عبد السلام محمد الأحمر
عبد السلام محمد الأحمر
تأتي عبادة الحج في آخر أركان الإسلام، وتفرض على المكلف مرة واحدة في العمر، وانفرادها بهذا الاستثناء تمليه اعتبارات التيسير وعدم الحرج، التي تطبع التشريعات الإسلامية كلها، فكلما خفت المشقة في عبادة ارتفعت وثيرة ممارستها، وكلما زادت تراجع عدد مرات التكليف بأدائها، فيسر الصلاة مثلا جعلها تتكرر خمس مرات في اليوم، ولا يسمح بتركها إلا عند غياب الوعي، حيث تؤدى بما يتيسر من الكيفيات، في حين فرض الصوم مرة واحدة في السنة وقيد بالاستطاعة، ومثله الحج الذي لم يجب إلا مرة على امتداد الحياة كلها. وكذا الزكاة التي ربطت بامتلاك أنصبة محددة في الأموال المختلفة.
وإذا تأملنا العبادات الإسلامية، والمفروضة منها خاصة، وأركان الإسلام بصفة أخص، وجدناها تهدف كلها إلى تحقيق مقام التقوى حسب تصريح الشرع أحيانا وتلميحه أحيانا أخرى، فالصلاة تربي على التقوى بنهيها عن الفحشاء والمنكر: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، والزكاة تربي على التقوى من سيطرة حب المال على القلب وتطهره من البخل بإنفاقه في المجالات الواجبة والمندوبة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، والصوم يربي النفس على التقوى من سيطرة الشهوات، وعلى رأسها شهوتي البطن والفرج ويعزز قدرتها على ممارسة التقوى بلجم الشهوات المحرمة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وأما الحج فقد حسم الله غاية التقوى منه بقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، وقوله سبحانه عن الذبائح التي تقدم في الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [الحج: 37]. فما يريده الله من الحاج في جميع أعمال الحج ومشاعره كلها هوتحقيق تقوى القلب ! لهذا قال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } إلى أن قال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 27 – 32]، فتعظيم شعائرالله في الحج نتيجة طبيعية لتقوى القلب، كما هو الشأن مع جميع أوامر الله ونواهيه، التي يتبع التعامل معها عزما وحزما أو تراخيا وتهاونا، امتثال وتنفيذ على حسب ما حصل في القلب من التقوى، والتعظيم لدين الله وممارسة شعائره وسائل شرعية فعالة في إكساب النفس مزيدا من التقوى، والحفاظ على ما تحقق منها في القلب، الذي هو مجال التزكية والتربية، و موضع نظر الله إلى الإنسان، كما بين الرسول ﷺ حينما قال: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم»1
فالحاج بمجرد أن يحرم ويلبي، يتعين عليه أن يستحضر أنه دخل في البلد الحرام وهو في الشهر الحرام، تماما كدخوله في مجال الصلاة بتكبيرة الإحرام؛ فتحرم عليه أفعال، قد يفعلها ولا حرج عليه، خارج مجال الحرم المكي، فيلزمه أن يتهيأ لإلزام نفسه بأعلى درجات التقوى، ويسعى لتحقيق مقتضياتها جهد المستطاع، ومما يستعان به على اكتساب التقوى ممنوعات ثلاثة، كلها متصلة بالمعاملة الإنسانية التي تتبوأ مكانة بارزة في مطلوب الله ممن يحج بيته الحرام، بحيث إذا جاهد نفسه على تركها طاوعته في ترك سواها من المعاصي والآثام، الناجمة عن إساءة التعامل مع رواد البيت العتيق، وهي كما يلي:
أولا: اجتناب الرفث أي الجماع وما يتصل به قولا وفعلا، مما يبتعد بالنفس عن استشعار قداسة المكان والزمان وما يغشى فيه القلب من ظلال الرهبة والخشية وتقوى الله في السر والعلن، ويحول دون استلذاذ الروح بحالة الإحرام وما يصحبها من ذكر الله واللهج بالتلبية، والقيام بالطواف والسعي وباقي المناسك الواجبة.
ثانيا: الامتناع عن الفسوق، الذي يشمل كل معصية باعتبارها تركا لأمر الله، وخروجا عن طريق الحق، وأي فعل يتنافى وحالة الإحرام والدخول في ضيافة الرحمن، كما يحتوي بصفة خاصة على كل عمل فيه إساءة معاملة الآخرين بوجه من الوجوه، ففي القرآن تردد الكلام عن الفسوق بما يفيد هذا المعنى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وفي الحديث: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»2 فمن رام تحسين علاقته بالله فليحرص على الإحسان إلى خلقه وترك إذايتهم وبشكل خاص من تجمعه بهم رابطة الإسلام وحدود الحرم.
ثالثا: ترك الجدال أي مماراة المسلم، والذي قد يجر إلى إغضابه وإخراجه عن اتزانه ورشده، وربما الانجرار إلى السب والشتم والخصام والنزاع، وما لاتحمد عقباه من حقد وعداوة وفساد ذات البين.
وإذا كان رسول الله ﷺ وعد تارك المراء ولوكان محقا ببيت في ربض الجنة على وجه العموم ، فإنه في الحرم وأثناء أداء مناسك الحج سيكون أجر تركه ووزر فعله عظيما ومضاعفا، فعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ﷺ: “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه“3
ويمكن اتقاء هذه الأفعال المعيقة لإحراز صفة التقوى، بحمل النفس على التحلي بالصبر والحلم، والعفو والسماحة والتزام التواضع ونكران الذات، والتضحية بالراحة الشخصية من أجل راحة الناس الآخرين، وإيثار ما هو خير وفضل، قال تعالى موصيا وآمرا بجماع هذه الفضائل والأخلاق: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] فامتلاء القلب بالعزم على فعل الخير والإحسان يحجزه عن الهم بالإساءة البينة والخفية.
يقول أبو زهرة في تفسيرالآية: “وإذا كنتم قد تنزهتم في حجكم عن كل شر، فاعلموا أنكم اجتمعتم لعمل الخير، فتنافسوا فيه، وتبادلوا النفع”4.
فعلى الحاج أخذ الحذر الشديد من إذاية أي مسلم في أحضان الحرم، حيث يحرم قتل الحيوان وترويعه، ومن باب أولى الإنسان، وذلك لأن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة البيت نفسه. فقد روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، نظر يوما إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتكوالمؤمن أعظم حرمة منك5.
والجهل بهذه الحقيقة يدفع بعض الحجاج إلى استصغار إيذاء غيرهم، في سبيل تقبيل الحجر، أو استلام الركن اليماني، أو القيام بالرمل، أو الصلاة خلف مقام إبراهيم، ظانين بأن كل ما يلحقونه بالحجاج من الأذى أمر طبيعي ولا يمكن تجنبه، وأنه هين ومغفور لهم أمام ما يقومون به من المناسك، بدل اعتبارهم بأن كل هذه الأعمال سنن يشرع التخلي عنها، أو أداؤها بكيفيات أخرى على قدر المستطاع، وكل ذلك احترازا من إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، والذي يعد من المحرمات المغلظة في شرع الله.
وكما يتيسر للحاج التزود بالتقوى وإحراز الأجر العظيم، الذي يتضاعف أضعافا كثيرة، حيث الصلاة في المسجد الحرام كمائة ألف صلاة خارجه، فإنه في مقابل ذلك يرتفع خطر اقتراف بعض الذنوب والمخالفات، التي قد يعتبرها بعض الناس هينة وهي عند الله عظيمة، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، فمن المعلوم أن المسجد الحرام يقصد به الحرم كله، وأن من أنواع الصد عنه التي يجب اتقاؤها، الإسهام في إشاعة ما يتنافى وأخلاق الإسلام وشعائره، بالميل في ربوع الحرم عن الحق إلى الباطل، وعن الخلق الفضيل إلى الخلق الرذيل، وهو ما قد يحصل بترويع الحجاج وتعنيفهم بالزحام والتدافع، وإلحاق الأذى بهم في الطواف والسعي ورمي الجمرات، مما يشكل صورة مقززة عن الحج والحاج وسلوكه، ويؤدي إلى تنفير الناس وصدهم عن التفكير في أداء فريضة الحج وزيارة بيت الله، فكل هذا يدخل في مضمون الإلحاد بظلم في الآية، إلى جانب الدعوة بدعوى الجاهلية، والانحراف عن التوحيد إلى الشرك بكل أنواعه.
ومن هنا ندرك أهمية التزام التقوى بإحسان معاملة الحاج والمعتمر لإخوانه زوار بيت الله الحرام معاملة إنسانية بغاية العناية واللطف والإيثار، ومدى ارتفاع قيمتها ضمن الاستفادة التربوية الكاملة من ممارسة عبادة الحج، وتطهيرها للنفس من آثار أدوائها ورعوناتها وأنانيتها المهلكة، ففي الحديث الصحيح، «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه»6أي مغفور الذنوب مرضي السلوك.
وتعتبر الصلاة والطواف في المسجد الحرام ذات أثر كبير في تحقيق تقوى القلوب وزيادتها، فنهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، يكون على قدر أفضليتها عندما تؤدى في أحد الحرمين المكي والمدني، كما جاء في الحديث النبوي:“صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه“7.
فالحديث أطلق الأفضلية، ولم يقيدها فقط بالثواب دون آثارها النفسية والتربوية، والتي تسهم في زيادتها ومضاعفتها بركة المكان الذي أديت فيه، وهو أفضل وأطهر بقعة على وجه الأرض، كما أن الأصل في التفضيل الإلهي للعبادة في مكان على ما سواه، أن يكون عاما وجامعا لكل أنواع فضل الله الواسع العميم.
وهذا يعطي للأبعاد التربوية للحج وأهمها التقوى صفة التغيير الدائم في النفس – إذا حافظ عليها الحاج والمعتمر ولم يضيعها بتعدي حدود الله وانتهاك محرماته – فتحصيل التقوى يمكن أن يلازم القلب بعد انقضاء المناسك فيما بقي من العمر، وهو ما يفسر لنا حقيقة الحج المبرور، والذي تم تعريفه بعدم اقتراف الحاج للمعاصي بعده، وعلى رأسها ظلم الناس وإذايتهم وإلحاق الضرر بهم على أي نحو حصل.
وختاما نؤكد أن استفادة المؤمن التربوية من زيارة بيت الله الحرام حجا أو عمرة، لا تتأتى إلا لمن ألزم نفسه بالتقوى، وحرص عليها وسعى في تحقيقها، وجاهد نفسه عليها من خلال القيام بالشعائر بإخلاص وإتقان، وتعفف عن أي إيذاء مهما دق وهان لضيوف الله في جوار بيته الحرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – صحيح مسلم (4/ 1986)
2 – صحيح البخاري (1/ 19).
3 – سنن أبي داود (4/ 253) وحسنه الألباني
4 – زهرة التفاسير (2/ 615)
5 – أخرجه الترمذي وابن حبان، وقال الإمام الألبانيحسن .
6 – صحيح البخاري (3/ 11).
7 – سنن ابن ماجه (1/ 451) وغيره وصححه الألباني