ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما

0

    عرفت بلادنا في الأيام الأخيرة تزايدا لافتا في ظاهرة إقدام بعض الشباب على إشعال النار في أجسامهم أمام مرآى الناس في التظاهرات وداخل المحاكم، مما يوجب التصدي لهذه الظاهرة بالدراسة والتحليل وبيان موقف الشرع الحكيم من هذا السلوك الخاطئ، انطلاقا من الآية الكريمةوَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا( (النساء 29.

      ننطلق في تقويم هذا الحدث بداية بإبراز حرص الإسلام على حفظ الحياة البشرية وتوفير مقوماتها المادية والمعنوية وتجريم كل فعل يعرقل نماءها وتألقها ويحول دون سلامتها وتوازنها وسعادتها، ويوجد على رأس الموبقات المحرمة والأكثر تجريما وبشاعة في هذا الباب قتل النفس بغير حق حيث يعد قتل النفس الواحدة مثل قتل جميع الأنفس لأن الاعتداء على نفس بشرية يمثل انتهاكا صارخا لكرامتها وقيمتها السامية عند الله صاحب الخلق والتقويم، ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ( (التين 4)، ولهذا كانت عقوبة هذا الجرم على قدر قبحه وشناعته، ) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا( (النساء 93).

     وتحريم قتل النفس يشمل قتل الإنسان لغيره أو قتله لنفسه، والذي يصبح أشنع أنواع القتل لمخالفته السافرة لروح الشرع، ودوافع الفطرة القاضية بحرص الإنسان على درء الأخطار عن نفسه، وحفظ حياتها بكل ما يملك من قدرة وأسباب، وألا يهدرها إلا عند الضرورة القصوى التي لا يمكن ردها.

     فعملية إزهاق النفس البشرية، يتأكد ارتباطها عند إمعان التفكير بمبدإ دفع ظلم عظيم ودحر عدوان غاشم ومجاهدة منكر كبير، والسعي في استئصاله أو الحد من وجوده، ونظرا لعلو قيمة النفس في ميزان الشرع فإنه لا يجوز إزهاقها إلا عند الضرورة الشرعية المعتبرة، وليس لأي سبب مما قد يحتكم فيه الفرد إلى نظره القاصر ومزاجه المختل وفورة الغضب المطبق.

      فالنفس لا تملك حق التصرف في نفسها بمعزل عن الالتزام بأحكام الشرع وما يحل وما يحرم، والذي على أساسه تحاسب على أفعالها بين يدي الله الخالق المشرع يوم الحساب والجزاء، فإذا تجاوزت ذلك ولم تراعيه ظلمت نفسها وعرضتها لعقاب الخالق الذي له الخلق والأمر، ويلزم الإنسان دائما أخذ إذنه تعالى من خلال شرعه فيما يجب وفيما يحل وما يحرم، لا أن يتصرف في نفسه بحرية مطلقة وكأنه خالق لنفسه.

      إن إدارة النفس وتدبير أحوالها بما يتفق وتوجيهات الشرع وإرشاداته البينة غاية أسمى ومطلب أرقى ديدنه دائما ضمان سعادتها وسلامتها دنيا وأخرى، وهي الأمانة العظمى التي تندرج فيها أفعال الإنسان القلبية والجسمية فوق هذه الأرض، )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا((الأحزاب 72).

      ولذلك اعتبر الفقهاء الحفاظ على النفس أولى الضرورات الخمس، التي هي النفس والدين والعقل والنسل والمال. فأجاز الشرع للإنسان أن ينطق بكلمة الكفر تحت الإكراه ليحافظ على حياته )مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( (النحل 106) فإذا لم يكن لديه استعداد لتعريضها للحتف في سبيل إظهار إيمانه قولا وفعلا، متحديا من يُكرهونه على الكفر، ليريهم من حرصه على الإيمان ما يسخطهم ويخزيهم ويرضي ربه عنه، فيضمن لنفسه درجة الشهادة التي هي حياة العزة في الدنيا والخلد في نعيم الجنة، )وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ  فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( (آل عمران 169 – 170).

      فالتضحية بالنفس في سبيل عقيدة الإيمان أعظم ربح وأكبر فوز لما يترتب عنها من خيري الدنيا والآخرة.

      وفيما دون العقيدة نجد الشرع الحكيم يقدم الحفاظ على النفس أمام الحفاظ على الضرورات الأخرى المال النسل والعقل ، فلو خَير لص شخصا  بين ماله أو حياته فيمكنه التضحية بالمال من أجل الحفاظ على الحياة، ولكن في ذات الوقت يجوز له أن يدافع عن ماله وإذا قتل دونه فهو شهيد، كما يباح  أكل الحرام مطلقا لسد الرمق وإنقاذ النفس من خطر الموت فيجوز سرقة الطعام الكافي لدرء الموت وتناول لحم الخنزير والدم والميتة والخمر، وغير ذلك من المحرمات للحفاظ على النفس، وإذا أكره شخص على ارتكاب معصية أو ترك واجب، جاز في الغالب الانصياع لذلك، كما يجوز الثبات وعدم الإذعان  وإن  أدى للموت كما في الحديث:  “من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد”[1].

      يلاحظ أن مسلك المسلم في هذه الحالات والذي رسمته له تعاليم الإسلام يتسم بالشجاعة والكياسة والتعقل وتحمل المسؤولية بعزم وحزم، فهو يتوفر على مجال الرخصة الشرعية عندما يأنس من نفسه رغبة في الحفاظ على حياته، والاحتفاظ بعقيدته في قرارة قلبه فيربحهما معا، ويتاح أمامه خيار آخر بحسب إمكانياته الذاتية وملابسات الظروف المحيطة بالنازلة، فيؤثر الدفاع عن نفسه والاستعانة بالله على تغيير المنكر ومكافحته، إلى أن يتمكن من صده ورده أو يهلك دون ذلك، وهذا ضرب من الجهاد يؤكد استقواء المسلم بإيمانه بالله، ورفضه الخنوع والخضوع لسطوة جبار أو صولة سلطان، بل يجوز له أن يكون هو الذي يأتي إلى سلطان جائر فيقول له كلمة حق وهو يعلم أنه بذلك يعرض حياته للنهاية المحققة.

     فعن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله  :أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر”[2]. وعن جابر t، عن النبي  قال: « سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله »[3]

      فنفس المؤمن تحيا بالحق وعلى الحق أو تموت من أجل الحق وثورة لكرامة المسلم ودفاعا عن مباديء الدين السامية وغاياته وقيمه العليا، وقياما بمسؤولياته الجسيمة وليس انهزاما أمام واقع فاسد أو إحساسا بظلم عظيم أو انكسارا وتخاذلا في مواجهة مصائب الحياة وقساوة العيش وضيقا بخصاص في ماديات معينة، فعندما ينزلق المرء في هذا المنحدر السحيق فإنه  لا يفضي به إلا إلى الكفر وعذاب الجحيم، ) وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( (يوسف 87)

     وعن جندب بن عبد الله t قال: قال رسول الله: “كان فيمن قبلكم رجل به جرح، فجزع؛ فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات؛ فقال الله: بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة”[4] .

     فلوكان هذا العبد يسعى في خير نفسه حقا لما قصر عزتها وسعادتها في نيل عمل أواسترداد مكتسبات مادية وليس دون ذلك عنده إلا إنهاء الحياة وكأن ذلك يريح من غلوائها ومحنها وهو في حقيقة الأمر كما أخبرنا الله ورسوله انتقال بها من وضع مزري لو صبرت عليه لأمكن تغيره وتفرج كربه، إلى عذاب الإحتراق في نار جهنم خالدا فيها أبدا ! فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله : “من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا”[5]

      ثم إن وجود البشر في هذه الحياة كان لغاية الابتلاء بكل النقائص والمكاره والضوائق فمن واجهها معتمدا شرع الله أنار له السبيل وبدد أمام ناظريه المخارف والصعاب وبدل حاله على افضل ومن تسخط وتضجر حرم نفسه طعم هذه الحياة وطعم الآخرة.قال النبي : “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط”[6] .

عبد السلام الأحمر


[1]  – رواه أبو داود والترمذي وصححه.

[2] –  الترمذي وأبو داوود والنسائي.

[3] – المستدرك على الصحيحين للحاكم

 [4] –  متفق عليه

[5]  – متفق عليه

[6] –   رواه الترمذي وقال: حديث حسن

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.