التقوى بين الصيام والصلاة

0

 عبد السلام الأحمر: نص القرآن الكريم على التقوى باعتبارها المقصد الأبرز من فرض صيام رمضان،

فقال الله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] مما يعطي الانطباع بأن الصيام يتجه إلى تحقيق التقوى أكثر من الصلاة وباقي العبادات، لكنه نص أيضا بعبارات مشابهة على أن وظيفة الصلاة هي التقوى لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45] ونجد كذلك مناسك الحج تعين على تنمية صفة التقوى في النفس حيث يطلب من الحاج الامتناع عن الرفث والفسوق والجدال، {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. وبخصوص الزكاة فقد حصر الشرع فائدتها التربوية في التطهير والتزكية {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة: 103]، وهما عمليتان تستهدفان تنقية النفس مما خالطها من المعاصي والآثام؛ بمعنى أن الزكاة تحقق نوعا من التقوى البعدية لتدارك ما عجزت عنه التقوى القبلية.

ويبدو عطاء الصيام في تحقيق التقوى وافرا أكثرمنه في باقي العبادات الأخرى، حيث نص على غاية تحصيل التقوى من أدائه، كما أنها بارزة وملموسة من خلال ممارسة الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى مغرب الشمس، وهو في واقع الأمر تدريب على فعل الامتناع والاجتناب عن مباحات تحرم مؤقتا خلال فترة الإمساك ولمدة شهر كامل.

والسؤال الذي يطرح نفسه على الباحث في موضوع التقوى هو أيهما أكثر إسهاما في التربية على التقوى الصوم أم الصلاة؟

وما يجعل هذا السؤال أكثر إلحاحا هومكانة كل من التقوى والصلاة من الدين، فالتقوى من حيث هي فعل الأوامر واجتناب النواهي تمثل الدين برمته وتجسد منتهى هدايته، وهي صفة نفسية مكتسبة تحصل بها النفس كفاية الامتناع عن تعدي حدود الله واقتراف المحظورات بشكل حازم، وتمتلك بها القدرة على أداء المفروضات والواجبات دون تراخ أو تهاون.

  وذلك وفقا لما بينه الحديث النبوي الذي رواهالدارقطني.(إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) ” وفي حديث آخر:(دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (البخاري). ويفهم من هذين الحديثين مدى حرص الشرع على اجتناب المحظورات أكثر من حرصه على فعل المأمورات، لأن الانتهاء يحتاج إلى إرادة الترك فحسب أما الائتمار فيتعدى إرادة الفعل إلى مكابدة مشاقه.

أما الصلاة فهي عماد الدين والركن الثاني في الترتيب بعد الشهادتين، جاء في حديث رسول للهrلمعاذ بن جبلt: “ألا أخبرك برأس الأمر وعموده،وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله: قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد..” (صحيح الجامع الصغير).

 فالصلاة هي العمل التعبدي الذي يتكرر خمس مرات في اليوم، ويطلب من المكلف تأديتها حتى في الظروف الصعبة مثل السفر الذي تقصر فيه الصلاة ولا تسقط، ومثل حالة المرض الشديد حيث يؤمر بأدائها بالكيفية الممكنة قياما وقعودا واضطجاعا، وأكثر من ذلك ألزم الشرع المجاهدين بإقامة الصلاة في ميدان المعركة؛ فرقة تصلي وأخرى تراقب العدو، وعند القتال والفر والكر يصلي الفارس وهوفوق مطيته يلاحق ويطارد، ولايسمح بإخراجها عن وقتها الاضطراري إلا لمن فقد عقله تماما، لكنه إذا لم تطل غيبوبته يطالب بالقضاء بعد استرجاع وعيه. كما أنها لا تسقط نهائيا إلا بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء مدة نزول الدم.

فهذا الحضور اليومي للصلاة في سلوك المومن يؤكد لنا ضرورة اضطلاعها بالتربية على التقوى التي تشتد الحاجة إليها في ممارسة الدين والوقوف عند حدوده، يشهد لذلك تنصيص القرآن على دورها في نهي النفس عن الفحشاء والمنكر، والذي يمكن تفسيره بالاستناد إلى وظيفتها التطهيرية الأساسية؛ والتي يمهد لها بالطهارة المائية فطهارة الثوب والمكان، وهذه الوظيفة منصوص عليها في القرآن {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108].

 فعملية التطهير التي تحققها الصلاة تنطلق مع ممارسة الوضوء الذي يعد طهارة مائية حسية ومعنوية كما يستفاد من قول رسول اللهr“إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ. فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ. حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ” (الموطأ). فبعد الوقوع في بعض الأفعال الأثيمة المنجسة للنفس تأتي عليها الصلاة مع الوضوء فيزيلاها فإذا المصلي نقيا منها كأنه اتقاها بادئ الأمر. لكن ليس كل الذنوب تطهر منها الصلاة كما هو مبين في كلام رسول اللهr

“الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر والجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام” (صحيح الجامع الصغير) فإذا كانت الصلاة مطهرة من الصغائر فهل تعد النفس لاتقاء الكبائر أو تحمل على التوبة منها بعد اقترافها؟

من المعلوم أن شروط الصلاة وكيفيات أدائها والتطهرالممهد لها، يرتقي بالنفس في درجات العبودية الكاملة لله، والانقياد التام لأوامره والتوقي من منهياته والتسامي عن الدنايا والقبائح كلها، وإذا رمنا التماس تفسيرات مقاربة لهذه المقاصد في هيئات الصلاة وجدناها زاخرة بأسمى المعاني وأبلغ الدلالات، فالانخراط اليومي في أفعال الصلاة عبرمزاولة الطهارة وتجدد الوقوف بين يدي الله حينا بعد حين والإقبال عليه بقلب خاشع ضارع يجعل النفس أقرب للقيام بالطاعات الواجبة والمستحبة وأبعد عن المعاصي كبائرها والصغائر، كما أن ترداد الله أكبر مرات عديدة ومعاودة الركوع والسجود وما يخالج النفس خلالهما من مشاعر تعظيم الله ومعاني الخضوع لمراده والانضباط لشرعه، كل هذا من شأنه أن يروض النفس على اتقاء المحظورات والامتثال للمأمورات.

فكلما تكرر إنجاز الذات لفعل محدد على فترات متقاربة تحقق تشبعها به، وسهل عليها المواظبة عليه، وغدت تأثيراته وإيحاءاته ملازمة للنفس، حاملة لها على القيام بكل الأفعال المشابهة بيسر وتلقائية، والنفور من الأفعال المخالفة واستثقالها واستقباحها.

وقد قيلأن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وهو ما عبرعنه ابن شهاب بقوله ” ما حل من الكذب شيء قط لا جادا ولا هازلا، وإن العبد ليصدق حتى يمتلئ قلبه برا، وما يبقى منه موضع إبرة من فجور، وإن العبد ليكذب حتى يمتلئ قلبه فجورا، فما يبقى في قلبه موضع إبرة من بر، الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وآية ذلك أنه يقال: صدَق وبر وكذَب وفجَر ” (الجامع لابن وهب).

ولقد أثبت الله تعالى للصلاة القدرة على الأمر بالخير والمعروف كما أثبت لها النهي عن الفحشاء والمنكر كما هو واضح في هذه الآيات: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ  وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ  بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ  قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 84 – 87]

فلما رأوا كثرة إقبال شعيب على الصلاة والتزامه بأدائها ربطوا بينها وبين ما يدعوهم إليه من ترك عبادة الآباء والتصرف في المال بخلاف الشرع. وقال أبو بكر الجزائري “أي كثرة الصلاة التي تصليها هي التي أثرت على عقلك فأصبحت تأمرنا بما لا ينبغي من ترك عبادة آلهتنا والتصرف في أموالنا (أيسر التفاسير).

فواضح إذن أن التركيز الذي حظيت به الصلاة في الممارسة اليومية والدائمة خمس مرات متوالية يجعلها أكثر قدرة على بناء صفة التقوى في القلب، كما أن صيام رمضان يدعم ويرسخ هذه الصفة بحظ هو الأوفى على ما يبدو من بين باقي العبادات الأخرى،والتي تتضافر مؤثراتها في النفس وتتكامل لضمان تنمية مستمرة للتقوى التي تعين على ترسيخ صفات أخلاقية سامية مثل الحياء والورع والصبر وكظم الغيظ وغيرها من الصفات والسجايا الطيبة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.