عبد السلام الأحمر: من المعلوم في علم التربية، ضرورة توفير بيئة تربوية لإجراء مختلف عملياتها في ظروف ملائمة،
تيسر على المتربي مهمة الاستيعاب والاكتساب وترفع مستوى تفاعله فكرياً ووجدانياً وسلوكياً مع معطيات التربية الممنوحة. ويعتبر دور البيئة التربوية حاسما في إنجاح التربية الممارسة في أحضانها أكثر من كل الوسائل المعتمدة ومن كل التنظيرات الموجهة والتمرينات المدرسية والخطب الوعظية التي تظل كلاما عديم الفائدة والتأثير حتى تتدخل البيئة المحيطة بضغطها النافذ في أعماق النفس.
فإذا نظرنا من خلال هذه البديهية التربوية إلى صيام رمضان، باعتباره من أهم الوسائل التي شرعها رب الناس،والعالم بأحوالهم وحاجاتهم، وما يصلح نفوسهم ويزكيها ويطهرها، وجدنا أن شهر رمضان بيئة تربوية فريدة، هيأتها العناية الإلهية لتكون محققة للهدف من الصيام، وهو ترسيخ صفة التقوى في نفوس الصائمين.
فزمن الصيام المكتوب لا يعدو شهراً واحداً في السنة، مما يغري النفس بملازمة التعبئة الكافية للقيام بمقتضياته العملية، والصبر عليها واستمرار الهمة لذلك.
وما يحمله الصيام من تغيير وانقلاب جذري، في عادات الطعام والشراب والنوم وما يتعلق بها، يجعل النفس تشتاق إلى العيش في أجواء نظام جديد للحياة، يكسر نمطها الذي قد يغدو مملاً ومكرراً، ويتجاوب مع رغبتها الفطرية في استقبال التغيير والانفتاح عليه.
كما تتوافر الحوافز الإيمانية للإقبال على ممارسة الصيام والقيام بعزم وحماس ونشاط، فخطاب الشرع بهذا التكليف ورد في القرآن والسنة مشبعاً بعبارات الترغيب والتيسير والقصد إلى الرحمة والإحسان.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر)[1]. وتختم آيات فرض الصيام بقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).
وتعضد السنة القرآن في حثه على الصيام وتحبيبه للنفوس، بأحاديث في فضل الصيام منها قوله r: فيما رواه أمامة قال: “أتيت رسول الله r فقلت: مرني بعمل يدخلني الجنة، قال عليك بالصوم فإنه لا عدل له ثم أتيته الثانية فقال عليك بالصيام”[2]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبيr. قال: “لا يصوم عبد يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفاً”[3].
فالإقبال على الله والانخراط في عبادته والابتعاد عن معاصيه وقبائح الأفعال، يتأتيان في رمضان أكثر من غيره من الشهور، وتظلل أيامه ولياليه نفحات علوية مباركة تتنسم عبيرها الأرواح وتخفق بها القلوب، فإذا هي طيعة منشرحة،وإلى ربها منيبة راغبة.
ذلك لأن تغييراً عظيماً يحصل مع بزوغ هلال هذا الشهر في عالم الغيب، كما أخبرنا عنه رسول اللهr فإذا أبواب الجنة مفتحة إشعاراً بتعلق نفوس الصائمين بها، وإذا أبواب الجحيم مغلقة إيذاناً بنفور القلوب منها، وإذا الشياطين مسلسلة حتى تتحرر القلوب من وساوسها ونفخها ونفثها وتزينها للمنكر والفواحش.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال: ـــ لما حضر رمضان ـــ “قد جاءكم شهر مبارك افترض عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم” [4].وفي رواية أخرى زيادة وينادي فيه ملك يا باغي الخير أقبل وياباغي الشر أقصر حتى ينقضي رمضان.
فما أنسب هذا الشهر لتدريب القلوب على التقوى، باتقاء الميل مع الأهواء واتباع الشهوات، بعد أن صفدت الشياطين، وضعفت نتيجة ذلك في النفوس نوازع الانحراف والزيغ، واتجهت القلوب إلى ربها خانعة خاشعة.
كما أن أحاديث أخرى قطعت على النفس طريق الفطر في رمضان، لغير عذر مشروع، حتى تتوطد عزيمتها على صيامه دون تراخ أو تقاعس. قالr: “من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله له، لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه”[5].
وإلى جانب هذه العوامل، تنضاف أجواء رمضان الخاصة في واقع المجتمع المسلم، فالكل ممسك، وأبواب المقاهي موصدة، وحلق الوعظ والإرشاد تغشاها جموع المصلين في المساجد، ويزداد تردد الناس على بيوت الله لصلاة التراويح وما تيسر لهم من الصلوات الخمس.
وللإمساك أثر بليغ في ذات الصائم، لما يحدث من ارتخاء في الأعضاء، فيخف ضغط الجسم على الروح، فتنكسر شهواته وتنقاد اندفاعاته، فتكون الغلبة لأشواق الروح وإملاءات الوجدان، فيتهيأ الكيان برمته للاغتراف من فيوضات هذا الشهر الربانية.
[1] – البقرة (183-184 )
[2] – رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه .
[3] – رواه الشيخان
[4] – رواه أحمد والنسائي والبيهقي.
[5] – رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي.