العمل والعمال دراسة تاريخية

0

                                       أعده ذ: عبد الرحيم مفكير

تعيش البشرية حياة من القلق و الاضطراب. فلم يعد هناك يقين في شيء حتى يجد الضمير البشري الهدوء والراحة، وذلك ناجم عن بعدها وانحرافها على عقيدة الإسلام، فلقد استشرى الفساد في كل ناحية من نواحي الحياة، وأصبح العالم يعرف اضطرابات سياسية واقتصادية واجتماعية. وبدأ التخوف من وحيد القرن لاسيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار حائط برلين، وتراجع المنظومة الماركسية أمام الاجتياح المهول لليبرالية المتوحشة والتحذير من الخطر الإسلامي عوض العلماني.وإن وضعية العامل في هذا الواقع ليست أحسن حالا من الزمن السابق، فهو في حاجة إلى الحماية والرعاية وسد الرمق،

وتخفيض ساعات العمل وتحسين وضعيته داخل المجتمع. إنه في حاجة إلى التحرر من كل قيد وضعته الرأسمالية، والاشتراكية، والشيوعية، والعبثية، في حاجة إلى نظام اجتماعي يكفله ويكفل سلامة بيته وسلامة المجتمع المحيط به،إنه في حاجة إلى الحرية والنشاط ليساهم في البناء وسد الثغرات التي تعرفها البشرية. وإذا ما حصل العامل على حقه فسيكون بذلك المشعل الأساسي للنهوض بالأمة وازدهار اقتصادها وتطوير إنتاجها. فتحاول الأمة ما أمكن أن تقف من عثرتها لتمسح عنها غبار ذل الهزيمة التي سلبتها قيمها ومكوناتها الحضارية فجعلتها بدون هوية .

إن العامل اليوم في ظل النظم السائدة اليوم سواء كانت رأسمالية، أو اشتراكية، أو شيوعية، يعرف حالة عبودية جديدة من نوع آخر أكثر تطورا، عبودية تغير فيها أسلوب المعاملة لا أقل ولا أكثر. والعامل المسلم في الواقع الإسلامي يسير بدوره هو الآخر في طريقه المسدود بعيدا عن تشريع الله، لاسيما وأن جميع حقوقه التي كفلها له الإسلام مغتصبة من طرف رب العمل .

إن الدراسة التاريخية لوضعية العامل تبين بوضوح المراحل التي مر منها تحت ظل الاستبداد، والاحتكار، والطغيان. فكلما طبقت عليه شريعة الغاب، وتحكمت فيه قوى بشرية إلا وانتهكت حرمته وهدرت جميع حقوقه التي جاءت بينة في كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام، والتي ألزم بها خلفاءه الراشدون أمراءه، فتحققت على أرض الواقع عدالة اجتماعية أعطت لكل ذي حق حقه دون نهب أو اغتصاب أو تعد.

ثمة معضلة أساسية تعترضنا خلال بحثنا التاريخي لوضعية العامل عبر الحقب التي عرفتها البشرية تتجسد في ( أن لكل أمة تاريخها تسجله من منطلق عقيدتها وواقع حياتها وتحرص على تنقيته من كل ما يخالف تلك العقيدة…هذا بالنسبة لكل أمم الأرض إلا الأمة الإسلامية فإن تاريخها قد لعبت فيه الأيدي المنحرفة وحرفته أقلام المستعمرين وأنصارهم…فتاريخ الذين يزعمون أنه عالمي لا ينطبق بالفعل إلا على أوربا ولا يشمل غيرها )(1).

ولعل ما يبزر انطباق هذا التقسيم على أوروبا وحدها دون غيرها, أن التاريخ الوسيط عند الأوربيين الذي هو عصر الانحطاط هو بالنسبة للمسلمين عصر التنوير وانتشار العلم وسيطرت النظام ووجود القيم (2) .و تأتي الماركسية بدورها لتأكد أن أول مرحلة من مراحل التاريخ هي الشيوعية البدائية. وتؤكد على أن تغيير أسلوب الإنتاج والقوى المنتجة وتغيير العلاقات يؤذي إلى تغيير النظام، ونتيجة لهذه الحتمية انتقل العالم من المشاعية البدائية إلى الرق، فالنظام الإقطاعي، فالرأسمالي، فالاشتراكي. أما الموقف الإسلامي من التاريخ فيتميز بمرونته بعيدا عن التوتر والتأزم المذهبي الذي يسعى إلى قولبة الوقائع التاريخية وصبها في هيكله المسبق واستبعاد أو تزييف كل ما لا ينسجم وهذا الهيكل، الأمر الذي يوقع التفاسير الوضعية في كثير من الأخطاء و الانحرافات…إن هناك فرقا منهجيا حاسما بين المذاهب الوضعية وبين المذهب الإسلامي في تفسير التاريخ (3).

وتأتي دراسة موريس كرمزيه التي انطلقت من التقسيم الأوربي معتمدة على الحفريات التي أشرف عليها باحثون و أساتذة في السوربون لتحدد لنا أنه لا يمكن معرفة تاريخ أي شعب من شعوب الأرض يرجع إلى ما قبل الميلاد بأربع آلاف سنة بالمقابل فإن التاريخ الحالي في القرآن يمتد إلا ما قبل آدم عليه السلام.

إن إشكالية المراحل التاريخية التي مرت منها البشرية قد عرفت أخذا وردا عند الباحثين، ومهما يكن فإننا نجزم بأن الرائد الأول الذي قاد البشرية لتغيير وتطوير وتحويل العالم هو سيدنا آدم عليه السلام، انطلاقا من فطرته التي جبل عليها. ولقد احترف عليه السلام الزراعة وعلمها أبناءه. ومهما تكن درجة الخلاف بين الباحثين، فإنها لا تمنعنا من استعراض وضعية العالم في أوساط اجتماعية متعددة لنذكر بمعاناة العامل في ظل النظم السائدة التي عرفتها البشرية. فإلى جانب الحضارة المصرية و الفارسية وبلاد الرافدين ثم الجاهلية في الإسلام، وعند الغرب المشاعية البدائية والعبودية، ثم اليونان والرومان، فالإقطاع في أوربا الوسطى وتحولات القرن 12 ميلادي ثم ثورة المدن ونشاط التجارة والحرف. وفي القرن 15 الاكتشافات الجغرافية وتبلور البورجوازية. وفي القرن16 النهضة. وفي القرنين 17 و 18 الثورة الصناعية وفي نهاية القرن العشرين شبح العولمة وسقوط الإيديولوجيات.

فما هي يا ترى وضعية العامل عبر هذه الحقب ؟ وكم كانت معاناته ؟ بل كم نال من الحقوق ؟ ألم تهدر إنسانيته !؟ وهل عاملوه على أساس أنه خليفة الله في أرضه، أم على أساس أنه ملك يباع ويشترى كباقي الأدوات ووسائل الإنتاج؟ 
1- محمود شاكر: التاريخ الإسلامي قبل الإسلام ج1 المكتب الإسلامي ص6-7. 
2- نقسه بتصرف ص 7- 8. 
3- نفسه ص 12

يؤكد موريس كروزيه أنه في الحقب الموغلة في القدم لا نجد إلا الإنسان الحيوان أما الإنسان المنتصب ولا سيما الإنسان العاقل المدرك الذي لم يظهر إلا بعد وقت طويل، فالإنسان العامل الذي يستعمل أدوات من أجل البحث عن لقمة العيش… وفي العصر الحجري اعتمد الناس على الصيد. فالإنسان من العصر الحجري إلى عصر الحديد استمد أجهزته وأدواته الضرورية من عظام الحيوان، وأصبح في هذه الفترة راعيا وأقبل على الأرض يحرثها فتحضر… وسرعان ما ألفت جماعات مجتمعا يربط بين أفراده روابط من العمل المشترك والدفاع عن سلامة المجموعة (4) وقد عرفت وضعية العامل المصري تطورا مغايرا حيث عاش المجتمع حياة الرق، وأغلب الأرقاء كانوا أجانب في الأصل فهم إما أسرى حرب أو أسرى قرصنة ولصوصية . لقد كان الملك سيد غالبية العبيد… فالفلاح يمهد الأرض وينقل الأحمال على ظهره أو يجر الثقيل فهو مرتبط بحقول الفرعون يملك بيتا وحديقة وبعض الطيور الداجنة لكن الأرض الصغيرة المؤلفة من بيته وداره لم تكن سوى هبة… فهو يرزح دائما تحت الصخرة التي لا بديل عنها ولا يزال سيده يقتطع حصصه دون هوادته إما مباشرة وإما عن طريق تقسيم المحاصيل (5).

أما أصحاب الحرف فإنهم في الواقع أكثر تميزا من الفلاحين، ولا شك أن العمال المرتبطين بأشغال المعابد والملك قد لاقوا معاملة اقل سوءا.

وفي بلاد ما وراء النهرين كان العبد العامل يتساوى قانونا مع الشيء المادي الممتلك المنقول. (6) ولا تتغير وضعية العامل اليوناني القديم عن سابقيه فمصير العبيد العاملين في المناجم بإشراف ملتزم يسعى وراء الكسب ولا يهتم إلا استبقاء طاقتهم على العمل، ويدفع لهم أجورا لا شك في أنه يقدرها بدقة، وكانوا يعملون بأدوات هزيلة وبدائية، ويلاقي العاملون أنواعا من التعذيب والتشريد… وهذا ما يحدث أيضا في الصين، فالملكية- ملكية الأرض- تعود إلى السيد ويستغل الفلاحون هذه الأراضي لصالح المتبوع واستنادا إلى التقاليد الصينية… فالفلاحون لا يتمتعون بشخصية ما ولا يأتون بمبادرة ما، فهم تباع للأرض التي يستثمرونها (7). أما وضعية العامل في العهد الجاهلي فهي بدورها لا تختلف عن غيرها، والحديث عنها سيأتي عند طرحنا للنظرة الإسلامية للإنسان، هذه النظرة الشمولية التي أعطت لخليفة الله في الأرض حقوقا لا بديل عنها.

ولقد عرف الإنسان الأوربي في القرون الوسطى تغيرات شملت جميع الميادين سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية… ففي ظل النظام الإقطاعي لا تختلف الظروف الاقتصادية للطبقة الأخيرة من المجتمع اختلافها في الطبقتين الأوليين. فالعمال بصرف النظر عن مقدر اتهم – وهذا ما يمز وضعهم- قد خضعوا خضوعا تاما لسيد لم يختاروه يحميهم ويقودهم ويعاقبهم. والنظام المفروض عليهم نظام شديد يطبقه رئيس يتمتع بحق نفيهم.(8) وفي القرنين 16 و 17 ميلادي اتسع مجال الحركة التجارية وازدادت الكميات الضخمة التي يجري تسويقها. كل ذلك يعتبر بحق تغييرا أساسيا في النظام الاقتصادي، فبامتداد الحركة التجارية إلى العالم الإسباني في العالم الجديد وإلى المحيط الهندي البرتغالي أدخل على الحركة الاقتصادية تغيرات جذرية، وأدخلت على المهن عدة أدوات صناعية وأصناف جديدة رفضت النقابات قبولها(9). فلقد تحتم على العمال مسايرة الآلة في الإنتاج وهذا أمر مستحيل. كما أن الدولة ناصرت أرباب العمل على العمال في مجهودهم الرامي إلى إزالة التنافس وتخفيض الأجور، وبلوغ الحد الأقصى من الإنتاج. وأمست التعاونيات في النهاية آلة في أيدي أرباب المهن: التضييق الخانق على العمال.

وفي القرن الثامن عشر عهد الأنوار- عند أوربا- برزت أزمات تخمة الإنتاج ورافقها ارتفاع مفاجئ في أسعار المصنوعات وانهيار مالي في سنة 1793م، وارتفاع عدد السكان ونمو المدن، وقيام طبقة من الرأسماليين الصناعيين في الوقت الذي تعيش فيه طبقة من الكادحين لا يمتلكون أية وسيلة من وسائل الإنتاج وليس لهم سوى سواعدهم وأولادهم. وإلى جانب هؤلاء-عمال المصانع- وصانع المسامير والحاكة وغيرهم الذين لا يتقاضون بدورهم إلا أجرا ضئيلا ويتغذون تغذية سيئة (10). ولقد صاحب الاندفاع الاقتصادي في مرحلة الثورة الصناعية ميلاد المؤسسات الصناعية التي حلت محل المؤسسات الحرفية وزوال كل التنظيمات للانخفاض الشديد لمستوى الأجور… زيادة على شروط العمل التي كان يطبعها طول يوم العمل… وبعد هذه الفترة أي في حدود 1914م استولت الدولة الرأسمالية على أراضي وخيرات البلدان الفقيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. كان هذا المظهر إحدى مظاهر القرن التاسع عشر. فلا شك أن الطبقة العاملة عرفت حالات مزرية تحت ظل الاستبداد والاستغلال الذي جاء به النظام الرأسمالي، فباكتساح هذا النظام الاستعماري للأراضي المغتصبة يمتلك إلى جانبها مالكيها مما يوفر له زيادة الإنتاج، وواكب هذا المد الاستعماري تغلغل الشركات في البلدان المستضعفة مما مهد إلى الحرب العالمية، وتغير ت وضعية العامل. فلقد ظهرت في القرن العشرين قوتان اقتصاديتان كبيرتان- الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي- ساهما بشكل أو بآخر في مأساة البشرية من جديد… فلقد فتحت أبواب الهجرة للاستحواذ على أكبر قدر من اليد العاملة تعمل في أراضي شاسعة تتوفر عليها أمريكا. أما الاتحاد السوفياتي فلقد عرف تقدما بعد ثورة 1917 م وخاصة بعد 1927 م فإنه بعد اختيار المنهج الاشتراكي واعتماد الدولة على النشاط الاقتصادي وتركيزه وتسييره الشيء الذي ساعد على استعمال الفائض الاقتصادي وتخطيط البرامج وفق الأسبقيات المحددة والقضاء على الفوارق الاجتماعية. ولقد ساعد الاصلاح الزراعي الذي حدث بعد الثورة على تحرير فائض من اليد العاملة ومن الأموال توجه إلى الصناعة وخاصة الثقيلة منها . كما عرف العامل في ظل هذه الأنظمة أنواعا من الاستبداد والقهر والاستغلال لطاقته وتقنياته. 
4- موريس كروزيه: تاريخ الحضارات العام-ص 25- 26 منشورات عويدات- بيروت – المجلد الأول. 
5- نفسه ص72: انظر أيضا محمد مورو قرقر – الحركة الإسلامية في تصفية الإقطاع. 
6- نفس المرجع السابق –ص 151 وما بعدها. 
7- نفسه ص 586- 588. 
8- القرون الوسطى نفس المرجع المجلد الثالثص301. 
9- نفسه المجلد الرابع ص 137. 
10- نفسه المجلد الخامس ص 142.

ولعل العامل المساعد في هذا المجال الأبحاث العلمية والاختراعات على تغيير أسلوب العمل وإنتاجيته، فحلت الآلة محل العامل… كما أثر هذا التقدم العلمي والتقني في حياة المجتمعات الصناعية، فانسلخ الأفراد عن البنيات الاجتماعية. فقدت العائلة دورها كخلية مركزية في الحياة الاجتماعية، وخضع العامل لعبودية الآلة ولسطوتها، فتحولت مشاكله، وحدت حريته في حين أنه تمكن من كسب وتسجيل عدة انتصارات على العوامل الطبيعية وعلى القيود الاجتماعية (11).

ومع ذلك هدرت إنسانيته وأي هدر أعظم من أن الإنسان قد غذى في ظل الحرية الاقتصادية سلعة ساقطة في مهب رياح العرض والطلب، وأنيطت حياته بالأجرة التي يدفعها إليه رب العمل بعد إنجاز العمل. فإذا كثرت الأيادي العاملة انخفضت أجرته وتدنت حياته إلى مستوى لا يقدر معه على إشباع حاجاته الأساسية. فطرد العمال من المعامل جائعين بائسين… ولا تختلف وضعية العامل الماركسي عن صديقه الرأسمالي، فالدولة لها حق الالتزام والإكراه والسخرة، وهي الحكم والمنفذ، والعامل ملزم بالعمل وطاعة السيد الذي هو الحزب أو الدولة، وعليه أن يقبل الأجر مهما كان ضئيلا من دون أن يكون له حق الاعتراض عليه، أودون حق رفع الأمر إلى جهة قضائية لها سيادة أعلى من السلطة التنفيذية، والسياسية في الدولة.

لقد تبث بالملموس شقاء العامل في ظل هذه الأنظمة، حيث تحكمت الأقلية المالكة الطاغية في رقاب الناس واستعبدتهم واعتبرت نفسها الإله الجديد الذي له الأمر والنهي، فجعلت من الناس عبيدا لها وساقتهم إلى الشقاء والعمل المتواصل الدؤوب دون أن تخشى في ذلك لومة لائم. لقد آن للبشرية أن تعود لرشدها وتراعي حق العامل فتكفله وتراعيه وتزوده بكل متطلباته المشروعة. إنه وبعد الفشل الذريع الذي منيت به الأنظمة الوضعية لا يبقى أمام الإنسان إلا أن يخضع لنظام يحقق العدالة الاجتماعية، فالإسلام منهج متكامل وشامل لكل جوانب الحياة الإنسانية ولم يهمل الجانب السلوكي والمعاملات الإنسانية والعلاقات الاقتصادية. فأعطى للأجير أجره ومنح لرب العمل حقه. 
العمل في التصور الإسلامي:

لايشك أحد في أن التوجهات المعادية للتصور الإسلامي تعمل جاهدة لتشويه صورة الإسلام في أذهان البشرية جمعاء، ولا أدل على ذلك من أحداث 11 من شتنبر وصمت وحيد القرن على الجرائم البشعة التي تقترفها الآلة الهمجية الصهيونية التي خلفت أضرار اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وألقت بالعديد من العمال إلى الشارع، وهتكت الأعراض، وشردت الأسر، كما يشرد العمال العراقيون بعد الهجمة الشرسة على بلاد العراق وغيرها من البلدان في العالم، يتم كل هذا أمام الخذلان العربي والإسلامي. في حين تحاول القوى الحية جاهدة تلميع صورة الإسلام وتقريبه من أذهان الناس. ولعل الإخفاقات الموضوعية لتحقيق الأهداف المرجوة من الدعوة الإسلامية مرجعها إلى حركية دعاة الغزو الفكري من الصليبين، والشيوعيين، والفرنكوفونيين، والصهاينة، وأذناب هؤلاء ممن يعيشون بين ظهرانينا، وهذا لايعني إخفاء قصورنا وتقاعسنا عن القيام بواجب التبليغ والمدافعة لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

إن الأفكار المغلوطة التي بتت في أوساطنا قادت الأمة إلى البحث عن البديل لتخرج من أزمتها، فتشبثت بأنظمة اقتصادية أخرى بعيدة عن الإسلام، واختارت منهجا غير منهجها. وظل في مفهوم الناس أن الإسلام احتقر العامل والعمل، وأن الدين هو سبب البلاء بل هو “أفيون الشعوب” بزعمهم ، وذهب البعض إلى إنكار وجود نصوص تحث على العمل، وأنه لاوجود لحقوق العامل في المنظومة الإسلامية، مما يدفعنا إلى تناول هذا الموضوع بكثير من الإيجاز، لنمهد لما سيأتي في الفصول القادمة، ونؤكد على قدرة الدين الحق على تأطير المجتمع المدني المسلم، وبيان العدالة الربانية التي تكفل للناس حقوقهم وتطالبهم بواجباتهم. 
1) مفهوم العمل في الإسلام:

لقد رسم الإسلام الإطار للبناء الاقتصادي الذي يضمن قواعد العدل، والمساواة، والتوازن بين مصالح الفرد والمجتمع، وأرسى الأركان الأساسية ثم ترك أساليب التطبيق لكل فرد ولكل مجتمع ليكيفها حسب ظروفه ومقتضيات عصره وإمكاناته، فلا غرابة والحالة هذه أن نجد عند المفكرين المسلمين أنفسهم نظريات وآراء ومواقف مختلفة بل متباعدة أحيانا، ولكنها ترتبط بالنظرة الإسلامية في إطارها العام. ولقد ركز الإسلام فلسفته الاقتصادية أساسا على عنصري المال والعمل. وخصص للمال مكانة مرموقة نظرا لأهميته كأداة ، كما جعل للعمل أيضا دورا رئيسيا لا في حركات الاقتصاد فحسب، بل حتى في الاكتساب، والامتلاك، والاستغلال… فالله سبحانه وتعالى جعل العمل هو هدف الحياة ومحورها قال تعالى” ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش” الأعراف 15. كما أنه سبحانه وضع العمل في المرتبة الأولى بعد الإيمان. واعتبر كل تحرك فكري أو عضلي عملا . وعرف الإسلام بنظرته الشمولية للعمل. إن مفاهيم العمل متعددة ونقف هنا عند بعضها تقريبا للمفهوم.
العمل في الفكر المعاصر:

يعرفه أصحابه بأنه ذلك المجهود الإرادي الواعي الذي يستهدف منه الإنسان إنتاج السلع والخدمات لإشباع حاجاته، ومن ثم فإن مجهود الحيوانات ومجهود الإنسان لغير هذا الهدف لايعتبرعملا. وإذا كان مبدأ حرية اختيار نوع العمل مسلما في ظل الشروط والأوضاع التي تنظمها بعض القوانين في العصر الحديث، فإن هذه الحرية لم تكن متوفرة من قبل، كاملة في العصور القديمة والوسطى، وذلك مع سيادة أنظمة العبيد ورقيق الأرض والطوائف. والعمل هو العنصر الفعال عن طريق الكسب التي أباحها الإسلام، وهو الدعامة الأساسية للإنتاج وعلى قدر عمل المسلم واتساع دائرة نشاطه يكون نفعه وجزاؤه قال تعالى” من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون” النحل الآية 97.(12) .
11- فتح الله ولعلو: الاقتصاد السياسي – ج1- مدخل للدراسات الاقتصادية ص 74.
12- د: عبد الهادي عالي النجار- الإسلام زالاقتصاد- عالم المعرفة ص 26.
والأصل أن يشبع الإنسان حاجاته المعيشية من ثمار عمله ونتاج سعيه إذا كان قادرا على ذلك وإلا فإن حمايته ضد العوز تكون من مسؤولية الدولة.(13).
العمل نشاط واع يقوم به الإنسان في إطار صراعه ضد قلة الموارد في سبيل إشباع رغباته وتصدير قيمة إنتاجيته من دوره في تحويل الأشياء أثناء عملية الإنتاج.(14) العمل فعل إنساني يغير الطبيعة بفضل الفكر واليد، ويغير الإنسان ذاته بما يخلق من آثار وهناك من يقرر أن العمل فاعلية إرادية موجهة إلى غاية… فالعمل بوجه عام كل فاعلية إنسانية إلزامية وموجهة لإنتاج أثر نافع… فالعمل كل فاعلية يتجلى فيها جهد عضلي أو فكري… والعمل فاعلية إنسانية تفصح عن الإبداع الإنساني بالدرجة الأولى… والعمل فاعلية إلزامية تستلزم القيام بمهمات غير جذابة في حد ذاتها تفرضها علينا الحياة الاجتماعية وتقنية العمل.

العمل هو إنفاق الطاقة العضلية أو الذهنية إي المجهود الذي يبذله الإنسان بقصد تغيير الطبيعة أو التعبير عنها. وعندما نتأمل حياة الفرد في المجتمع فإننا نجد بأنه يقوم بأعمال متعددة، هذه الأعمال تكتسي في غالب الأحيان صيغة اقتصادية، ولكنها لا تكون منتجة إلا في أوضاع معينة. فالأعمال التي يمارسها الإنسان في مجال العلاقات العائلية لا تدخل ضمن الفاعلية الاقتصادية. كما أن العمل الذي يتجه إلى الطبيعة لهدم معالمها في الحرب هو عمل مخرب غير منتج من الناحية الاقتصادية.(15) العمل يقول الدكتور القرضاوي” هو المجهود الواعي الذي يقوم به الإنسان وحده أو مع غيره لإنتاج سلعة أو خدمة… وهو السبب الأول في جلب الثروة، وهو العنصر الأول لعمارة الأرض التي استخلف الله فيها الإنسان وأمره أن يعمرها”.(16) ويعتبر تعريف د. عيسى عبده من أهم التعاريف الواردة في هذا الباب ” العمل هو الإجهاد الذهني أو العضلي بقصد خلق المنفعة” ويضيف ” إن العمل يستظهر المنفعة أو يظهرها، فهي كامنة أصلا على هيئة تجعلها صالحة للإشباع، أو دون ذلك، ومن ثم يكون العمل معقدا ورفيع المستوى….. العمل سلوك ظاهري يجد علته في الجذوة المتقدة في أعماق النفس البشرية فتحملها على التمسك بأهداب الحياة” (17) إن قيمة العمل عند الله عز وجل رفعها إلى مقام أفضل العبادات. وقد أرسل الله رسله مبشرين ومنذرين يقتدي الناس بهم ويسيرون على نهجهم، فكانوا مثالا يقتدي. وقد مارسوا العمل في حياتهم بدءا من أبيهم آدم عليه السلام الذي احترف الزراعة، ونوح امتهن التجارة، وداوود الحدادة، وإدريس الحكاية، وسليمان عمل الخوص، وزكرياء التجارة، وعيسى الصباغة، وانتهاء بخير الهدي عليهم السلام أجمعين رعى الغنم والتجارة. وكان في ذلك أكبر إدانة للفكر اليوناني القديم وغيره من الأفكار التي تحتقر العمل اليدوي ، وتتفرغ للتأملات الفلسفية وغيرها من الأعمال المنتجة.

وسار على نهجهم الصحابة الكرام الذين صنعوا بمجهوداتهم تاريخا فذا فكانوا بحق جيلا قرآنيا فريدا لا يتكرر. لأنهم نظروا إلى العمل على أساس أنه عبادة. فالمنهج الرباني لا يضع فرقا بين العمل الدنيوي و لا الأخروي، فليست هناك أعمال خاصة بالدنيا وأخرى بالآخرة، وإنما هي كلها أعمال من نوع واحد وإن اختلفت أشكالها. يقول محمد قطب” العمل في الحقل عبادة، والعمل في المصنع عبادة، والعمل في المدرسة عبادة، والزواج عبادة، والنهي عن المنكر عبادة والسعي للكسب الحلال عبادة… “(18) يتبين من خلال ما سبق شمولية الإسلام لمفهوم العمل، فكل عمل نافع صالح يبيحه الإسلام وإن كان عظيما كرئاسة الدولة، يدخل في هذا المفهوم، وهذا معاوية بن أبي سفيان خوطب بالأجير وهو خليفة ولم يجد حرجا. ولم تمنع الخلافة أبا بكر أن يكسب قوته بمهنة من المهن، وأن يأخذ أجره عليه من بيت مال المسلمين. ومعلوم عند كل مهتم بالإسلام تنويه القرآن ببعض الصناعات كالحدادة، وصناعة السفن، وصناعة الدروع، في كثير من سوره. كما حث على العمل مما يبين منزلته في الدين الحق. 
2) منزلة العمل في الإسلام:

يحتل العمل مكانة عظيمة في ديننا الإسلامي، فقد وضع إلى جانب أحكام الصيام والصلاة والزكاة والحج وأحكام الشركة والمزارعة، والمساقات، والمضاربة، والوكالة، والكفالة، وأوامر الوفاء بالعقود وأداء الأمانات إلى أهلها، وبرد المظالم، وإعطاء كل ذي حق حقه.

وقد نوه القرآن الكريم ببعض الصناعات الهامة كصناعة الحديد قال تعالى” وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس” الحديد الآية 23 فقرن الحديد بكتاب الله في النزول امتنانا من الله عز وجل على الإنسان. فالآية أوضحت أنه إن كان كتاب الله للهداية إلى المنهج السليم في الحياة، وإقامة العدل، فإن الحديد للعزة والمنفعة والوقاية ضد الاعتداء، وفي الوقت نفسه للمنافع العديدة للحياة المدنية للإنسان. فالحديد يستخرج من الأرض، ولكن التعبير القرآني هنا بنزوله من عند الله قصد منه رفع شأنه وقيمته للإنسان في الحياة، فقيمته سواء في الدفاع عن الإنسان أوفي حضارة الإنسان المادية تساوي قيمة كتاب الله في الهداية للبشر، في الحكم والعدل بين الناس على أساس منه(19). 
13- د: عبد الهادي عالي النجار الاسلام والاقتصاد عالم المعرفة ص 26.
14- فتح الله ولعلو مرجع سابق ص 345.
15- عبد الله عاصم: علم الاقتصاد ص 75.
16- د: يوسف القرضاوي: مشكلة الفقروكيف عالجها الإسلام ص 39 مؤسسة الرسالة.
17- د: عيسى عبده: الاقتصاد في القرآن والسنة ص 45-46.
18- محمد قطب: نصوص قرآنية بتصرف ص 128- 129 بتصرف.
19- د: محمد البهي: الإسلام في حل المشكلات الإسلامية المعاصرة ص 248.

كما نوه بصناعة التعدين قال تعالى” وأرسلنا له عين القطر” سبأ الآية 12 أي النحاس المذاب الذي يستعمل في صنع الجفان والقدور. وفي الصياغة قال عز وجل” واتخذ قوم موسى من حليهم عجلا جسدا له خوار” الأعراف 148. كما أشار إلى صناعة الدروع ” وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ” الأنبياء الآية 80. ” وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم” النحل الآية 81. ” وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد” سبأ الآية 11. ونوه بصناعة الكساء في قوله تعالى” يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ” الأعراف الآية 26. ” ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا” النحل الآية 80. وفي صناعة الجلود” وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ضغنكم ويوم إقامتكم” النحل الآية 80.وكذلك أشار إلى الصناعات السكنية قال سبحانه” وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحثون الجبال بيوتا” الأعراف الآية 74 ” وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين” الشعراء الآية 149. وفي صناعة السفن ” واصنع الفلك بأعيننا ووحينا” هود الآية 37. وفي الصيد وصناعته قال تعالى” يآيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم” وقال ” وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها” النحل الآية 12. وفي الفلاحة يقول سبحانه” أفرأيتم ما تحرثون آنتم تزرعونه أم نحن الزارعون” الواقعة 63-64.

أما الأحاديث الواردة في هذا الباب فكثيرة نورد بعضها. قال عليه السلام ” لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان” أخرجه أحمد. وجاء في البخاري قالت عائشة رضي الله عنها” إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل: اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله المؤمنون” وفي الحديث الصحيح” إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته قالوا يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه” أخرجه أحمد عن أنس بن مالك. وقال عليه السلام” إن أشرف الكسب كسب الرجل من عمل يده” رواه أحمد.” ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده” البخاري. وقال عليه السلام ” من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له”. ” إن الله يحب العبد المحترف”.

نستشف من كل ما سبق قيمة العمل في الإسلام. ولهذا يتحتم على المسلمين السعي لطلب الرزق الحلال لسد حاجياتهم وحاجات أسرهم غير مفتقرين إلى معونة من فرد أو دولة أو مؤسسة أو حكومة، فيغنون أنفسهم عن السؤال، ويساهمون في بناء حضارتهم الإنسانية كما أرادها لهم رب العزة والجلال.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.