د.محمد المسكيني
على الرغم من الزخم النظري الذي تم إنتاجه حول البيداغوجيا وحول القيم إلا أن ممارسة المدرسين في التعليم الديني في الفصول يطغى عليها الشرح والإلقاء. وإما التقيد المطلق بالكتاب المدرسي أو المتن أو الكتاب، أو الابتعاد عنه بالكلية. كما أن المدرسين لا يكًفُّون عن التحسُّر على الواقع الذي آل إليه التعليم الديني والذي عنوانه الأبرز غياب المعنى والانفصام النكد بين القول والفعل، بحيث لا يرى العديد من المدرسين أثر ما يتم تلقينه على المتعلمين، ولا يرى في المقابل العديد من المتعلمين أهمية لما يتعلموه، والبعض الآخر يرى أهمية ذلك في اجتياز الامتحان فقط.
لذا فإن التجديد البيداغوجي والديداكتيكي للتعليم الديني لا ينبغي أن يكتفي بتقديم البدائل النظرية وفق البيداغوجيات الحديثة فقط، فإن التجارب تدل على أنها لا تسهم وحدها في تغيير الممارسات الصفية. بل إن التجديد يقتضي التفكير الجدي في طريقة تكوين وإعداد مدرسي التربية الإسلامية والعلوم الشرعية، وتحديث طرائقهم؛ ويقتضي أيضا تطوير الممارسة الصفية ديداكتيكيًا، وبيداغوجيًا، حتى تمسي أكثر مردودية.
ولما كان أساتذة التربية الإسلامية يمرون عبر مؤسسات التعليم العالي ويتأثرون بمناهجها وطريقة التدريس فيها، فإنه يجب التفكير في سبل التجديد في تدريس التخصصات الشرعية في الجامعات حتى يصبح خريجوها أكثر قدرة على خدمة أهداف التربية الإسلامية. وفي ظل غياب نظرية تربوية إسلامية واضحة المعالم والأركان، وجب أن تنكب جهود القائمين على التعليم الجامعي الشرعي على توطين البحث في نظرية المعرفة الشرعية وطبيعتها الابستمولوجية، وسبل الاستفادة من مناهج العلوم الأخرى، والتأصيل الإسلامي للنظام التربوي.
إن إشكالية التعليم الديني بهذه الامتدادات تقتضي عملًا متكاملًا يعود بالنقاش إلى مجاله العلمي والفكري، وينأى به عن الصراع السياسي والضغوطات والإملاءات الدولية. التي لا ينبغي أن تكون حاجزا عن التجديد.
ومن هنا اقترحنا لمقاربة الموضوع عدة مداخل من بينها:
المدخل تاريخي: وقد سعينا من خلاله إلى التنقيب عن تجارب التجديد في التراث التربوي الإسلامي، وتعميق النظر في التطور الذي مرت به مادة التربية الإسلامية، تحديدًا لمنهج السابقين في التجديد، وحدود الإصلاح الذي عرفته مادة التربية الإسلامية منذ إدخالها إلى مناهج التعليم إلى اليوم.
محاولين الإجابة عن الأسئلة التالية:
ما هي المراحل التي مرّ منها منهاج مادة التربية الإسلامية؟
أي إصلاح كنا ننشد؟
ما الذي تحقق بالنسبة للمادة؟
ماهي مداخل الإصلاح الممكنة في وقتنا الراهن؟
في المحاور الآتية:
1. منهج الإصلاح والتجديد أصيل في التراث التربوي الإسلامي
2. نشأة مادة التربية الإسلامية
3. تعزيز مكانة المادة وبروز هويتها
4. ما بعد الميثاق والتجديد النوعي
وقد توصلنا إلى أن الإصلاح كان منهجًا أصيلًا في تراثنا التربوي، نحتاج إلى مزيد من التنقيب عن فاعلية هذه الإصلاحات التي نادى بها العلماء. وعلى العموم يمكن القول بأن التعليم آنذاك قد أنتج النخب التي يحتاج إليها المجتمع، على خلاف الاعتقاد السائد بأن التعليم كان دوره الوحيد هو الحفاظ على البنيات التقليدية في المجتمع، فإن التعليم كان يساير تغيرات العصر، لكن كانت التغيرات محدودة آنذاك، إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر التي شهدت أحواله تبدلات جذرية فكانت الحاجة ماسة إلى تجديد حقيقي لم تتوفر شروط تحقيقه على الرغم من المحاولات التي بُذِلت. وإن في فقه المعاملات وفقه النوازل الذي اشتهرت صناعته بالقطر المغربي من الأمثلة الدالة على كون التعليم مرتبطًا بالحياة أيما ارتباط لأن الخطاب الديني نفسه كان مرتبطا بشؤون الحياة مهمومًا بالإجابة عن أسئلة الناس واستشكالاتهم.
ثم أدرجت التربية الإسلامية في مرحلة أولى في فترة الستينيات من القرن الماضي في شكل مادة موكولة إلى اللغة العربية. افتقر تنزيلها إلى الأدبيات المؤطرة؛ وتشكل مضمونها أساسًا من موضوعات فكرية عامة ذات حمولة فلسفية أو أخلاقية،في شكل دروس متتالية تفتقر إلى الوحدة الموضوعية وتخضع لنفس منهجية التناول.
وفي إطار الإصلاح الشامل لسنة 1985، دخلت مادة التربية الإسلامية مسار البحث عن تحقيق الذات.سواء على مستوى الوثائق التربوية أو الخبرة المتخصصة أو على مستوى تحقيق التوافق بين الإطار المرجعي والاختيارات المنهجية والتوجيهات التربوية وبين أولويات واختيارات المجتمع او على مستوى زيادة حصصها. في هذا الاتجاه، عمد القائمون على تنظيم المادة وإعادة هيكلتها؛ إلى حمل مفهوم “التربية الإسلامية” على المفهوم العام للمعرفة الإسلامية، فوضعوا لها مكونات تختص بالقرآن الكريم والحديث الشريف وتمتد لتشمل مختلف العلوم الشرعية؛ باعتبارها مجالات أساس في المعرفة الشرعية،كما سطّروا لها أهدافا عامة وأخرى خاصة.
وبعد صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين ستدخل المادة منعطفًا جديدًا، ينطلق من كون عمليات الإصلاح المنتظرة في مجال المناهج التربوية تكون أكثر فاعلية وأكثر نجاعة، عندما تعبِّر عن مقومات الذات التاريخية والحضارية، بمختلف ثوابتها ومتغيراتها، وتستوعب في الآن نفسه وبصورة تركيبية مبدعة مكاسب الحضارة المعاصرة.
وقد اتضح بأن جل الإصلاحات التي خضعت لها المادة، كان لها الأثر الواضح في تطوير المادة، وتجويد وثائقها وكفاءة خبراتها، لكنها افتقرت إلى عناصر الفعالية والتجديد المستمر، لكونها اندرجت في إطار إصلاحات فوقية غير قائمة على أبحاث تربوية وميدانية وعلى تشخيص علمي دقيق مع غياب المنظور النسقي التكاملي في الإصلاح، فظل إنتاج الكتب المدرسية بعيد عن منطق الكفايات، وظل انخراط الفاعلين دون المستوى المطلوب (عدم استيعاب ، مقاومة التغيير)، وقد زاد في تكريس عدم الانخراط ضعف المواكبة والتأطير والدعم.
لذا فإن تطوير المادة بما يحافظ على المكتسبات الكبيرة التي تحققت خلال العقود السابقة، وبما يجعلها أكثر فاعلية وفعالية يقتضي التدخل على مستويات عدة:
أولا: ترسيخ وتقويم القيم مسؤولية المدرسة بكل أطرها: إن عملية ترسيخ وتقويم القيم لا ينبغي أن تظل اختصاصًا حصريًا لمادة التربية الإسلامية، بل ينبغي أن يتولى هذا العبء جميع المواد الدراسية والمؤسسة التعليمية بكافة أطرها. في إطار رؤية واضحة ومشروع متكامل. فإذا كانت التربية الأخلاقية في مدارسنا -إن وجدت- تتسم بكونها تهتم بتزويد المتعلمين بقواعد السلوك الصحيح، فإن الأجدى هو الاتجاه نحو تنمية وتقييم التفكير الأخلاقي لدى المتعلمين.
ثانيا: التكوين والتأطير والتقويم: ليتم بمنطق الدعم والتكوين والمساعدة على التقويم الذاتي، لابمنطق الرقابة لأن هذه الرقابة تمارس على المدرس من طرف تلامذته ومن طرف الإدارة التربوية ومن طرف الزملاء و الآباء كذلك. وترسيخ ثقافة الاشتغال في إطار مجموعات مهنية، وترسيخ ثقافة التقاسم والتشارك. والتأسيس لثقافة التقييم المهني عبر الفصل بين ذات الشخص وبين عمله، وعبر بناء تعاقدات حقيقية بين الفاعلين تجعل النقد مبنيا على مبررات علمية دون أن تكون له أبعاد جزائية ولكن يتجه نحو تدعيم الممارسة التأملية
ثالثا: تجديد التخصص الشرعي في الجامعات
رابعا: مأسسة البحث التربوي: نحو بناء نظرية تربوية إسلامية
خامسا: تطوير الكتب المدرسية لتستجيب لمنطق الكفايات وتزاوج بين الورقي والرقمي.
مفتش التعليم الثانوي وباحث في قضايا التربية وفقه النوازل