وقد فصل في المذهب المالكي وبين مراحل تطوره على الشكل التالي: (1)
أ ـ مرحلة التأصيل:
وهي المرحلة التي تكلف بها الإمام مالك ناظرا الأصول التي يمكن أن يعتمد عليها في اجتهاده، ومرتبا عليها الفروع التي تناسب منحاها.
وأصول المذهب استقرائية، تبعا لملاحظة تلامذة الإمام مالك طريقة اجتهاده، وما سار عليه في نظر جزئيات، وفروع متعددة من فقهه، ولا سيما ما ورد في الموطأ من فتاوى وأحكام، وما كان ينقل عنه من أجوبة، فاستخلصوا من كل ذلك ما ينبني المذهب عليه.
وحينئذ فإن الإمام مالك رضي الله عنه لم يحدد هذه الأصول بنفسه بالصورة التي يذكرها الأصوليون.
ب ـ مرحلة التفريع:
ويقصد به بناء الفرع على أصله، واستنباط حكمه منه. وذلك داخل المذهب.
وهذه المرحلة هي التي ظهر فيها أتباع الإمام مالك وتلامذته، آخذين بمنهجه، ومؤسسين الإفتاء في والحوادث والوقائع بربطها بأصوله وقواعده.
وكانت المدونة الكبرى ـ برواية ”سحنون” عن ”عبد الرحمن بن القاسم”، التلميذ الأكبر للإمام مالك ـ الميدان الخصب، والنواة الأولى لمرحلة التفريع.
فانطلقت الأحكام الفرعية من رحاب الفتوى، ودائرة السؤال والجواب التي تمثلها خير تمثيل تلك المدونة.
وجاءت بعدها ”الواضحة” لعبد الله بن حبيب في الأندلس، ولا غرو إن الإمام مالك رضي الله عنه، هو الذي لفت الأنظار، وأشار ببديع أسلوبه، وحميد منهاجه، في كتابه الموطأ إلى دور الفتوى، وما تقوم به من تأسيس الأحكام، وتلقيح الأفهام.
ج ـ مرحلة التطبيق:
وهي مرحلة النظر فيما أنتجه دور التفريع الفقهي الذي سبق، والاجتهاد في تحقيق المناط في الوقائع المستجدة، فيما ينطبق، وفيما لا ينطبق عليها من تلك الصور الفرعية، مع تمييز كل حكم منها على حدة، ومع مراعاة أصول المذهب في ذلك.
وفي هذه المرحلة يقول الفاضل بن عاشور رحمه الله: ”وظهرت في هذا الدور كتب التهاذيب التي هذبت بها الكتب القديمة، والمختصرات التي لخصت فيها، والشروح التي شرحت بها، ودقق النظر في المسائل لأجل بيان ما بينها من الاتفاق والاختلاف، ثم صور النوازل والفتاوى التي تشمل على الواقعات الحادثة، وعلى بيان ما يرى الفقهاء المتأخرون من رجال دور التطبيق من انطباق أو عدم انطباق لقول من الأقوال المأثورة من المصادر القديمة من دور التفريع على تلك الجزئية الخاصة.
وكان العمل قد توزع على مراكز أيضا هي القيروان، والأندلس، والعراق ومصر.
فكان في القيروان، مثلا ”محمد بن سحنون الذي وضع كتاب ” النوازل” أو المسائل وجعل كل حادثة من الحوادث التي تجري في عصره، مع تصورها بالملابسات العارضة محلا للنظر في كيفية انطباق حكم المقرر في ”المدونة” على تلك الصورة، بحيث إن حكمها يؤخذ من المصدر الذي هو من أثر دور التفريع. وسار على نفس النهج الإمام ”محمد بن أبي زيد القيرواني” في كتابه ”النوادر والزيادات” مستفيدا مما سلقه، وما دون من كتب في المذهب، كـ”المدونة” لسحنون، و”الواضحة” لابن حبيب،و”المستخرجة” للعتبي، و”الموازية” لابن المواز.
وهذا ما أكده ابن خلدون بقوله: ”وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف، والأقوال في كتاب ”النوادر” فاشتمل على جميع أقوال المذهب، وفروع الأمهات كلها في هذا الكتاب، ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة.
كما اختصر ابن أبي زيد المدونة في كتابه ”المختصر” ولخصه أيضا ”أبو سعيد البرادعي” من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بـ”التهذيب”. وألف ”ابن يونس” كتابه ”الجامع” على غرار كتاب النوادر والزيادات. ثم جاء بعدهم أبو الحسن اللخمي باختياراته المشهورة في المذهب مودعا إياها في شرحه على المدونة المسمى بـ”التبصرة”. وفي الأندلس ألف ”أبو عبد الله محمد العتبي” ”المستخرجة” وهي ”العتبي”، وألف ”يوسف بن عبد البر” كتابه ”الكافي في فقه أهل المدينة”.
وفي العراق أخرج القاضي ”اسماعيل بن حماد كتابه ”المبسوط” وألف القاضي ”عبد الوهاب” كتاب ”التلقين”.
د ـ مرحلة التنقيح:
وهي مرحلة تنقيح الأقوال المذهب، واعتبار الدليل الأقوى منها رواية ودراية.
وكان الذي حمل لواء هذه المرحلة أبو الحسن اللخمي” الذي انفرد باختيارات في المذهب حتى عد متميزا بها.
وسار على هذا المنهج الإمام المازري في ”شرحه على التلقين”. و”ابن رشد الجد” في كتابه ”المقدمات الممهدات” وكتابه ”البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل” وهو شرح ”العتبية”. والقاضي عياض في شرح المدونة، وتعليقاته عليها المسماة ”بالتنبيهات”.
هـ ـ مرحلة الجمع والاختصار:
وهذه المرحلة جاءت بعد استقرار المناهج، والنظر في الفروع الفقهية تخريجا، وتطبيقا وتنقيحا، وما قام به جهابذة المذهب من اجتهادات.
وهكذا ظهر مختصر ”ابن شاس” المسمى بـ ”الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة”. ومختصر ”ابن الحاجب” المسمى بـ”جامع الأمهات”، وجاء بعده ”مختصر الشيخ خليل” الذي طوى جميع المراحل، ثم توالت الاختصارات من بعده ناسجة على منواله، كـ”أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك” لـ”أحمد بن محمد الدردير”، و”المجموع” لـ”محمد بن محمد الأمير‘.
ونظرا لوضوح الموضوع، وأصالة موضوع الفتوى، فقد سلك فيه منهج التحليل والاستنتاج، واستشهد لكل فكرة ما يؤيدها من النقول المعتمدة، ناسبا كل قول لقائله، وجالبا له بنصه وفصه، أمانة في النقل، واعترافا بفضل وجميل علمائه عليه والتبرك بذكر اسمائهم.
وقد جعل لهذا المؤلف خطة حيث قسمه إلى ثلاثة أبواب :
الباب الأول: الأحكام العامة للفتوى، وقسمه إلى فصلين:
تناول في الفصل الأول: كيف انطلقت الفتوى في عهود الإسلام الأولى في ظل نزول الوحي، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان الصحابة رضوان الله عليهم، معرجا عن عصر التابعين وذلك من أجل ربط الصلة، بينهم وبين إمام المذهب مالك بن أنس رحمه الله وباعتبار أن هذا البحث في دائرة مذهبه.
وأما الفصل الثاني : فبحث في دور المذهب المالكي في الفتوى . مشيرا إلى معنى كلمة مذهب بصفة عامة، ونشأة المذاهب الإسلامية ، وأساس الخلاف بينها، وأهمية هذه المذاهب، لأنها تكون نقطة الانطلاق في فهم الشريعة، والاجتهاد فيها، ومكانة المذهب المالكي من بين هذه المذاهب.
ووقف وقفة خاصة عند منهجية الإمام مالك في الفتوى، لما اتصفت به هذه المنهجية من ضوابط الفتوى، كما تناول دور العلماء المغاربة في الفتوى كصلة وصل بين تراث السلف، وموصول الخلف، واقتصر على علماء المغرب دون غيرهم من الأقطار الأخرى نظرا لما يفرضه المقام، ولأن تتبع ذلك لا يمكن حصره.
الباب الثاني: تناول فيه أركان الفتوى (المفتي، والمستفتي، والأدلة المفتى بها).
وقسمه إلى ثلاثة فصول:
تحدث في الفصل الأول: تعريف الفتوى .
وفي الفصل الثاني: تناول في المستفتي وما يتطلب فيه.
وأما الفصل الثالث: فقد رصده للكلام عن المستفتي.
وأما الباب الثالث: فقد درس فيه الأدلة المستفتى بها وقسمه إلى فصلين:
تناول في الفصل الأول: الأدلة العامة للمذهب ويقصد بها أدلة المذهب إذ لاشك أنه يتفق مع غيره من المذاهب في بعضها، ويختلف في البعض الآخر.
وأما الفصل الثاني فقد خصصه للأدلة الخاصة داخل المذهب .
ثم خاتمة تضمنت نتائج وتوصيات.
وهكذا يكون منهاج دراسته لهذا الموضوع بصفة عامة بعد المقدمة: الباب الأول: أحكام عامة، الباب الثاني: أركان الفتوى، الباب الثالث: الأدلة المفتى بها، ثم خاتمة (2)
وقال في حقه الشيخ محمد المنوني ” وأول ما يلاحظ في مسار الأطروحة، أن المؤلف يسير في تركيز قضاياها على طريقة المؤلفين المحققين، فيوثق كل مسألة يطرحها بالنص الشاهد، كما يقدم مقترحاته الإصلاحية للفتوى والمفتين، في شجاعة فكرية، وجهر بالحقيقة الناصعة …. ومن هذه القراءة السريعة للكتاب يتبين أن الموضوع فرد في بابه، وأنه برز في الوقت المناسب، إضافة لما يشف عنه من مقدرة علمية، وشجاعة فكرية للمؤلف…” ( 3) .
لقد دعا العلامة محمد رياض إلى فتح باب الاجتهاد المذهبي من أجل القيام بأمر الفتوى على أحسن وجه، وخاصة في القضايا المستجدة، والنوازل الطارئة . وأكد أن الاجتهاد لا يمكن أن يتوفر إلا بعد الحصول على مؤهلاته، والتسلح بعدته… كما يمكن الاجتهاد على ضوء كل ذلك، اجتهادا جماعيا ، من أجل مسايرة فقهنا الإسلامي على مذهب مالك لشؤون الحياة وأحداثها. وطالب بتكوين لجنة منتخبة من جهات الفتوى بالمغرب للقيام بتوحيد الفتوى في مسائل العبادات والمعاملات، وبنظر ثاقب سبق الرجل زمانه، حيث أصبح في أيامنا من يتصدى للفتوى وهو ليس أهلا لها ولم يوت سعة من العلم، بقدر ما أوتي جرأة على الكلام وتطاولا على العلم والعلماء،
ولإنعاش الفتوى وإمدادها وانطلاقها، يرى رحمه الله أنه لا بد من العمل بربطها واتصالها وتلاحمها بالأحكام الشرعية على مذهب مالك بن انس، بناء على الموازن والضوابط التي سنها العلماء والأئمة.(4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفهرس :
1 ــ د: محمد رياض”أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي” ص 101 وما بعدها.
2 ــ نفس المرجع الصفحات من 6 إلى 14.
3 ــ نفسه ص 5.
4 ــ نفسه الصفحات 602 ـــ 603.