د.نورالدين عادل: إطار تربوي وخبير في تواصل الأديان والثقافات
اختار المسلمون التأريخ لأيامهم بحدث الهجرة لتبقى دلالاتها راسخة مهما تعاقب الزمان وتغير المكان. وإذا كان حدث الهجرة تحل ذكراه على رأس السنة الهجرية فإن بعض المسلمين يفوتهم استثمار الحدث لتجديد معاني الهجرة في القلوب، والتزود بدروسها الخالدة في مسيرة بناء الأنفس وإعمار الأرض على هدي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين هاجروا إلى الله ورسوله، فأيدهم الله-في الدنيا- بنصر من عنده، واختارهم-في الآخرة- لقربه، أولئك هم المومنون حقا.
لهذا ارتأيت أن أبرز كيف عالج الوحي الإلهي موضوع الهجرة، وأي تصور يضبط نظرة المسلمين لهذه الحركات التي عرفها تاريخ البشرية ومايزال؟ وكيف تسهم الهجرة في تحقيق خلاص الفرد وكذا خلاص الأمة.
مفهوم الهجرة ونداء: يابني اركب معنا
الهجرة حركة تفصل بين زمنين؛ زمن الاستضعاف وزمن التمكين، إنها لحظة انتقال ينشد صاحبها تغيير الحال، وتحسين المآل.
لذلك صاحبت الإنسان منذ وجوده، وتعددت أشكالها وصورها بتعدد الوقائع المحيطة وتباين الأهداف المقصودة؛ فمن هجرة لطلب الرزق، إلى أخرى لطلب العِتق، ومن هجرة هربا من الممات إلى هجرة لتذوق طعم الحياة.
غير أن الذي يشد أنظار الدارسين لموضوع الهجرة، هو تحولها من مشروع فردي إلى همّ جماعي، ومن فرصة لخلاص الفرد إلى أسلوب لخلاص الأمة.
ومن صور معالجة القرآن الكريم لموضوع الهجرة، عرضه لمشاهد أول هجرة جماعية عرفتها البشرية؛ إنها رحلة أول رسل الله، نوح، على نبينا وعليه السلام، والقلة المؤمنة نحو الحياة الجديدة، بعد معاناة السنين من مكر الماكرين،“قال نوح: رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا كُبّارا، وقالوا: لاتذرن آلهتكم، ولاتذرن ودا ولاسواعا ولايغوث ويعوق ونسرا”1.
رحلة تجاوب معها ساكن الأرض والسماء، وكانت لحظة انتصار الحق، رغم قلة أنصاره، على الباطل وإن كثر أتباعه“فدعا ربه أنِّي مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجّرنا الأرض عيونا، فالتقى الماء على أمر قد قُدر، وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا، جزاء لمن كان كُفر”2.
ونادى نوح ابنه مرغبا إياه في سلوك سبيل المهاجرين الذين وعدهم الله حياة هنيئة بعيدا عن ظلم الظالمين ومكر الماكرين، “ونادى نوح ابنه وكان في معزل: يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين“3 لكن تردد الغلام، وركونه إلى جبال الوهم أنساه أن قوة الطوفان لاينجو منها إلا من تحرسه العناية الإلهية”وحال بينهما الموج فكان من المغرقين“4
وتوالت حركة رسل الله وأنبيائه نصرة للحق، ودلالة للخلق على سر الوجود ومعناه، وهكذا خرج إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر ورضيعها إسماعيل عليهم السلام، بطلب من زوجته الأولى سارة خشية أن يطغى بها شعور الغِيرة إلى مالايليق ببيت النبوة، هاجرت الأسرة المسلمة(الهجرة بدافع اجتماعي حفظا للعلاقات الاجتماعية) من أرض فلسطين إلى أرض الحجاز، مهد الرسالة الخاتمة، ومحج الأمم إلى يوم القيامة.
كما أَقْدم يوسف عليه السلام أباه يعقوب -عليه السلام- وإخوته وذويه من بلاد الكنعانيين بالشام بعد أن قلّ الزرع، وجفّ الضرع، إلى مصر حيث يطيب المقام (الهجرة بدافع اقتصادي).
وتمضي الأيام، ويخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل من الذل والقهر، والاستبداد والجبر، إلى أرض الله المقدسة، فلسطين العِزّة والكرامة(الهجرة بدافع سياسي).
وتوج خاتم الأنبياء والمرسلين، هذه الحركات المباركة، بهجرته صلى الله عليه وسلم بصحبه بعد أن أنفق طغاة قريش الأموال لصد الناس عن سماع نداء الحرية، وصوت الخلاص من كل أشكال العبودية، فخرج صاحب الرسالة بمن معه من جند الحق بعد أن أفقرتهم قريش وسلبتهم متاعهم وأموالهم، بل أخرجوا فقراء من متاع الدنيا، أغنياء بما معهم من سعادة قلبية، ترعاهم العناية الربانية. خرجوا من مكة أم القرى، والبلد الحرام، وأحب أرض الله لقلب نبيه، في اتجاه دار الإسلام، حاضرة دولة القرآن؛ المدينة المنورة، قال تعالى يذكِّر التابعين بجهد السابقين:”للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون، والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم”5
وماتزال معاني الهجرة تجدد في قلوب المسلمين وهم يتلون أخبارها في كتاب الله تعالى، مستحضرين صنيع من سبقنا بإيمان، بل إن المسلم مدعو لإحياء ذكريات الهجرة في صيامه لعاشوراء شكرا لله على نجاة نبي الله موسى عليه السلام أثناء خروجه ببني إسرائيل من استبداد فرعون وملئه، وفي مناسك الحج اقتداء واهتداء بنبي الله إبراهيم وزوجه هاجر-المهاجرة مع رضيعها-
فهل الهجرة حدث مضى وانقضى، أم أنها مشروع متجدد في الزمان والمكان؟
لاهجرة بعد الفتح.
لاعذر لمن خشي على نفسه الفتنة في دينه أن يبذُل الوسع للخروج بحثا عن أرض يحيا فيها بقيم السماء ولو في خاصة نفسه، ذلك ماتعلمنا إياه سيرة من سبقونا بإيمان، وهو ما يؤكده حوار الملائكة مع من ظلم نفسه حين رضي بذُل الاستضعاف وماحَدَّث نفسه بالهجرة، ولاأعَدّ لها العُدة”إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنّا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا “6
فحالة الاستضعاف والقهر لاتبرر مهادنة المنكر مادام بالإمكان الهجرة لأرض تسَع عقائد الناس مهما اختلفت، فإن حال حائل دون الخروج بعد بذل غاية الوُسع، فلا أقل من إعلان التحفز الدائم للهجرة، وعدم الرضى بمساكنة الظالمين. قال تعالى على لسان من حبسهم العذر القاهر عن الخروج فبقوا تحت أذى الطغيان”ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا“7وقدأجاب الله دعاءهم8، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنصرتهم بالنفس والنفيس، قال تعالى:”ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا“9
إن الهجرة المكانية قد انقطعت بقوله صلى الله عليه وسلم:”لاهجرة بعد الفتحّ[قلت:فتح مكة] ولكن جهاد ونية“10لاهجرة بعدأن عزّ المسلمون، وأمنوا على أموالهم وأنفسهم، وأمكن الناس التعرف على مبادئ الإسلام فسارعوا للدخول في دين الله أفواجا. قال تعالى يخلد هذا الحدث العظيم”إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا“11
انقطعت الهجرة المكانية، لكن الهجرة المعنوية النفسية باقية “لكن جهاد ونية” إنها الهجرة من أرض القعود عن نصرة الحق- جبنا أو ترددا- إلى أرض التدافع دحرا للباطل والفساد بكل الوسائل الممكنة، باقية ما بقيت أرض وسماء”ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض“12
إن الهجرة في بعدها الفردي حركة دؤوبة في اتجاه الحق، ورقي للنفس من واقع المهادنة مع الرذيلة ودواعيها، ومساكنة أهل السوء إلى مقام الأنس بالله تعالى والاستقامة على صراطه مع المنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولاالضالين. بهذا تنال النفس شرف الوسام الرباني”ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية“13كيف لاتستحق جوار ربها وقد هجرت في الدنيا كل مغرياتها “المهاجر من هجر مانهى الله عنه“14
إن هذا التحول الوجداني والنفسي هو مقدمة التغيير الجماعي الذي أثبت قانونه قوله تعالى:”إن الله لايغير مابقوم حتى يغييروا مابأنفسهم“15لن يغير الله ما بنا جماعة وأمة إن لم يغير كل منا مابنفسهم من معاني الميل إلى الدعة والركون إلى الشهوة العابرة-التي تذهب لذتها وتبقى تبعاتها- ونرقى إلى معاني السمو بقيم السماء إلى علياء السعادة الكاملة الدائمة، سعادة الدنيا وطمأنينتها وسعادة الآخرة ونعيمها.
إن هذه الحقيقة الثابتة هي مااتفقت عليه كل الرسائل السماوية، وهي الكلمة السواء(التي يستوي في العمل بمقتضاها كل مؤمن) التي توحدت العقول في قبولها، وتلهفت القلوب لصداها، وهي الكلمة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه مضمون رسائله إلى الناس أجمعين، الحكام منهم والمحكومين، قال تعالى:”قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون“16
الهجرة بين الخلاص الفردي والخلاص الجماعي
إن الخروج عن دواعي النفس الأمارة بالسوء، والسعي لطلب العلا مع الطالبين، هو مقدمة للهجرة الجماعية إذ على قدر مايغير المرء من نفسه يتهيأ ليكون فاعلا في تغيير مابقومه وأمته. وهذا ماعاشته الفئة المؤمنة في زمن النبوة، قال تعالى يكشف للمومنين معيار الانتماء لصف الأخيار”يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المومنات مهاجرات، فامتحنوهن،الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مومنات فلاترجعوهن إلى الكفار، لاهن حل لهم، ولاهم يحلون لهن”17
فنجاح المومن ذكرا أوأنثى في تحقيق هجرته المعنوية، وتغيير ولائه نحو القيم السامية شرط للانضمام إلى أمة الحق التي يقذف الله بها الباطل فإذا هو زاهق.
وإذا كانت الهجرة الفردية شرط لتغيير ما بالجماعة، فإن هذه الأخيرة متممة للأولى، ذلك أن الخلاص الفردي، وتغيير ما بالنفس لا يتحقق على أتم وجوهه إلا في حضن بيئة مؤمنة، ثم إن بذل النفس والنفيس لتغيير ما بالناس، وتبصيرهم بكلمة الله في علو قيمها وغايتها، جهاد أصغر، لااعتبار له بالنسبة لمصير المؤمن الفرد إن لم يسبقه ويلحقه تغيير مابالنفس وهو المجاهدة الكبرى.
وبناء عليه يتأكد أن تغيير مابالنفس وتزكيتها حتى تطمئن لأمر الله تعالى، جهاد وجُهد أكبر شريطة أن يصاحبه حمل هم الناس الأقرب فالأقرب، والسعي في إصلاح شأنهم، وإلا خرجنا من فضيلة الانتساب إلى خير أمة، شعار أفرادها:”من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم“18إلا نفعل نسقط في عزلة وخلوة الذاكرين، وتلك فضيلة تعلوها فضيلة الجمع بين الهمين(هم إصلاح الشأن الخاص والاهتمام بإصلاح الشأن العام)
مشروع الهجرة إذن مندمج بعضه في بعض، صلاح الفرد قوة للجماعة والمجتمع، وصلاح المجتمع يسهل على الفرد إصلاح شأنه.
وبهذا يتبين أن الهجرة حركة ونفَس ممتد لامنتهى له مادام في العمر بقية، بل حتى لحظة الموت يمكن أن يصنع بها المؤمن حياة تزيد من قوة أمته وتعلي من درجته، ذلك هو حال الشهيد، سواء الذي قضى نحبه في ساح الوغى أو الذي ينتظر نحبه في محراب البناء العلمي أوالاقتصادي أو السياسي أو الفني أو في كل ثغر يمكن أن يؤتى المسلمون من قِبله، ما دام يبذل روحه وجهده لتحيى الأمة.
تعددت أسباب الهجرة(اجتماعية،اقتصادية،سياسية) ومستوياتها(فردية/جماعية) لكن روحها واحدة: الهجرة إلى الله بشروطها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مع السعي لتوفير شروطها للغير حتى ينالوا حقهم الأسمى في معرفة معنى وجودهم، ويستعدوا بما يسعدهم عند خالقهم.
إنها هجرة إلى الله ورسوله كما نطق الصادق الأمين”فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ماهاجر إليه“19
وإذا كان الخروج هجرة إلى الله ورسوله حق ثابت، يثيب الله عليه غاية الثواب، فإن إخراج الناس من ديارهم ظلم تأباه شريعة الإسلام، ويعلن شناعته قوله تعالى”أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا،وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله“20
إنّ أمْن الناس على أنفسهم، وتحقيق أسباب استقرارهم المادي في احترام تام للرأي واجب أولي الأمر، ذلك أن إطعام الناس من جوع وتأمينهم من خوف شرط لعبادة الله تعالى والإقبال عليه. قال سبحانه يذكر فضله على أهل مكة:”فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف“21
وهكذا يتبين أن التغيير ونشدان الأفضل هو روح الهجرة ومعناها الأول، وما أحوجنا اليوم وغدا لتعميق معاني الهجرة في وعينا وتمثلها في سلوكنا حتى نبذل الجهد المطلوب للخروج من مظاهر الضِّيق إلى مانطمح إليه من السعة والتوفيق.
ـــــــــــــــــــ
1–سورة نوح (على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام) الآيات:21 إلى 23.
2-سورة القمر، الآيات:10 إلى 14.
3-سورة هود (على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام) الآية:42.
4-نفس السورة، الآية:43.
5-سورة الحشر، الآيتان:8و9.
6-سورة النساء، الآية:97.
7-نفس السورة، الآية:75.
8-مجلة الإسلام اليوم(مجلة دورية تصدرها المنظمة الإسلامية لتربية والثقافة والعلوم-إيسيسكو) العدد 24 السنة 1428هـ/2007م.مقالة الدكتور محمد سيد طنطاوي بعنوان”حوار هادئ مع قداسة بابا الفاتيكان.ص.67.
9–سورة النساء، الآية:75.
10-حديث أخرجه الإمام البخاري رحمة الله عليه في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، كتاب الجهادوالسير، باب لاهجرة بعد الفتح.
11-سورة النصر، الآيات:1 إلى 3.
12-. سورة البقرة، الآية:151.
13-سورة الفجر، الآيات:27 إلى30.
14–حديث أخرجه الإمام البخاري رحمة الله عليه في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كتاب تفسير القرآن.
15-سورة الرعد، الآية:11.
16-سورة آل عمران، الآية:64.
17-سورة الممتحنة، الآية:10.
18- أخرجه الحاكم رحمة الله عليه في المستدرك عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا.
19-حديث أخرجه الإمام البخاري رحمة الله عليه في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتاب الإيمان ، باب بدء الوحي.
20-سورة الحج، ألآيتان:29و30.
21-سورة قريش، الآيتان:2و3.