عبد السلام الأحمر: يعرف الفقه الصوم بكونه الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس،
فمن وقف عند حد الامتناع عن الأكل والشراب والجماع طيلة أيام رمضان يكون صومه مجزيا بهذا القدر من الترك الجسدي، فيسقط عنه القضاء وإن لم يعاضض بترك نفسي يتخطى به التوقف عن المطعوم والمنكوح إلى امتناع النفس عن تشهي الممنوعات، والتنزه عن التفكير في إتيانها والاقتراب منها، واستشعار الرضى والابتهاج بممارسة الإمساك عنها إرضاء لله وابتغاء لفضله ومغفرته.
وبمعنى أدق حصول التقوى في القلب والتي استهدفها الشرع الحكيم من الإمساك الجسدي في رمضان، وتوسل إليها عن طريقه كما هو صريح في قوله تعالى: ” {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]
“لعلكم تتقون، لأن الصيام وصلة إلى التقى، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل: لعلّكم تتّقون محظورات الصّوم”[1]
فصوم الجسد موصل لصوم النفس الذي هو فعل نفسي محض إذا أرادت النفس ذلك واجتهدت في طلبه، وأحرزت التقوى التي هي غاية فرض الصيام كما هي غاية لكل أمر ونهي شرعيين، قال تعالى عن شعيرة البُدنَ {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
فالآثار التربوية للصيام مرتبطة بمدى تجاوب النفس والجسد وتساندهما، لتحقيق التقوى التركية امتناعا وتنزها عن الفعل المحظور، فاستقلال الجسد وحده بالتوقف عن الطعام والجماع دون مشاركة النفس أو ربما مخالفتها لمقتضى الاجتناب يحرم الصائم من الاستفادة الكاملة من صيامه، ويقف بها عند حد الجوع والعطش، كما يقرر ذلك الحديث النبوي: “رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ”[2] فمن يكابد الإمساك الجسدي تنفيذا لأمر الله تعالى يكون أجره بهذا الاعتبار في مستوى أدنى، ومن تجاوزه لتحقيق إمساك النفس عن الميل إلى المحظور والتطلع لمواقعته، فإنه ينال من الأجر على قدر انتفاع نفسه وإحرازها صفة التقوى.
ذلك لأن التقوى إذا حصلت في النفس فإنها لا تمنعها فقط من الأكل والجنس في نهار رمضان ولكن أكثر من ذلك تجنبها كل القبائح والآثام من غيبة ونميمة وسب وشتم وخيانة الأمانة ومخالفة الأوامر واقتحام المنهيات.ففي الحديث: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”[3]أي أن ارتباط ترك الطعام والشراب والجماع بعد أن صارت محرمات مؤقتة بسبب الصيام بترك المحرمات الدائمة المعلومة هو مقصود الشرع – ومنهجه التربوي المتبع في جميع العبادات – والذي يلزم أن تتجه إرادة الصائم لتحقيقه وهو التقوى النفسية الباطنة المرام ترسيخها عن طريق الصيام.
فالصوم الجسدي وسيلة لغاية سامية هي الصوم النفسي الذي هو عين التقوى، يتضح ذلك من عدة جهات أولها أن الإمساك الجسدي الرمضاني محصور في المباحات داخل وقت معلوم وارتباطا بفعلي الأكل والجماع في حين أن الصوم النفسي يستمر ويمتد في المحرمات مؤقتة ودائمة وعبر الزمان دون أي تقييد ويشمل جميع الأفعال التي حظرها الشرع وسواء منها التي تباشر بالجسد أساسا أو التي تكون فعلا قلبيا صرفا؛ فعندما يفطر الصائم سهوا ينخرم صوم الجسد ويتواصل صوم النفس ما دامت غير واعية ولا مريدة للإفطار، وإنما صارت متحسرة على حصوله في غفلة منها.كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”[4].
وكذا عندما يضطر الصائم للإفطار بسبب المرض أو شدة الحر فإن إمساك النفس لا ينقطع بسبب هذه الطوارئ بل يصير أقوى وأرسخ وأكمل لحصول المراعاة والامتثال لمراد الشرع وحكمه وأحكامه.
وعندما يضطر الإنسان للنطق بالكفر تحت الإكراه فإن الاعتبار بما هو مضمر في القلب كفرا أو إيمانا، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106]. ومن يلجأ لشرب شيء من الخمر أو أكل الميتة أو لحم الخنزير للحفاظ على حياته وإنقاذها من الهلاك الداهم، لا تتأثر نفسه بتأثيرات تناول الحرام في شيء لأن النية في استعمال الرخصة والانضباط لروحها يخلف في القلب حلاوة الطاعة وسلوك نهج الشرع الأقوم.
وقد يواقع الإنسان خطيئة من الكبائر وهو مقر بشناعة فعله وقلة رشده وضعف إيمانه، ومعترف بعجزه عن كبح جماح شهوته الجسدية، مستشعر لشدة خجله من نفسه بين يدي الله تعالى، موقن بأنه هالك لا محالة إذا لم يكف عن زلاته، وإذا لم يتداركه الله بلطفه ورحمته فيغفر ذنبه، ويمنحه القدرة على خشيته وتقواه حق التقوى. فهذه الحالة القلبية لا يترتب عليها إلا الحد الأدنى من الوزر بل قد يعلو بها شأن العبد عند الله وترتقي بها نفسه إلى مقام التوبة النصوح، ومعلوم أن حسرة العصاة على ذنوبهم أحب إلى الله وأثقل في ميزانه من فرحة الطائعين بحسناتهم، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم“إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها”[5]فقد يظل أثر فعل الجسد قائما ماثلا في الواقع المشهود مثل الضرب والجرح والتخريب والإفساد، لكن مع التوبة يمحى أثره السيء من القلب إذا صمم عدم العودة إلى نفس الجرم فاكتسب تقوى أبدية على امتداد العمر من ارتكابه مرة أخرى.
وإذا تمنى القلب الانحراف وحال دونه عجز جسدي، صار ظاهره التقوى ولكن باطنه الجناية والغواية، فحاز حظا وافرا من الوزر على قدر تشبث نفسه وتطلعها للمعصية حين تواتيها القدرة الجسدية.
فالتقوى الجسدية وسيلة مساعدة على تحصيل التقوى النفسية كما أنها نتيجة عملية ظاهرة تقوى بقوتها وتضعف بضعفها.وقد ربط الله التقوى بالقلب في كتابه الحكيم{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] فما أحوجنا إلى ممارسة إمساك يعلو فيه صوم النفس على صوم الجسد حتى نخرج من صيام هذا الشهر الفضيل بأعظم الفوائد التربوية وأسمى الحالات القلبية.
[1] – زاد المسير في علم التفسير (1/ 141)
[2] – ورواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري
[3] – البخاري
[4] – رواه ابن ماجه والبيهقي وصححه الألباني في مشكاة المصابيح.
[5] – رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وهو في (صحيح الجامع1666)