الفرح بالتقوى

0

                                          عبد السلام الأحمر

  vطبيعة الفرح

حالة الفرح حالة نفسية تحصل كلما اتقى الإنسان خطرا يتهدد وجوده وأمنه وراحته ويسبب له ألما وضيقا وتعاسة، وكلما ظفر بلذة من اللذات الحسية والمعنوية وتحقق له ما يجلبها من أسباب أو توقع حصولها في المستقبل، بحيث يمكن حصر دوافع السلوك الإنساني في درء الآلام وجلب الملذات، واللذين كلما تحققا عم النفس شعور بالرضى والفرح والسعادة.

والنفس بطبعها جبلت على حب ما يفرح وبغض ما يحزن، وعندما تجتمع أسباب الفرح الكثيرة فإن سببا واحدا من أسباب الحزن كاف ليغلب كل أسباب الفرح والسرور وإن تعددت وتنوعت ما لم يكن أحدها أو بعضها مبددا بطبيعته لسبب الحزن وملغيا له.

وعندما تنعدم أسباب الألم والضيق والقلق تنشرح النفس وتسعد مادام لا يوجد ما يحزنها ويشقيها، وإن انعدم ما يجلب لها اللذة والبهجة من الأسباب المعلومة، فتكتفي بالسرور الذي يحصل بانعدام أي سبب من منغصات الحياة ومكدرات صفوها.

وهكذا نسجل مدى فاعلية الاحتراز من مثيرات الألم وأسبقيته على تحصيل مثيرات الفرح والسرور، بحيث إن توقي الشرور والأضرار يحظى بالأولولية على جلب الخيرات والمنافع، فتؤثر النفس اختفاء دواعي القلق والضجر كلها على تحصيل دواعي الفرح كلها، مع تأكيد أن من أهم دواعي الفرح انتفاء أسباب الحزن جميعها، وما توفر بعد ذلك من عوامل الفرح يكون تأثيره فاعلا وكافيا لتعزيز الشعور بالسعادة  والطمأنينة.

فهذه العلاقة التفاعلية العريضة بين أسباب الفرح وأسباب الحزن تبرز أهمية التقوى في السلوك الإنساني، ذلك لأن الرغبة في تحصيل الملذات كلها تكتسي صبغة مزاولة التقوى، عندما يراعى ما يدفع بها من ألم الحرمان منها، والذي قد يشق على النفس معاناته والصبر عليه.

فعلى هذا النحو يكون استجلاب لذة الطعام والشراب، اتقاء للجوع وضعف الطاقة الجسمية، ودفع ألم حرمان النفس من بعض الملذات المتاحة والمباحة، ويكون استجلاب لذة الجنس الحلال اتقاء لتحمل العنت الشديد وركوب خطر اقتراف الفواحش.

من كل ما تقدم نتبين العلاقة الوطيدة بين ممارسة التقوى التركية على وجه الخصوص وتحقيق السعادة وإدامة البهجة والسرور في النفس.

vأهمية التقوى التركية

إن ما يجعل التقوى التركية مقدمة على التقوى الفعلية في صلاح الفرد والمجتمع، هو كون المفاسد وإن قلت فإنها تقوض أساس الصلاح وإن كثرت عوامله، ذلك بأن الشر والضرر والمفسدة  يملكون قدرة هائلة على النمو والانتشار والتأثير السريع والمدمر للنفس والواقع، وذلك بشكل لا يقارن به انتشار الخير والنفع والصلاح في واقع الناس والذي يكون بطيئا ومتعثرا ومحدود الآثار.

ففعل السيئة بطبعه يكون بسيطا، ولا يتطلب في العادة ما يتطلبه فعل الحسنة من الجهد والوقت والترتيب والإعداد، لكن نتائج السيئة تكون واسعة ومهلكة وعميقة، في الوقت الذي تكون فيه نتائج الحسنة محدودة النفع والتأثير، بحيث إن مفسدين معدودين يمكن أن يغلبوا مصلحين كثيرين ويبطلوا مفعول إصلاحهم، كما قال الشاعر:  أرى بانيا لا يقاوم هادما    فكيف ببان واحد خلفه ألف هادم

والواقع المشهود يؤكد أن هادما واحدا يغلب ألف بان ويفني فعلهم في لحظات معدودة. فأي إنسان يستطيع إزهاق آلاف الأرواح في وقت وجيز وكل الإنسانية مجتمعة تعجز عن إرجاع الحياة لنفس واحدة فاقدة لها.

ومجرم واحد قادر على نشر الرعب والهلع في مجتمع كامل، ولا يتحقق الأمن والاستقرار داخله حتى يكون جميع أفراده مساهمين في ذلك عن طريق امتناعهم عن أي عمل إجرامي.

من هنا نتبين كيف أن التقوى التركية مطلوبة بصورة تامة ومن جميع أفراد المجتمع، حتى يمكنه أن ينعم بالأمان والسلام وينتفع بما يتيسرله القيام به من أعمال التقوى الفعلية، والتي بقدر ما ينخرط الناس فيها ينعمون بوافر فضلها وفيض خيرها، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]

vالتقوى وفرح إبعاد خطر المعاناة.

جرت عادة الناس عندما يريد بعضهم أن يطمئن على حال قريبه أو صديقه أن يسأله كيف حالك هل أنت بخير؟ فيجيبه أنا بخير أو لا بأس عندي والحمد لله وهو يقصد انتفاء الأسباب التي تجعله متألما أو حزينا بالدرجة الأولى قبل أن يعني بذلك بأن لديه ما يسره ويفرحه من المكاسب المادية.

فقد يستغني الإنسان عن طلب أسباب المتاع والراحة واللذة الزائدة عن حدودها الدنيا ويزهد فيها أياما أو أبدا، ولكنه لا يطيق مقاساة الأضرار وتحمل الآلام ولو للحظة واحدة، لذلك تقتضي تربيته تحذيره مما يؤلم ويشقي أكثر من تبشيره بما يمتع ويسعد حتى تبلغ تعبئة نفسه لممارسة التقوى أقصى مداها، ونجد تطبيق هذه القاعدة النفسية التربوية في القرآن الكريم، حيث يبشر الله المؤمنين بالجنة المتضمن لنجاتهم من النار، في حين يغلب على دعاء المؤمنين الله طلب النجاة من النار وعذابها قبل طلب الفوز بالجنة ونعيمها؛ {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 15 – 16] وأول ما يتطلع إليه من عرف الله وآمن به هو النجاة من عذابه {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 191]، كما أن الله تعالى لا يتوعد الظالمين والكافرين بالحرمان من الجنة ونعيمها الخالد، وإنما يتوعدهم بنار جهنم وعذابها المقيم، {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 13، 14].

ومعلوم أن القانون الوضعي نفسه يقوم أساسا على تقدير عقوبات لكل جناية وجريمة، ولا يرتب مكافئات لمن احترم القانون والتزم حدوده، غير نجاته من الدخول تحت طائلة العقوبات المقننة.

vالفرح بصمود النفس أمام ضغط الشهوة.

شرع الله للمسلمين الاحتفال بانتهاء شهر الصيام والإفطار يوم فاتح شوال، وجعل هذا اليوم عيدا يفرحون فيه بما يوفقون له من تحصيل التقوى التي جعلها الله الغاية الكبرى للصيام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فلزم أن يُربط الفرح في هذا اليوم بتحقق التقوى من خلال الصيام أكثر من إباحة الإفطار فيه وانتهاء الصيام، كما يمكن أن يكون هو حال كل من لم يستوعب مقاصد هذا الركن.

فأسمى ما يثير في النفس الإحساس بالتوفيق والفلاح، هو كونها قاومت سلطان الشهوة وأخضعتها للسيطرة القلبية، واكتسبت مناعة ضد الغواية والانحراف، وازداد طمعها في النجاة من النار التي تسلم إليها الشهوات كما أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم “حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ[1]”

ومما يدخل السرور في نفس الصائم يوم العيد، أن يكون قد أفلح في لجم أحاسيسه ونزواته ولسانه بالصيام الشامل؛ فلم يرفث ولم يغتب ولم يصخب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله، كل عمل ابنآدمله إلا الصيامفإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه”[2]  وحصول فرحة الدنيا يوم العيد ينعش الأمل في النفس بفرحة الآخرة ولقاء الله تعالى وتحصيل ثواب الصيام العظيم.

كما يستبشر الصائم بانتفاعه  بالتقوى التي مارسها بالصيام طيلة شهر كامل في إنقاذ نفسه من النار، ففي الحديث:”إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغى الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة”[3].

 ويحق للصائم أن يفرح بصومه يوم العيد، عندما يأنس من نفسه بأنها اكتسبت صفة التقوى، التي ستجعلها قادرة على ضبط شهواتها ونزواتها، حتى لا تنجرف بها إلى المحظورات والمحرمات، وحتى يمكنها توجيهها لفعل الطاعات والنهوض بالواجبات، والمسارعة في الخيرات، على طريق الظفر بنعيم الجنة والنجاة من نار الجحيم.



[1] –  رواه مسلم

[2] –  رواه البخاري

[3] – رواه الترمذي والحاكم وصححه الألبانيفي صحيح الترغيب والترهيب.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.