- التربية الإسلامية والتعليم الديني قبل الاستقلال - -
إن هذه الأمة المباركة، ومذ التقت السماء بالأرض في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم،استهلالا باقرأ؛ وهي مختفية بالعلم وأهله ،ومهتبلة لمسالك تلقيه وجمعه، ومنهومة بالزيادة منه ووعيه؛ استجابة النصوص الشرعية الداعية إلى طلبه والأخذ بالقوة لكتبه.
وإن تتبع تلكم النصوص والشواهد، ليند عن الحصر والتقصي. وكيف يتأتى ذلك ومفتتح الوحي – كما تقدم- الأمر بالقراءة الوارد على جهة الإطلاق، ليعم كل علم نافع؛ دينيا كان أو دنيويا.
وقد أدرك السلف- رضي الله عنهم – عمق هذا الأمر الإلهي والتوجيه الرباني، فضربوا أبلغ المثل في الحرص على تلقيه، والعكوف على تدارسه وحفظه، حتى تقرر عندهم أن مداد العلماء قد يفضل دم الشهداء، وهكذا تلقى الخلف عن السلف؛ طبقة عن طبقة، إلى أن أضاء رُواء الإسلام على هذا القطر المبارك، وسالت أودية هديه على نواحيه، فأسسوا محاضن تلقي علوم التنزيل، وأنشؤوا محاضر الدرس والتحصيل، أعُد منها ولا أعدّدها، جامعة القرويين بفاس وجامعة ابن يوسف بمراكش؛ (1)حيث إن الحديث عنهما وعن وظيفتهما، هو الذي يتناغم والمحور الذي اخترت الكتابة عنه؛ أعني محور” التربية الإسلامية والتعليم الديني قبل الاستقلال”.
وسيكون مأتى الكلام فيه وفق هذه الخطة:
المبحث الأول: التعليم الديني نشأته وخصوصيته.
المطلب الأول: النشأة والخصوصية.
المطلب الثاني:التعليم الديني وحماية الهوية والانتماء.
المبحث الثاني: التعليم الديني ومحاولات الإصلاح والتقويم.
المطلب الأول: التلقي بالتعليم الديني، مناهجه وموارده.
المطلب الثاني: نماذج من دعاة الإصلاح..
المبحث الأول: التعليم الديني بالمغرب: نشأته وخصوصيته.
لعل من الجدير بالذكر، الإلماح إلى أن التعليم الديني برز إلى الوجود مع ظهور الإسلام وشيوعه؛ فهو منه وإليه ومرتبط به ارتباط اللحاء بعوده والفرع بأصله، وعليه فمنذ الفتح الإسلامي بهذا القطر المبارك، وهذا التعليم حاضر جنبا إلى جنب مع العبادة؛ حيث كان المسجد جامعا تعبدا وجامعة تعلما.
وسيبين المطلب الأول من هذا المبحث – اقتضابا لا إسهابا – عن نشأة ذلكم التعليم وخصوصيته.
المطلب الأول: النشأة والخصوصية.
عطفا على ما ذكرت آنفا، فإن المسجد أو الجامع يؤسس أصالة لإقام الصلاة، وتحقيق المقصد التعبدي، الذي لأجله خلق الله الخلق. قال سبحانه ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ” (2)، ويوازيه أيضا المقصد التعلّمي؛ لتكون باحة المسجد حياضا للروح تساميا وتعبدا، ورياضا للعقل والفكر معرفة وتعلّما. وهي رسالة سارية متأبدة منذ أن أسس الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة المنورة.
وحيث قدمت أن المواتي لهذا البحث؛ بيانا ومناسبة هو ذكر المؤسستين الشامختين؛ أعني جامعة القرويين وجامعة ابن يوسف، فإني ذاكر على جهة الاختصار تاريخ نشأتهما ووظيفتهما؛ مصدرا بجامع القرويين لقدمه وسبقه، ثم مثنيا بجامع ابن يوسف لتلوّه ولحقه.
أما جامع القرويين، فكما هو معروف ومشاع، فبانيته السيدة الفاضلة الصالحة، فاطمة الفهرية أم البنين استجابة لنداء الإمام ادريس الثاني لتعمير مدينة فاس؛ إذ حرصت – رحمها الله – أن لا ينفق على هذا الجامع، إلا من موارد نظيفة الأصول، وقد ابتدأت حفر الأساس في أول شهر رمضان من سنة خمس وأربعين ومئتين (30 نوفمبر 859م).(3)
ومنذ هذا التأسيس، الذي كان على تقوى من الله، وهو يؤدي رسالته العلمية التثقيفية؛ بحيث يتعسر تحديد تاريخ بدء الدراسة فيه، وهذا ما قرّره الدكتور عبد الهادي التازي بقوله ” يخيل إلي أنه عندما يسأل المرء عن الوقت الذي بدأت فيه دراسة العلم بالقرويين، فكأنما يسأل عن الوقت الذي بدأت الصلاة فيها؟ لأن تلك من هذه، لا فرق بينهما إطلاقا في الإسلام.”(4)
ثم يضيف- رحمه الله- ” ولهذا نعتقد أن العلماء الذين وضعوا قبلة القرويين، كانوا أول من حلق فيها لبث العلم والمعرفة، وكيف نتصور الحال في جامع لا يبعد عن بيت الإمام يحيى الأول (249هـ)، الذي استبحر عمران فاس على عهده، ورحل إليه الناس من المشرق والقيروان والأندلس؟ لابد أن يكون في أوائل الذين عقدوا مجالس علمية حافلة بالقرويين…” .(5)
ثم يتلو هذه المعلمة جامع ابن يوسف (514هـ) ،يقول الدكتور مولاي هاشم العلوي “..إن الدراسات تشير إلى قضية هامة؛ وهي أن بداية تشييد هذه المعلمة الحضارية- جامع ابن يوسف- قد كانت في آخر عهد يوسف بن تاشفين حوالى (496هـ)… اكتمل ذلك في بداية عصر وعهد أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. والمصادر تركز على أن هذا الاكتمال، كان حوالى (514هـ)، على مساحة ثلاث هكتارات…” .(6)
وهكذا منذ نشأتهما، وهما عينان نضاختان من المعارف والعلوم، ومأرز لتنوير الأذهان والفهم. مع الأخذ بعين الاعتبار أن حركتهما العلمية، تابعة لحال الدول المتعاقبة على الحكم؛ قوة وضعفا، ازدهارا أو اندحارا.
فعلى سبيل التمثيل، إشعاع جامع ابن يوسف وريادته – على العهد المرابطي- ليس هو في عهد الموحدين، يقول العلامة ابن عثمان – كان رئيسا لجامعة ابن يوسف- ناقلا شهادة العلامة الحجوي – رحم الله الجميع-“…وكم يعجبني إنصافه، في محاضرته التي ألقاها في المؤتمر الثامن بمعهد الدروس بفاس، عند استعراضه لأحوال المرابطين: فصارت مراكش عاصمة المغرب والصحراء والأندلس معا في آن واحد، وأنت تعلم أن العاصمة هي سوق الدولة العام، الذي تجبى إليه ثمرات العواصم الإثنتي عشرة الأندلسية… فكانت سلطنة يوسف ابتداء عصر أدبي امتزج فيه الأدب الأندلسي بالأدب المغربي… .(7).
وهذا ما أكده العلامة عبد الله كنون – رحمه الله-، بقوله” وإن ننسى لاننس جامع ابن يوسف، وهو بمراكش مثل القرويين بفاس، فهو من منشآت هذا العصر، ومنذ بناه علي بن يوسف لم يزل المركز الثاني للدراسات العلمية والأدبية بالمغرب”(8)
إلا أن هذا الإشعاع الذي عرفه الجامع في العصر المرابطي، مسّه نوع خفوت في عصر الموحدين؛ نظرا للاعتبارات السياسية. يقول الدكتور محمد حجي – رحمه الله – “… فتناقص فيها العمران منذ هجرها المرينيون إلى الشمال، وتوالى عليها الخراب حتى طمس في جملة ماعفي عليه من معالم المدينة؛ المساجد والمدارس ودكاكين الكتبيين، ثم لم تعد إليها مواكب العلم إلا مع دخول طلائع السعديين في العقد الثالث من القرن الهجري العاشر…” .(9)
فقد كانت المؤسستان حضنا كريما، حفظ لهذا البلد الطيب فرادته وريادته وخصوصيته، حتى كان بمنأى عن لوثة الفرق وقدد الطرق، التي أصابت غيره من الأقطار، وهذا ما سيكشف عنه مطلبنا الثاني.
المطلب الثاني: التعليم الديني وحماية الهوية والانتماء.
لقد جرى في سابق المقدور، أن يتخذ أهل هذا القطر المبارك المذهب المالكي شعارهم ودثارهم؛ بحيث لم يرتضوا سواه ولم يَقبلوا إلا إياه، ولم يُقبلوا إلا على هداه، وجعلوه المعتمد في الأحكام والقضاء، وبأصوله توسلوا عند الاستنباط للنوازل والإفتاء. إضافة إلى منهج الوسطية فيه، الجامع بين صحيح الأثر وصريح النظر، ولهذا الاعتبار الوسطي أيضا، تم اختيار العقد الأشعري، الوسط بين المذاهب التي جنح بعضها إلى التعطيل وأخرى ركنت إلى التشبيه، وهكذا في باقي القضايا الكلامية، التي تباينت فيها الأراء إلى حد التناقض، كالاختلاف في قدم كلام الله، والاختلاف في حرية العبد…
يقول الدكتور مولاي هاشم العلوي”… وقد استمسك الجامعان بكل ما هو سني مالكي أشعري، لا يحيدان عن ذلك قيد أنملة… فجامع القرويين وجامع ابن يوسف مؤسستان حضاريتان مركزيتان في المغرب، يصنعان عقلا واحدا، وتفكيرا دينيا واحدا، وهوية مغربية واحدة… .(10).
فقد اضطلع التعليم الديني، بدور هام في المحافظة على أصالة أمتنا، وفي تحصينها ضد المبادئ الإستعمارية الهدامة، ومساعدتها على ضمان تماسكها وترابطها ووحدتها.(11).
وعلى تطاول القرون وتعاقبها، كان هذا التعليم وعلماؤه مجاهدين باللسان والسنان، يذكون جذوة الدفاع عن الدين، والذود عن حياض الحمى والأرض، يقول الدكتور محمد يعقوبي خبيزة في هذا السياق” وقد ظلت قلاع هذا التعليم ومعاهده ومراكزه، تمثل صمام الأمان الذي يرد عن الأمة غزو الغزاة، وغارة المغيرين العتاة، فإلى جانب حراستها العلمية والدينية، كانت ربطا للجهاد تذود عن الوطن، وترد كل عدوان واعتداء؛ حتى إن المستعمر الغاشم قد وصف إحدى قلاعه بالبيت المظلم” .(12)
ولا غرو بعدئذ أن نجد رموز الحركة الوطنية، من خريجي صرح هذا التعليم وأعلامه، كالعلامة المختار السوسي والشيخ المكي الناصري والأستاذ الزعيم علال الفاسي وغيرهم كثير.
وكانت أحد في هذا الوطن – مهما تكن مشاربه وخلفياته – يستطيع أن ينكر أن القرويين كانت دوما الشعلة الأولى، لجميع الحركات الإصلاحية، ومواقف أبنائها شاهدة على ذلك.. .(13).
وهذه المهمة الجليلة للجامع القروي، لم تكن غريبة عن نظيره الجامع اليوسفي، الذي كان يقوم بدوره الإيجابي في مواجهة المستعمر والإقطاع، ويرفض الانصياع للدخيل وأذنابه، فعلى سبيل المثال كانت الفترة التي عاشها العلامة المختار السوسي في مراكش، فترة تميزت بقيادة سياسية منظمة؛ إذ كانت تضم جماعة من رجال الفكر والعلم والوطنية، ممن تعلم في الجامعة اليوسفية، أمثال العالم عبد القادر المسفيوي، والفقيه أحمد بن فضيل، والعلامة عبد الجليل بلقزيز… .(14).
فقد كانت جامعة ابن يوسف قديما وحديثا، حافلة بأسماء لامعة من أولائك العلماء والأدباء المناضلين في سبيل الله، والدعوة إلى التمسك بالاسلام، واللغة العربية، والحضارة الاسلاميه ومحاربة الظلم، والاستعمار والاستعباد بمختلف أشكاله… .(15)
هذه إذن بعضٌ من النقول، التي تُجلّي وظيفة تلكم القلاع العلمية الأصيلة، في تخريج علماء عاملين، وفقهاء بواقعهم متبصرين، غير منزوين عن هموم أمتهم ولامنطوين على خويصة أنفسهم، كما يتوهم بعضهم إمعانا في الحط من التعليم الديني ورجالاته.
المبحث الثاني: التعليم الديني ومحاولات الإصلاح والتقويم .
لم يكن التعليم المذكور بهذا القطر المبارك، جامدة لا حَراك له، وإنما اعتراه التغيير والإضافة والتعديل؛ جريا على السنة الماضية في الخلق؛ لأن من لا يتجدد يتبدد ومن لا يتقدم يتقادم، ومن لا يتطور يتدهور كما قال الحكيم. وعليه فقد عرف هذا التعليم جملا من التنقيحات والتصويبات، وتهذيبا لبعض مواده ومقرراته، من غير أن يؤثر كل ذلك على جوهر رسالته وصبغة خصوصيته.
المطلب الأول: التلقي بالتعليم الديني: مناهجه وموارده.
لعل الطريقة التعليمية التي كانت متبعة بالقرويين في بدايتها، هي نفس الطريقة التي كانت معروفة في أطراف العالم الإسلامي الأخرى؛ لأن الذين يتوفر عليهم المغرب من العلماء في هذه الفترة، كانوا متأثرين بتلك الجهات ممن وردوا على فاس من القيروان،أو بمن ورد عليها من الأندلس.
هذا وإن كانت طرائق التدريس، قد تختلف تبعا للشيخ الذي يتولى التدريس، فإن شكل المجلس كان يتخذ صورة طبق الأصل للمجالس العلمية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك الصورة التي ردد وصفها الإمام البخاري، وتتميز بالجلوس أمام الشيخ حلقة حلقة ثم من يليهم، ويتوسط طلبة الحلقة الأولى قارئ يتولّى تلاوة الآية المراد تفسيرها، أو سرد الحديث المقصود شرحه، ويعرف باسم السارد وله أهمية كبرى بالنسبة إلى الشيخ، ويذكر ابن صاحب الصلاة (594هـ)، أنه حضر مجلس شيخ طلبة الحضر، وخطيب أمير المومنين الفقيه أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن الاشبيلي:… وكان إذا قرأ القارئ المذكور(يعني أبا عبد الله بن عميرة 578هـ)، فصلا مما ذكرته من العقائد، شرح غامضها وفتح أقفالها للطلبة… وذلل صعابها حتى يروض رايضها…” .(16)
وهذا السارد أو الطالب – كما علق الباحث الأمريكي الانثروبولوجي أيكلمان – يختاره الأستاذ كقارئ للنص الذي يعلق عليه، وبما أن هذه المهمة لم تكن دورية بتناوب الطلبة على القيام بها، فإن عددا قليلا منهم فقط هم الذين اكتسبوا هذه الخبرة، ولم يكن الشيخ يقاطع القارئ إلا ليصحح نطقا خاطئا، أو ليشرح ويعلق.(17)
ثم يسترسل الباحث أيكلمان، متحدثا عن حلقات الدراسة بجامع ابن يوسف قائلا ” كانت جل الحلقات الدراسية، التي تعقد في النهار تتخذ لها جامع ابن يوسف ذاته. وهي حلقات تعلقت أساسا بالنصوص الكلاسيكية المقبولة في الفقه والنحو والبلاغة، وكان يديرها الشيوخ الأكثر رسوخا في العلم… كانت حلقات النهار تنعقد خمسة أيام في الأسبوع، من السبت إلى الأربعاء، وكانت التعاليق على النصوص الاعتيادية، يتوقف خلال العطل الدينية الرئيسة؛ ونعني بالعطلة عاشوراء وعيد المولد النبوي، ورمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى… .(18)
وقد أورده نموذج طالب بجامع ابن يوسف في مرحلة الطلب والتلقي؛ إذ كان الطالب عبد الرحمن يستيقظ قبل الفجر ليتوضأ ويصلي، ثم يقضي الساعات الأولى من الصباح في القراءة والحفظ إلى الثامنة، موعد انعقاد الحلقات الدراسية الأولى باليوسفية. وكان يحضر كل حلقة مابين عشرة وثلاثين من الطلبة المنتظمين في الدراسة؛ حيث يتوقف عدد الحاضرين على مدى شعبية الأستاذ لدى الطلبة. وعادة ماكانت هذه الحلقات الأولى تخصص للفقه… وأخرى من الحلقات تعقد في منتصف الصباح تتعلق أساسا بالنحو.وقد تابع الطالب عبد الرحمن تعليق الشيخ أحمد أكرّام على ألفية ابن مالك،وكانت صلاة الظهر إيذانا ببدء الحلقات الدراسية التالية، حيث تبدأ مادة البلاغة…وبعد العصر يلتحق الطالب بحلقة الشيخ مولاي أحمد العلمي، الذي يشرح تحفة ابن عاصم قبل أن ينتقل إلى مادة التفسير.”(16)
بالمواد المدروسة – كما بين الدكتورعبد الهادي التازي – تتنوع إلى ثلاثة فروع: العلوم الدينية، والعلوم الأدبية، والعلوم البحتة. ففيما يتعلق بالعلوم الدينية، قد أقبل الناس على دراسة الكتاب والسنة بما يتبعهما من علوم القراءات ودرجات الحديث، على حين اتخذت المادة الفقهية اتجاها خاصا…واستمر قادة الفقه المالكي في ازدهار طيلة أيام المرابطين؛ بحيث لم تستطع كتب المذاهب الأخرى أن تجد لها مكانا في حلقات القرويين…وفيما يتعلق بالعلوم الأدبية من نحو ولغة وعروض وبيان وتاريخ…وأما فيما يمس العلوم البحتة، فإن كل الدلائل تعزز الرأي القائل باشتغال القرويين بها، وهناك مبدأ يربط حياة المسلم بالحساب لتسوية حالات إرثه، وضبط مناسك صلاته وأوقات صومه، ولاشك أن كل هذا يقتضي من العلماء أن يوجهوا عنايتهم إلى الأرقام…وخاصة من أهل فاس، من أمثال ابن الياسمين الذي برع في الهندسة والتنجيم والهيئة، ونظم أرجوزة في الجبر، قرئت عليه وسمعت منه بإشبيلية سنة سبع وثمانين وخمسمائة… .(17)
ومن رحاب هذا التعليم، نبغ في هذه العلوم البحتة عباقرة خالدون؛ كالعاام الفذ ابن البناء المراكشي الذي كان من أعظم الرياضيين في وقته، وكذا العالم الفلكي حسن بن علي المراكشي (660هـ)، الذي ألف كتبا في الفلك ككتاب ” المبادئ والغايات في علم الميقات”، طبع نصفه إلى الفرنسية مترجما في مجلدين. وقد ذكر الأستاذ بيكوردان عضو مجمع التنجيم بباريس أن هذا العلم العبقري، هو أول من استعمل التوقيت المحلي (السوائع الوقتية).(18)
وقد استعرض العلامة المنوني – رحمه الله – أسماء اثني عشر رياضيا، ممن درسوا فن الهندسة في العصر السعدي…(19)
وهكذا ظلت هذه المؤسسات منفتحة على جميع الحقول المعرفية، أنّى كان مصدرها ومنبعها؛ حيث كان شعارهم” خذ الثمار واترك العود النار”، فهي لم تكن – كما يدعي أعداء هذا التعليم – ضاربة بسور بينها وبين العلوم الكونية البحتة.
بل إنه حتى في زمن الإصلاح الذي عرفه هذا التعليم، على عهد الملك المجاهد محمد الخامس طيب الله ثراه، نجد أن طلبته طوّعوا اللغة الفرنسية، حيث نظموها في أراجيز تسهيلا للحفظ والضبط، من ذلك قولهم:
صباح الخير عندهم بونجور* وإن أردت دوام الحال فقل توجور.
السؤال عن الحال عندهم كومان سافا* والجواب عند الغاية سافا.(20)
ولئن كان لهذا التعليم من المزايا ما يند عن الحصر، فإنه قد أتى عليه حين من الدهر أغرق في المختصرات، وحك العبارات، والتكرار والاجترار، حتى صارت علوم الآلة والوسائل هي الغايات والمقاصد، فضاعت بذلك الثمرة المرجوة. ولأجل هذه الأمور ظهرت على مر العصور مجموعة من محاولات الإصلاح والتقويم، كما سيتبين في مطلبنا التالي.
المطلب الثاني: نماذج من دعاة الإصلاح.
سأسوق فيه – تمثيلها لا حصرا- ثلاثة أسماء ممن نادوا بإصلاح التعليم الديني وتقويمه، وهم السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757م.1790م) والسلطان المولى سليمان (1792م.1822م) والعلامة الحجوي الثعالبي (1956م).
وقد كانت رؤية السلطانين تجاه الإصلاح متقاربة على وجه العموم، إذ جاءت دعوتهما مركزة على الاعتماد على أمات المصادر الفقهية في التعليم، وأن لا يشتغل الطلبة بالمختصرات، فكان أن أصدر السلطان سيدي محمد بن عبد الله، منشورا يتضمن الكتب التي ينبغي تدريسها، على اختلاف فنونها ومشاربها. ففي الحديث نص على المساند، كمسند الإمام أحمد، والصحاح كصحيح البخاري ومسلم، وفي الفقه تدرس مدونة سحنون والبنان والتحصيل، والمقدمات لابن رشد الجد، وجواهر ابن شاس، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني…وفي السيرة الاكتفاء الكلاعي وسيرة ابن سيد الناس، وفي النحو الألفية والتسهيل، وفي البيان الإيضاح والمطول، وفي الأدب واللغة دواوين ستة شعراء، ومقامات الحريري والقاموس ولسان العرب، والكلام عقيدة ابن أبي زيد القيرواني… .(21)
ولم يكتف هذا السلطان العالم – رحمه الله- بالنقد النظري، بل أبدى أراء كانت لها أهميتها في ذلك الإصلاح؛ إذ وضع مؤلفا بعنوان ” مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان”.( 22)ويقول العلامة الحجوي – رحمه الله – ناقدا طريقة الإغراق في الاختصار “…فصار لفظ المتن مغلقا لا يفهم إلا بواسطة الشراح، أو الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار، وهو جمع الأسفار في سفر واحد، وتقريب المسافة وتخفيف المشاق…إذ كثرت المشاق في فتح الأغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن…وقد ختم المختصر بعض أشياخنا تدريسا في نحو أربعين سنة، ومع هذا فإنما يحرر الفروع، ويسردها مسلمة…فطلاب الفقه محتاجون إلى كتاب بين الصراحة، لا يحتاج إلى شرح جامع المسائل الكثيرة الوقوع من كل باب دون النادرة أو المستحيلة… .(23)
وقد تكلم في كتابه الفذ الفريد ” الفكر السامي” عن الجهد الذي بذله للنهوض بجامع القرويين وإصلاحه،لأنه كما يقال ابن الدار وأهل الدار أعلم بمن فيها وما فيها، يقول ” فكان أول ما أهمني قلبا وقالبا، لأنها أمي وظئري، ومن ثديها العذب ارتضعت، وبها أميطت عني التمائم…ودعا إلى أن تندرج تحت نظام يرتب سير الدروس بها . وذلك لأنها تلقى غير منتظمة، وليس لها قانون يرجع إليه، كما أنه ليس على المدرس ودرسه،والكتاب الذي يقرؤه مراقبة لامن طرف رجال القرويين، ولا من طرف الحكومة… .(24)
بعد هذه التطوافة اليسيرة حول هذا الموضوع ذي الأهمية البالغة، يمكن الخلوص إلى:
– أن هذا التعليم قديم قدم الإسلام بهذا البلد المبارك، لأنه من صميم روحه ومن ركين رسالته
– أنه كان درعا واقيا، وجبلا راسيا ضد كل التيارات السياسية والفكرية، التي تتعارض والاختيارات العقدية والفقهية لهذا البلد المبارك. وهو أيضا عاصم في وقتنا لما بات يعرف بالفتاوى العابرة، التي لا تراعي أعراف البلدان وخصوصياتهم.
– أنه كان مشتلا لاستنبات العلماء الرواحل، والفقهاء الأكابر الذين انتفعت بهم الأمة في مجال التعليم والقضاء والتوجيه والإفتاء.
…………………………
الهوامش: