قدوة خافقة

0

الأستاذة /حسناء ابو الطيب
ابتداء هذا مقال مليء بالعاطفة (ذلك أن قلبي دواتي)، وهي إشارة واضحة تماما لمن كانت له انتظارات أخرى أو أفق توقع آخر.
ولأن الكمال كل الكمال في كتاب الله الذي لاريب فيه، فإن كلماتي العفوية هذه لو تركت لغد لقلت فيها ما قاله القاضي عبد الرحيم البيساني في رسالته إلى الأصفهاني: “لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل… وهذا دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”، ولكنه واجب الوقت والبيان الذي لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، وهي الدعوة إلى النفير خفافا وثقالا كل حسب موقعه واستطاعته نصرة لقضايا الحق العادلة، والتي من بينها ما يخوضه أساتذة المغرب الكرام من نضال دفاعا عن قيمتهم الاعتبارية والرمزية وانتصارا لكرامتهم التي يضمنها من ضمن ما يضمنها مستوى مادي لائق ، وإلا فأي كرامة تبقى لمن كاد أن يكون رسولا وهو واقف أمام دكان الحي أو صيدلية الحي يتوسل صاحبها أن يمهله السداد إلى حين، فضلا عن مواقف أخرى يهدر فيها ماء وجهه حيث عتبة الألم واستقذار الذات…
هذا والكل يعلم أنواع الظلم والإجحاف الموجودة بشكل معلن أو ضمني مبطن بقوة القانون الذي يدعي أصحابه أنه للإصلاح ولسواد عيون المدرسة العمومية، وذلك بتمكين أجهزة الإدارة والتفتيش من صلاحيات موسعة لمراقبة وتأديب السادة الأساتذة.
في خضم هذا التدافع هنا كانت تأتينا الأخبار من بلاد الشام حيث قضية أخرى وماذا أجل من الدماء قضية؟ فكانت تزدحم الأفكار كما العبرات تثرى: هذا حال تعليمنا ومدارسنا، فكيف يا تراه الموسم الدراسي هناك؟ هل انتهى قبل أن يبدأ؟ هل فعلا استشهد جل الطلاب في ظل المجازر المليونية؟ هل هدم العدو كل المدارس سعيا كما إبليس لصد الناس عن العلم ونوره فإذا أطفأ مصابيحه خبطهم في الظُلم كيف يشاء؟
إن لغزة وزنا ثقيلا لم يستطع التكالب الدولي بكل آلياته الإعلامية وحربه النفسية (ولا استطاع أذنابه من الذين ينظمون الغزل للخيانات) أن يخترع بعد وسيلة أو مكانا يقدم وصفة لتخفيف وزن الأسماء ذات السِّماء، إن غزة مدرسة للتاريخ والحضارة تعلمنا أن القبول بنصف النصر هزيمة كاملة.
واهم من ظن أن غزة العزة برجالها الذين اجتباهم الله للرباط والجهاد ستُباد، إن غزة في حد ذاتها مدرسة حياة، تعلمنا أن القوة في الإيمان واليقين بأن الله هو السند وهو الترياق لكل روح تراق، وأن المآذن والمساجد لو هدمت فالأرض هناك كلها مسجد، واعلم أن كل حجر منها منبر ولو تشظّى، منبر يصدع بالخطاب العُمَري: ” لا تؤمنوهم وقد خونهم الله ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله “). أخرجه البيهقي (10 / 127)
واعلم أن موقفك وموقعك من هذا الصراع العقدي مدون في صحائف أعمالك وستحاسب، ولن يشفع لمرجف متخاذل تبييت نية التوبة ليكون بعدها من القوم الصالحين، وسيكتب التاريخ أنك ولغت في دم أخيك ولم تبسط ذراعيك لتحميه، تناسيت أنهم لا يضرهم من خالفهم فهم موعودون بالنصر ولن يبقى لك إلا الخزي والعار.
وتعلمنا مدرسة غزة أن الغرب المتحضر كاذب منافق مريض وعنصري ومن لم يعِ هذا الأمر بعد كل ما يرى ويسمع فهو سطحي أجوف أو منافق حربائي عديم الأصل ويستحق رحلته الطويلة في درب الإذلال المزدوج، وصدق الشاعر حين قال:
وديني دين عز لست أدري أذلة قومنا من أين جاؤوا
وتعلمنا مدرسة غزة أن المساس بالدماء والتربة المقدسة لن يمنح إنسانيتك فرصة الاعتدال في مشاعر الحب والحزن والبغض بل ستكون حساسا جدا ومنفعلا جدا فياضا وممتلئا، لأجل ذلك يقتل بعضَنا البث والعجز ولسان حاله يردد: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) مريم/ 23، وكلنا نعلم أننا لا نبكيهم إنما نبكي ذواتنا وحالنا وقلة حيلتنا لأن من عاش منهم عاش عزيزا ومن مات منهم مات شهيدا وهذا لعمري شرف الاجتباء.
وتعلمنا غزة أن غزة أخرى تعرج نحو السماء من أرض الإسراء، إنها تتشكل في الجنان بلا حزن بلا فراق بلا غدر بلا ألم بلا دم بلا خذلان أو حصار من أخ أو من عدو.
وتعلمنا غزة أن حال الحرب هكذا خاصة عندما يشرئب النفاق وتكشف ردة الرفاق، فحالها من حال أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين نزل به بعد موت رسول الله عليه السلام: “ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، لكن الرجل الملثم يطمئننا بنبرة صدّيقية حازمة: إما الحرب المجلية أو السلم المخزية”.
وتعلمنا غزة أن كل ما فيها يشكل تهديدا للعدو: الشجر والحجر والرجال والنساء والأطفال بل حتى الأجنة في الأرحام تقصف !
تخيل فقط أن تحمل صغيرك المجدل في الأودية تحت قصف السماء تزيل عن وجهه الدم والتراب أو تجمعه أشلاء، تخيل فقط واعلم انه ومهما بلغ تماهيك فأنت لا تعرف حجم الألم لأنك لم تجربه حقيقة، واللهَ ندعو أن يربط على قلوبهم كما ربط على قلب أم موسى.
فما أوهن عدوا يهاب جنينا في بطن حرة ونفسي فداها وما أبلغ الصورة الشعرية لتميم حين قال:
فقل للموت يا هذا استعد
فإنهم والله لن يأتـوك أطفالا ولكن
كالشيوخ تجاربا ومرارة
يا قائد النفر الغزاة إلى الجديلة
أو إلى العين الكحيلة من سنين
أدري بأنك لا تخاف الطفل حيا
إنما أدعوك صدقا أن تخاف من الصغار الميتين…
إنه قضاء الله في غزة أن تحمي البرايا أجمعين بجهاد أمة ملعونة، قضاء الله أن تكون للعالمين قدوة خافقة، قضاء الله أن يكون الحي شهيدا قبل الممات، قضاء الله أن تتوق القلوب السليمة وتهفوا لأرضهم المقدسة المباركة أرض المحشر والمنشر، حيث عمود الكتاب هناك، والإيمان زمن الفتن هناك، حيث صخرة موسى وقبره، حيث مولد عيسى ومهده، حيث معراج المصطفى ودربه، حيث روحانية الزمان والمكان فيا طوبى لأهل الشام يا طوبى لأهل الشام.

الأستاذة: حسناء أبو الطيب

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.