ظاهرة الكآبة والانتحار: الأسباب والعلاج

0

 أعده الدكتور نور الدين عادل

 

أستاذ باحث في تواصل الأديان والثقافات

 يعلم المؤمن أن له ربا يحميه، وعلى هذا الشعور يستند في مغالبة عقبات الحياة،لا يثنيه عن ذلك جهل الجاهلين (الجهالة عنف وقسوة)

قال تعالى:”وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”(سورة الفرقان،الآية:63) سلمت قلوبهم من أمراض الحقد والحسد وأخواتها فسلمت جوارحهم من خلق الجاهلية وعنفها.
أي قوة هذه التي رفعت همهم للعلا، فلم يعد يسمع لخطواتهم صوت لشدة تعلقهم برب السماء؟ إنها طاقة الإيمان حين يسري نوره في القلوب ويفيض على الجوارح. إنها الكمياء الرباني الذي يحول دنيا الكدح والكبد إلى مزرعة يتفيأ المؤمن والمؤمنة ظلها الآن وغدا إذ الدنيا بمنطق الإيمان مزرعة الآخرة.

إنه الاستعلاء الإيماني الذي أعلنه حقيقة راسخة قوله تعالى:”ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مومنين”(سورة آل عمران، الآية: 139)

أدرك من سبقونا بإيمان حقيقة هذا الإعلان السماوي، وذاقوا حلاوته فهانت عليهم هموم الحياة بعد أن لانت قلوبهم وعقولهم لنور البيان النبوي “وإن عظم الجزاء مع عظم البلاء”(أخرجه الإمام البيهقي في شعب الإيمان)

عجبا لأمر المؤمن كل أمره خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن.

انتظمت أمور المؤمن لما اتزنت عنده النظرة لنفسه ولمن حوله، وتحقق أنه خُلِق للآخرة، بل هو من أبناء الآخرة، وهي من بناتها. أدرك معنى وجوده فخرج من عبث العابثين الذين شغلتهم أنفسهم ونزواتها فضيعوا جنة الدنيا والآخرة التي حمل بشارتها قوله تعالى:”من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة”(سورة النحل، الآية:97)

حياة طيبة مرآتها الفاعلية والعطاء والتحدي المستمر، ويد العطاء برهان صدق الإيمان.

هذا الاتزان والانتظام في الشأن الخاص والعام هو موضوع دندنتنا في قضية نقاشنا، كيف السبيل لهذا الثبات الانفعالي الذي هو معيار الصحة النفسية؟

تعرف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بكونها:” حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة والتكيّف مع حالات التوتّر العادية والعمل بشكل منتج ومفيد والإسهام في مجتمعه المحلي”(ينظر موقع منظمة الصحة العالمية)

وتقدم معطيات رقمية، ومؤشرات تدل في مجموعها على أهمية توفير أسباب العيش والرعاية التي يتوقف عليها تمتع الأفراد بالتوازن النفسي الذي هو مقدمة الاندماج والتنمية والكرامة الإنسانية.

جميل هذا الكلام، والأجمل منه أن نستحضر أن الصحة النفسية “حالة من التوازن والاعتدال النفسيين الناتجين عن التمتع بأكبر قدر من الثبات الانفعالي، والذي يظهر في التوافق مع الذات والمحيط”

التمتع بأكبر قدر من الثبات الانفعالي هو أساس الصحة النفسية إذن.

الانفعال وهو التجاوب الوجداني والسلوكي معيار دال على الشخصية، إذا لا انفعال إلا بفاعل. لكن تجاوز الانفعال لمستوياته المقبولة قد يفضي إلى حالة اضطراب نفسي مؤقت، يمكن أن تتطور لمرض نفسي، يفقد صاحبه طعم الحياة ومعناها، وقد يجعل منه “مشروع منتحر”.

الحالة النفسية للمغاربة

الحالة النفسية للمغاربة تعكسها عجلة التنمية التي استعصت على الدوران في بلادنا، فحوالي ربع المغاربة(10مليون) يعيشون فقرا مدقعا، والخدمات الصحية تشكو هي الأخرى اضطرابا، أما الأمن على الأبدان فتدلك عليه نسب الاعتداءات بالسلاح الأبيض، التي هي في تزايد مخيف. كيف لا يكون المغاربة في المراتب الأولى مع الدول التي يقل فيها معدل الشعور بالسعادة؟

أيُعقل هذا في بلد “الأولياء” و”الشرفاء”؟

لا حياة لمن ضاع حقه في القوت، والأمن والصحة بهذا نطق البيان النبوي:”من أصبح آمنا في سربه معافى في جسده عنده طعام يومه فكأنما حيزت له الدنيا”(أخرجه الإمام البخاري رحمة الله عليه في الأدب المفرد)

إن حالات الانتحار التي بدأ دبيبها يسري كالسم في أوصال المجتمع المغربي، ومظاهر السلوك العنيف والشاذ هنا وهناك، في الأسرة والمدرسة ومؤسسات الإنتاج وفضاءات العمل، تدفعنا لطرح الأسئلة الآتية:

         – هل يشكو المغاربة فعلا من حالة يأس؟

         – هل تم تشخيص الحالة النفسية للمغاربة؟ هل في مصلحتنا فعل ذلك؟ ومن هي الجهة أو الجهات الموكول إليها فعل ذلك؟

         – ماهو نصيب المغاربة، خاصة فئة الأطفال والشباب، من التربية النفسية؟

         – أين نحن من معاني الإيمان التي أرست في النفوس الثبات الانفعالي المنشود؟ هل نال المغاربة حظهم من الأمن الروحي؟

           هل نحن في حاجة للتربية الإسلامية، بمعناها الشامل والكامل، نستعيد بها حقنا الأسمى في معرفة ربنا ومعنى وجودنا؟

         – من أين نبدأ؟ وما الطريق لسعادة يتسع معناها قلبا وعقلا، ويمتد مداها دنيا وأخرى؟

هذه الأسئلة ومشتقاتها نطرحها على أهل الفضل، والفضل زيادة في النظر والبصيرة، ليدلي كل من زاوية اختصاصه بكلمته في الموضوع، عسى، عسى.

رحم الله عبدا وأَمة دُعي إلى الخير فأجاب. والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

                                              

التعليقات

#1سهيل2014-04-04 20:17

اللهم أحيينا بك حياة طيبة وأختم لنا بخاتمة السعادة التي ختمت بها لأحبابك

#2سعيد المعروف2014-04-07 22:07

أحسنتم في إثارة موضوع التربية النفسية التي تضمن توازن الشخصية وتحقق قدرتها على مواجهة أسئلة الحياة بحلوها ومرها. وأعتقد أن مؤسسة المسجد تجدد في قلوب روادها معاني الإيمان بما تمنحه من معنى الحياة وحقيقتها.
والملاحظ أن مساجدنا بدأت تشهد حركة أرجوها عود على بدء.. وأنها مناسبة للتذكير أن “المساجد لله” الآية. فكل مذكر بالله عز وجل وشرعه أحق أن يعلو المنابر، وكفى من الحسابات الضيقة التي تطرد من بيوت الله الأصوات التي تغرد خارج السرب.
وفقكم الله لما يحبه ويرضاه

#3كوثر2014-04-08 11:31

أشكركم على إثارة النقاش حول هذا الموضوع الذي أصبح يفرض نفسه على كل متتبع لما تحمله الأخبار هذه الأيام، فما نكاد ننسى خبر انتحار حتى يطلع علينا خبر مفجع آخر حول انتحار آخر والذي يشمل جميع الأعمار والأجناس والمستويات الاجتماعية، فغالط من يظن أنه في منآى عن هذه الآفة النفسية الاجتماعية التي تحصد أرواحا بشكل متزايد، وأننا إذا لم ننتبه ونتيقظ لهذه الظاهرة، فسوف نفتح أعيننا قريبا وليس بعيدا على كارثة تجعل حالنا شبيها بالدول المادية التي ترتفع بها نسب الكآبة والانتحار، وأعتقد أن المسلم لا ينتحر أبدا مهما ضاقت به الدنيا واشتدت عليه نكباتها، إلا إذا أفقدته الإيمان بالله والطمع في رحمته وأنه سيعوض عن مصائبه الدنيوية بنعيم الآخرة الذي لا تشوبه المنغصات، إذن تزايد حالات الانتحار في مجتمعنا الإسلامي يؤشر بقوة على اختلال تربيتنا الإسلامية داخل المجتمع وعجزها عن منح شبابنا الاطمئنان والسكينة وحب الحياة والتعلق بها لأننا فيها نبني حياة السعادة الأبدية في الدار الآخرة.

#4أبو عبد الرحمان2014-04-09 16:08

أشكر الدكتور الفاضل على إثارته هذا الموضوع والذي يعتبر موضوع الساعة حيث أن الكثير من الشباب في مجتمعنا بدأ يقدم على هذا العمل الفضيع ويعرض نفسه للحساب الأخروي العسير، يفعل ذلك هروبا من مشاكل الدنيا إلى مشكل أدهى وأمر، وأرى أن السبب الرئيس للجوء لهذا الحل هو فشل المربي في ربط مرباه بعقيدة القرآن الصحيحة وسيرة الرسول الهادية، فكثير من حالات الانتحار كانت بسبب وقوع أصحابها في المعاصي دون خوف من الله فأدى بهم الخوف من عقاب الدنيا ولوم المجتمع الذي لا يرحم إلى وضع حد لحياتهم وإن كانت نسبة منهم غير واعية بما تفعل بسبب حبوب الهلوسة والمسكرات.
فالحل والله أعلم يكمن في العودة للتربية الإسلامية الربانية انطلاقا من الأسرة النواة الأولى للتربية مرورا بالشارع كفضاء للالتقاء بالأقران وصولا إلى المدرسة كفضاء للتلقين، وبين هذا وذاك المسجد باعتباره فضاء للارتقاء الروحي، وحتى تقوم هذه الأماكن بالدور المنوط بها لا بد لها من رجال صدقوا ما عاهدوا الله علية تربية وتوعية وتدريسا وتذكيرا ووعظا.

#5كوثر2014-04-09 21:46

يحتفل المغاربة بأغنية الفرح، أغنية
Happy -pharrell Williams
وأبدعوا في لتعبير عن سعادتهم بحركات ورقصات شاركت فيها كل جهات المغرب. وهنا يطرح السؤال: أهو تعبير عن فرح، أم مطالبة بالحق في سعادة ضلت طريقها إلى قلوب شبابنا؟
لاشك أن إدخال السرور إلى قلب مؤمن عبادة يرضى عنها رب الأرض والسماء ففي الحديث الدي رواه الإمام الطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”من كان وصْلَة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مَبْلغ بر أو إدخال سرور رفعه الله في الدرجات العلى من الجنة” لكن ماذا إذا كان الناس يتهافتون على طلب السلطان لا ليسعدوا الناس، خدمة وبرا ،بل ليحرموا الناس حقهم في لحظات الفرح، حين يستأثرون بخيرات البلاد ويحرموها باقي العباد؟
إن أغنية الفرح إن لم تتحول لشعار يحرك للمطالبة بالحق في السعادة فستبقى “دار لقمان على حالها” وسنرقص على جراحنا إلى حين..

#6يوسف فاوزي – ورزازات2014-04-19 11:18

شكرا لفضيلة الدكتور على مقاله القيم الذي يسلط الضوء على قضية أضحت حساسة في حياتنا اليومية ألا وهي الكآبة التي لا يكاد مغربي ينجو منها، وإن أردت ذكر الأسباب المسببة لها فأقول وبالله التوفيق:
1)البعد عن ذكر الله.
2)إهمال جانب الصلاة، إما تركها أصلا، أو التقصير في أدائها.
3)عدم استصحاب كثير من المغاربة لتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور الزواج، فالزواج في مجتمعنا تحكمه المادة والعجلة والانبهار بالمظاهر، بدل النظر إلى التدين وحسن الخلق، فتنقلب الحياة الزوجية إلى جحيم.
4)لجوء كثير من المغاربة إلى الربا لحل مشكلة السكن، ظنا منهم أن الاستدانة البنكية حل سريع، بينما هي حرب لله ورسوله وكفى بها خسرانا.
5)التأثر بالحضارة الغربية المزيفة بواسطة وسائل الإعلام المشبوهة.
6)وجود ثغرات وفوضى في بعض القوانين الإدارية التي تزيد من حياة بعض المغاربة تعقيدا مما يستدعي إعادة النظر فيها.
7) البعد عن التأسي بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وسيرته، واللجوء للتقليد الأعمى للممثلين واللاعبين والمنحرفين.
8) إهمال توجيه الشباب لاسيما في فترة المراهقة، إذ يلجئون إلى وسائل محرمة لإشباع رغباتهم ونزواتهم الجنسية بحثا عن لذة عابرة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.