رواية ” عشاق الصحراء ” محاولة للتعريف والتقريب:

0

   للأديبة زبيدة هرماس

    قاطعه مولود قائلا: الأبطال يصنعون الثورات، والانخراط في الثورات يقتضي أن تتجرد مما يخدر عقلك ….. وأنت غارق في المتاهات …. الأبطال يصنعون الثورات يا محمد.

الأبطال؟ ماذا تعرف عن الشيخ ماء العينين؟ والشيخ أحمد الهيبة؟ والشيخ مربيه ربه؟ وغيرهم كثير من المتجدرين في تاريخ هذه الصحراء … والذين أحاول أن أكون على أثرهم …. هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون الذين حرروا الأرض من المستعمر وأزلامه. “ص 188 ـ 189 عشاق الصحراء”

     إنهم ثلاثة إخوة تفرقت بهم السبل بعد أن عاشوا في كنف المستعمر الإسباني الغاشم وربتهم روزا، وأبوهم سالم ساقته الأقدار ليعمل “خريتا” مع الجيش الإسباني وتحت إمرة الكونويل مانويل الذي شك فيه فعصفت به رمال الصحراء وجعلته عبرة لمن يعتبر، هذا الكولونيل المتغطرس الذي صدق بوصلته البالية، ونصائح سبستيان البليد، وخالف سالم والد مصطفى ومحمد ومولود، والذي عاش بين مطرقة الاستجابة للطواغيت الذين حجزوا زوجته زينب وأبناءه الثلاثة ، وفرضوا عليه العمل معهم يدلهم على الطريق ويفك لهم ألغاز التلال الرملية التي ترفض الغريب وتلفظه، وبين عشيرته الصحراوية التي اعتبرته خائنا، نجا سالم يمساعدة صديقه الإسباني الحميم خوسي الذي لقبه بحسان، وعاش في قبيلة أخرى، لكن التطرف أودى بحياة خوسي الذي أعلن إسلامه واعتنق الدين الحنيف، فبكاه سالم، وسعى في الأرض يبحث عن زوجه زينب التي استلت من بين الجند وتاهت في الصحراء، ولقيت حتفها وقد عانت الأمرين فراق الزوج والأولاد وغطرسة روزا التي بدورها شاءت الأقدار الإلهية أن تقتل على يد زوجها الطاغية انتقاما وعقابا لها على خيانتها.

      إنها رواية نسجت  لتحكي لنا مقاومة وممانعة جيل استعصى على المستعمر الإسباني والفرنسي، وما لم تكن ملما بالتاريخ لن تفك خيوط الرواية التي تبحر بك في عالم جميل، تعانق فيه أرواح المجاهدين وترثي الذين استشهدوا والذين عذبوا، ومن هم في سجون تندوف محاصرون من طرف زعماء الجمهورية المزعومة .

    تطل علينا رواية ” عشاق الصحراء ” للأديبة زبيدة هرماس بعد مجموعتين قصصيتين الأولى ” كنز في تارودانت ” والثانية ” لم أرحل إلى الضفة الأخرى ” وروايتين ” فراشات مكة …. دعوها تحلق ” و” حب على رصيف القرويين ” تأخذنا كعادتها في رحلة شيقة مزجت فيها بين المعرفة الدقيقة بتاريخ المغرب، والحبكة الدرامية، وتشدك إليها شدا، وأنت تتابع تفاصيل الأحداث كأنك تراها رأي العين، وإن لم تكن ملما بالحقبة التاريخية تضيع منك فصول الرواية، العاصفة  المغامرة، اللقاء، المسيرة، المصير، السفر، العودة،.

    رواية من قلب الصحراء” قال مصطفى وهو يرجف في الصحراء الجامع والجامعة …. لقد وجدته نائما وهو يعانق مخطوطا قديما بين يديه اللتين اصطبغتا بمداده كأنه حناء عروس … قال محمد ضاحكا: إنه مخطوط نفيس لشيخي وأستاذي رحمه الله، أحب أن أطالعه وأنطقه وسط صمت الصحراء …. يوثق فيه الكثير من الحقائق الدامغة، ويثبت فيه أن هذه الصحراء تحمل في طياتها منابع التاريخ لهذا البلد، فقد كان الموحدون ينحدرون منها من قبائل صنهاجة تحديدا، وكذلك السعديون من أصول صحراوية، وهم الذين حكموا البلاد في القرن السادس عشر ووسعوا حكمهم إلى حدود نهر السينغال، وكذلك العلويون الذين يحكمون الآن، وينحدرون من الصحراء، وتحديدا من تافيلالت …. أنت يامولود لست ضد ما جاء به الدين الحنيف من الحث على الوحدة والقوة والتلاحم بل ضد التاريخ أيضا” ص 200 .  الصحراء تبقى شامخة كالنخلة تغذى من نسيمها محمد ولد سالم رائد الصحراويين الذي قضى عمرا في مدرسة يوسف بسجون البوليزاريو بعد أن غدر به أخوه مولود ولما رجع هذا الأخير إلى أرض الوطن وعاش الأحداث عن قرب تبددت فكرة الجمهورية الوهمية، وأنقذ أخاه من جحيم التعذيب والقهر ليعانقا الوطن الغفور، تفاصيل الأحداث تكشف حقيقة المستعمر وطمعه، ومحاولاته لتفكيك الأمة المغربية وزرع الفرقة والحدود الجائرة بين بني عقيدة التوحيد للتمكن من خيراته ، ولم تسلم المخطوطات بدورها من الحرق والنفائس من السرقة ، ” استمر المحجوب في إقناع السالك بأفكاره التكفيرية، حتى استطاع بعد أسبوع أن يجعله متحمسا لقتل خوسي وراحة القبيلة، لم يكن المحجوب شيخا ولا مريدا بقدر ما كان قوي الشخصية … ولكن ما كان يخفيه هو أن لديه أجندة تملى عليه من خارج القبيلة، فقد كان على اتصال بمجموعة من المجندين لاختراق المقاومة وصناعة القلاقل بين القبائل، ومدمنا على قراءة الجرائد والنشرات الثورية التي تصنع أفكاره المتشددة، فكان لديه ما يقول لإذكاء النعرات القبلية المناسبة للظهير البربري الذي دعمه الفرنسيون للتفرقة بين العرب والأمازيغ في شتى بقاع الوطن ، وكان لديه ما يقول لإذكاء الصراعات داخل الدين الواحد والتشديد على أن هذا سني وهذا مبتدع وجب قتله ” ص 128. فكان محمد ولد سالم الفقيه الصامد يحكي تفاصيل التعذيب والمعاناة في سجون تندوف ويربط الماضي بالحاضر، حيث عانى أبوه وأجداده الذين قاوموا الاستعمار ووقفوا في وجهه، محمد يسرد تاريخا حافلا بالبطولات ” راح محمد يسرد عليه تاريخ المنطقة منذ قرون خلت، راجيا أن يقنعه  ” أخوه مولود “بخيبة اختياره، وكيف كانت سيادة المغرب منذ أمد بعيد على كل تلك الصحاري الشاسعة، ويحدثه عن لقاء الشيخ ماء العينين في سنة 1906 ومعه وفود الصحراء وموريتانيا بالسلطان المغربي مولاي عبد العزيز بن الحسن الأول من أجل دعمهم في مقاومة المستعمر الأوربي، ويحدثه أيضا عن الفترة التي ارسل فيها المغرب مولاي إدريس ابن عم السلطان مع وفود القبائل الصحراوية والموريتانية من أجل قتال الفرنسيين بموريتانيا … ” ص 190.

       تاريخ الرواية يمتد منذ دخول الاستعمار الإسباني إلى الصحراء إلى اليوم، حقبة تاريخية قاوم فيه المغرب كل أشكال التغريب والمسخ. لقد قاوم المجاهدون المستعمر الإسباني  منذ دخوله ” اصمت ياخوسي، ما فعلوه في فيلا سيسينروس منذ ان وطئت أقدام الاسبان العظماء هذه الأرض إل اليوم …. أقصد … إلى العملية الأخيرة التي قضى فيها الكثير من جنودنا البواسل، ينذر بمقاومة عنيفة تلاحقنا….. فيلا سيسينروس كانت عاصمة انطلاقنا إلى باقي الأقاليم، وهي ما زالت قائمة إلى اليوم، لقد تم تعميرها وجلاء هؤلاء المتمردين الذين خربوا عددا من مخازن الشركات بهجوماتهم المتناسلة، هذه الهجومات …. سنستمر على خطى الذين سبقونا في قطع وريدها ”  ص 11 . لقد تنكر المجاهدون في زي النساء ونظموا عملياتهم وتمكنوا من هزم الغاشم في أكثر من موقعة، وغاضهم أن يبني ماء العين ويشيد في الصحراء وهم يخربون ” يجب أن تعلموا أيها الجنود الأوفياء أن الشيخ ماء العينين قام ببناء مدينة السمارة بعد سنوات من ترحاله بين الساقية الحمراء وأدرار، هذا البناء الذي جمع قوة الكثير من الصحراويين ونظمها، وصاروا يقصدونه في زاويته البئيسة، وينطلقون بتعليماته التي يستمدها من سلطانه الذي يجدد له البيعة، وشكل رباطا سياسيا لم يكن في صالحنا، لأنه يقويهم ويكثل وحدتهم، وكلما توحدوا .. كلما ضعفنا ” ص 43 . العدو ينعم بخيرات البحر والصيادون لا يجدون من يشتري منهم ليسدوا به بطونا جائعة تنتظرهم كل ما أمسوا.

 الصحراوييون يحبون دينهم ويتشبثون به ” الصحراويون يحبون دينهم يا خوسي، حتى الخيام لا ينصبونها إلا باتجاه القبلة ” ص 68 . والصحراء تبقى شامخة ” الصحراء كالبحر يا سيد سيباستيان، تحتاج لتركب أمواجه سنوات طويلة لكي تصطاد أسماكه ” ص 47 . وأهلها صامدون ” ابتسم محمد وقال: هذا السجن لا يرهبني … سأظل صامدا حتى آخر نفس … كل هؤلاء المظلومين في تندوف سيعودون إلى ذويهم يوما، لأن الليل المظلم يلحقه الفجر الوضاح، وأحب أن أكون من الذين يحملون الشمع وهو يحرق أصابعهم ليتنسير الآخرون … حب العطاء يغريني أكثر من حب الأخذ ” ص 251، لقد أرادتهم روزا مسيحيين ولاؤهم لإسبانيا ومسحت ذاكرتهم لكن االله أراد لهم الهداية والرجوع إلى الوطن، محمد تربى في كنف الشيوخ وتتلمذ عليهم وسار فقيها، وأطر معتقلي تندوف، وأخوه مولود الرفيق رجع من الشيوعية وحلم الجمهورية الوهمية إلى رفيق لأخيه في رحلة مباركة للديار المقدسة ”  تذكر مولود كلمة الرفيق التي طالما استعملها، فصار يتعجب من الأقدار والأحوال” ص278 .

    الاستعمار يريد اليوم التفريق بين الإخوة المغاربة والجزائريين، والله يوحد القلوب ” اعتز كثيرا بأخوتك وعطفك، هذه اللعبة التي تحاول التفرقة بين شعبينا …. لعبة خاسرة …. يلعبها المختفون بطريقة قذرة .. ” ص 261، الاستعمار نصب بن عرفة ليخلف محمد بن يوسف والله أوقد نار الجهاد ضد الفرنسيين ، وأنبث أمثال علال بن عبد الله .

     الصحراء أرض الصمود ” الصحراء أرض صابرة يا بني ، لقد مكث فيها الاستعمار 91 سنة متصلة، من 1844 إلى 1975 م … وقد توزع صبرها على كثير من أبنائها، وانت واحد منهم ” ص 268 .

الثالث من الإخوة مصطفى جرفته رياح التجارة وغاب عن إخوته محمد ومولود ” كعادته … حب التجارة في قلبه يثنيه عن الالتفات إلى مراحل حياته التي مضت بسرعة ، لقد صار من كبار التجار في المنطقة ” ص 272 .

    لقد لقنت الصحراء للغاشمين درسا لن ينسوه، وما تزال صامدة في وجه كل من سولت له نفسه خيانتها، أو التنكيل بأهلها.

” عشاق الصحراء ” حلم راود محمد ولد سالم ” فقد ظل يحتفظ بتلك الأوراق البالية التي كان يصادفها في معتقل تندوف كلما خرج وحملتها الرياح إلى تلك الباحة البئيسة ن دون عليها أبواب روايته التي عنونها ب ” عشاق الصحراء ” يقصد كل عاشق تاقت نفسه إلى الحرية والكرامة ، بعيدا من أغلال الاستعمار الذي نبت تحت عباءته، وارضعه الذل منذ طفولته ” ص 268-269 .

   وأنت تتمتع بفصول الرواية وتتبع الأحداث تحس أن كاتبتها عاشت المرحلة بكل تفاصيلها من خلال السرد القريب، أو المتابعة فيما مر معها من أحداث، روح غريبة تسري في متن الرواية تخاطبك في الأعماق وتشدك إليه شدا، ومتنياتي أن يتحقق حلم طالما حلمت به وهو أن ييسر للرواية من يجعلها حركية يتابعها المغاربة عن طريق فيلم تاريخي، ويتحقق بالتالي حلم مولود ولد سالم ” سأنجز فيلما عن قضيتنا الوطنية، كنت دائما في إسبانيا أستنكر السينما التافهة التي تتناول بعض المواضيع الفارغة البعيدة عن هموم الناس، وأنوه بتلك التي تحمل رسالة تشد الأجيال إلى تراثهم وقضاياهم… شيء مؤسف أن لا ترتقي بعض الأعمال بالمشاهد إلى مستوى الذوق واللياقة، بل أحيانا تدمره وتحتقره وتفرغ صورا داخل مخيلته تجعله يمزق تذكرة الدخول إلى القاعة قبل الخروج منها .. لا …. ما أصبوا إليه أن تكون أفلامي رسالة إلى هؤلاء الأجيال ليعرفوا الكثير عن ماضينا المجيد …. عن قضايانا العادلة، وعن أبطالنا عبر التاريخ، عن الحياة والحب الصادق والنصر والقيم ” ص 281 – 282 .

لن تغني هذه الورقة التعريفية عن قراءة رواية تناولت قضية الصحراء المغربية بكثير من المتعة … متخللة فصول الزمان والمكان.

      يشار إلى ان الرواية عرضت برواق منظمة تجديد الوعي النسائي بالمعرض الدولي للنشر والكتاب المقام بالدار البيضاء وكذا المكتبات الوطنية وقد صدرت عن مطبعة طوب بريس وتقع في 284 صفحة.

  وقد أشادت فوزية حجبي خلال قراءة للرواية بالرواق بالعمل الإبداعي وقالت أنه يتوفر على حبكة سواء على مستوى الشكل والمضمون، وفرادة القبض علىموضوع غير مسبوق في التناول الأدبي بهذا الشكل الروائي، وبهذه الاحترافية ذاتالقدرة التصويرية الدقيق داخل المغرب». في الوقت الذي أكدت على أن مبدعة «عشاقالصحراء» ولجت الرواية باعتبارها جنسا أدبيا مشاكسا يحتاج إلى نفس سردي متمكن علىمستوى الآليات الشكلية وتقنياتها، وعلى مستوى المضمون بما يستدعيه من غنى علىالمستوى المعرفي، وعلى المستوى الإبداعي بما يعنيه من امتطاء صهوة الخيال، في حبكةتتطلب كثير من مهارات النسج والحياطة والتطريز لصياغة اللوحة الروائية الأكثر جدباورسوخا في كيان القارئ ووجدانه
وإذا تعلق الأمر بالرواية التاريخية – تؤكدحجبي- «يحتاج الروائي لكي يصوغ إنتاجا متميزا، وهو يتوسل بالأزمنة والشخوصوالأحداث، يحتاج إلى زاد معرفي ودراية ثاقبة بأرشيف التاريخ معجون بزاد لغوي مرن..يستكشف أغوار الأمس لينفث الحياة الأفضل في حاضر الحياة ، وقد شكلت رواية «عشاق الصحراء» جرأةومغامرة إبداعية للروائية زبيدة هرماس في الاختيار والطرح والمقاربة، وقد اتخذتالكاتبة من التاريخ مادتها الأساسية لصوغ خيوط عملها الفني، فهي لم تنقل التاريخبقدر ما ساوقته مع شخوصها مستحضرة مناخات تلك المرحلة المشكلة لبنية روايتها، التييحمل عنوانها «عشاق الصحراء» دلالة خاصة في توجيه النص الروائي، لأنه يمثل مجموعهذا النص ويلخص مجمل موضوعاته، فالكاتبة لم تعين بطلا لروايتها، إذ إن كل شخوصالرواية أبطالا رجالا ونساء و أطفالا، في إشارة إلى الدور البطولي الذي لعبه معظمالمغاربة في مرحلة الاستعمار.
                                ذ.عبد الرحيم مفكي

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.