النواحي الوراثية العصبية والرمزية والتقنية الجسدية فهي لا تتحقق إلا على شكل مؤسسة اجتماعية توجد على صورة نظام من العلامات والرموز وبخاصة اللسانية.
هذه اللغة التي تميزه عن غيره من الكائنات تتطور بتطور واقع صاحبها ومداومته على تداولها واستعمالها … وتموت بموت من لا يستطيع تطوير واقعه و جعلها مرنة وقابلة للتداول والتطور والتكيف مع الواقع المعيش.
وبالعودة إلى التاريخ نجد أن الفراعنة في ما بين ( 3300 – 3200 ق م ) أول من اهتدى إلى كتابة تعبيرية كانوا يسمونها ( ميدوا نتروا ) ومعناها باليونانية ( هيروغليفية ) المؤخوذة من كلمتين (هيروس – غلوفوس ) التي تعني ( النقش المقدس أو الكتابة المقدسة ) لأنهم كانوا ينقشونها على المعابد والمقابر… فكانت كتابة تصويرية تعتمد الصور والرسوم المستمدة من الحياة اليومية للمصريين القدامى ليرمزوا إلى كل حرف بالصوت الأول من اسم كائن ممن اشتهر عندهم : فالفم يسمونه ( را ) والعين ( يري ) والعرش ( ست) والبيت ينطق ( بر ) والثعبان ( فاي ) فيؤخذ منها الحرف الأول ليكون رسم الفم (را ) ورسم الثعبان (ف ) ورسم البومة ( م ) والأرنب ( ون ) …. وكانت كباقي لغات الشرق تكتب من اليمين إلى اليسار … فانطلقوا من ثمانية وعشرين( 28 ) حرفا لتستقر ( الهيروغليفية ) في النهاية في خمسمائة حرف (أي رسم ) ….ومع دخول الاحتلال اليوناني زمن الإسكندر المقدوني ثم الاحتلال الروماني بدأت هذه اللغة في الانقراض وقد عمل الرومان إلى تهجير الكثير من الأوروبيين الى مصر ( الأقباط ) مما ضرب في العمق اللغة الفرعونية والكتابة الهيروغليفية والتشكيلة السكانية لمصر …ومع الفتح الإسلامي ازداد تهميش هذه اللغة إلى أن جاءت زيارة الخليفة العباسي المامون ( ابن هارون الرشيد ) لمصر فأمر بتدوينها …. وكان أيوب بن مسلمة ( وهو ممن رافق الخليفة من بغداد الى مصر ) ممن تمكن من قراءة النقوش التي كانت على جدران المعابد … ويروى أن جابر بن حيان وغيره من علماء الكيمياء اهتموا بها من أجل معرفة كيفية تحويل المعادن العادية إلى معادن نفيسة … ويروى أن ذو النون المصري كان يتكلم اللغة الفرعونية جزئيا …. ولكن المثير في هذا الموضوع أن كتاب ( شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام ) لأبي بكر أحمد بن علي المعروف بابن وحشية النبطي المتوفى سنة296 هجرية الموافق 909 للميلاد هو أول من دون هذه اللغة ( وقد أنهى كتابته يوم الخميس ثالث رمضان من سنة 241 للهجرة ) وقد نسخ هذا الكتاب المتميز في اسطمبول سنة 1172 الموافق لسنة 1759 للميلاد … ثم ظهر بعد زمان عندما نشره السوري خالد الطباع سنة 2003 بدار الفكر دمشق …. ولكن المعروف أن الذي فك رموزها هو المفكر الفرنسي جون فرانسوا شامبوليون ( سنة 1822) أيام حملة نابليون على مصر بعدما عثر الفرنسيون على ما يعرف بحجر مدينة الرشيد (1799 م ) الذي كان عبارة عن رسالة من رجال الدين المصريين الى الملك بطليموس ( 196 ق م )وكان مكتوبا بثلاثة أشكال: الكتابة اللاتينية والكتابة الهيروغليفية والكتابة اللاتينية المنطوقة هيروغليفيا ( وهذا الموضوع فيه كثير من المغالطات التي صنعها الفرنسيون وليس موضوعنا هنا) .
فلم تنتشر لغة الفراعنة خارج مصر القديمة لأن همهم انصب على ما هو داخلي كتوحيد مصر العليا ومصر السفلى ورد الغزاة من الجيران وبناء البلاد….
ولما بنى السومريون حضارتهم جنوب العراق ( ما بين القرن 25 والقرن 23 قبل الميلاد ) عرفت الكتابة طفرة ثانية حيث كان السومريون يعجنون الطين ويشكلون ألواحا( قطعا ) يكتبون عليها بالمسامير ثم يطهونها في الفرن لتصير وثيقة مكتوبة … فساعدت الكهان وكتبة القصر على إحكام سيطرتهم ونفوذهم، حيث أصبح بإمكانهم تدوين سجلات حسابات مخازنهم بكفاءة وتنظيم قوائم أسمائهم وأراضي وممتلكات الناس والضرائب … والكتابة أعطت قوة للملك الذي يبعث بأموامره وقراراته إلى عماله ومرؤوسيه … وأدت الكتابة إلى فائدة أخرى … وهي تدوين الأساطير والقصص.
وجاء الفينيقيون ( فلسطين ولبنان وغرب سورية حاليا ) وحققوا القفزة الكبرى وأنجزوا أول أبجدية في التاريخ. وبما أنهم كانوا شعبا تاجرا فقد نشروا إنجازهم إلى كل مناطق البحر المتوسط ( العالم القديم ) ووصلوا بتجارتهم حتى الجزر البريطانية … فقد استحدثوا كتابتهم مستفيدين من موقعهم بين مصر والعراق ( الكتابة الهيروغليفية بمصر والكتابة المسمارية بالعراق ) فيما بين 1200 و 500 قبل الميلاد وكانت الأبجدية الفينيقية تتكون من اثنين وعشرين ( 22) حرفا وكان ترتيبها كالعربية والآرامية والعبرية ( أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ) وكانت تكتب من اليمين إلى اليسار.