صوائن فاعلية المؤمن ـ الجزء 2

0

في حوار مع الدكتور زيد بوشعراء

فاعلية المؤمن

المفهوم والصور والعوامل والصوائن

القسم الثالث: صوائن فاعلية المؤمن ـ الجزء 2 

سؤال 25: هذا بالنسبة للصوائن التربوية، وهي الراجعة إلى شخص المؤمن الفاعل، لكن العمل الذي يدبر المؤمن أمره هو ذاته بحاجة إلى صوائن من نوع آخر فكيف ترون ذلك؟

نعم العمل الذي ينشئه المؤمن الفاعل يجب عليه أن يصونه من التوقف والضعف، ويمكن ههنا أن نذكر من الصوائن:

الصائن الأول: لزوم النهج

     كما أن الأخذ بأسباب الفاعلية وشروطها وقواعدها وعموم منهجها الشرعي يحقق الفاعلية ويقويها ويجودها فإن التفريط فيها كليا أو جزئيا يخل بالفاعلية كليا أو جزئيا.

     قد يحدث عندما تتسع معارف المؤمن وتنضج خبرته ويصبح مشهودا له بالحكمة والرأي السديد أن يتساهل في الأخذ بالمنهج الشرعي أو ببعض جوانبه ظنا منه أنه لم يعد محتاجا للتقيد به وأن التمسك به كان ضروريا في مرحلة تأسيس العمل باعتبارها مرحلة حساسة وحاسمة فإذا مر التأسيس بسلام وسارت الأعمال بعده بسلاسة قلت الحاجة إلى الانضباط المنهجي، كما أنه قد يحدث وسط كثافة الأعمال وزحمتها وضغوطها وتلاحقها وتسارع وتيرتها أن يغفل المؤمن كذلك عن بعض شروط نجاح العمل فيسهو عن التبين أو الاستشارة أو الاستخارة في أمر من الأمور فيجني آثار تساهله أو غفلته ويجد مرارتها في عمله وسير فاعليته فتضطره للتوقف أو إيقاف بعض الأنشطة برهة من الزمن من أجل معالجة تلك الآثار وإزالتها فيكون هذا من الله تذكرة له ودعوة للعودة إلى صحيح المنهج، وهذا  إن حدث في بعض الأحيان فإن ضرره على الفاعلية يكون محدودا ومؤقتا.

      لكن التفريط إذا تكرر منه كثيرا يعرض عمله للاضطراب الخطير ويؤذن باضمحلال فاعليته، من هنا ضرورة أن يثبت المؤمن الفاعل، قدر الإمكان، على ما انطلق به من منهج شرعي، ويحرص عليه في كل أحواله، ولا يسمح لنفسه بالتساهل فيه شعاره في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان: “عرفت فالزم”، فإن الصرامة المنهجية عصمة للفاعلية.

الصائن الثاني: تدارك الخلل

     لقد بات مسلما معلوما أن تتبع العمل عن كثب وتقويمه هو أحد صوائنه وشرط من شروط استمرار نجاحه وتطوره، والمؤمن الفاعل إذ يختار للعمل منهجا وبرنامجا ووسائل ورجالا إنما يفعل ذلك عن اجتهاد لا عن نص وكل اجتهاد هو محتمل للخطأ والصواب ووقوع الخطأ فيه أمر عادي مقبول لكن التمادي في الخطأ والغفلة عن أضرار استمراره غير سائغ البتة لأنه قد ينمو ويستفحل وينتشر حتى يأتي على العمل كله، ومعالجة الخطأ إبان ظهوره سهلة ومحو آثاره ميسور ولذلك وجب عليه أن يكون على انتباه دائم ويقف وقفات متقاربة للتقويم  يقارن فيها بين الأهداف المسطرة والنتائج المحصلة، ويتساءل عن سبب  الفرق بينهما، هل هو التساهل في الأخذ بالمنهج أم عدم التوفيق في اختيار المتعاونين، أم عدم تأهيله إياهم، أم تكليفه إياهم بما لا يتناسب مع مؤهلاتهم من الأعمال، أم طروء تدهور في أهلية بعضهم، أم عدم توفير وسائل العمل، أم عدم كفاية الوقت المقدر لإنجاز العمل، أم أسباب أخرى، المهم أنه إذا أجرى التقويم في وقته المناسب وبشروطه فإنه يستطيع تدارك الخلل وإنهاءه وتعديل منهجه وتوفير ما ينبغي توفيره وتأهيل من يحتاج إلى تأهيل، وإعفاء من عيوبه غير قابلة للجبر. وفي ذلك صيانة أيما صيانة لمشروعه وإصلاح لفاعليته ووقاية لها مما تكشفه المراجعة من خلل كان على وشك الوقوع.

الصائن الثالث: التقويم الرباني

      ترشيد العمل يحتاج إلى تقويم مستمر لمن يسهم فيه بشيء غير أن تقويم المؤمن الفاعل لمن معه من الفاعلين إذا لم يكن مطابقا للواقع ولم يصطبغ بالصبغة الربانية فإنه يكون وبالا على الفاعلية الفردية ولأجل ذلك ينبغي أن يصوب المصيب تصويبا يذكره بفضل الله ويشعره بأن الصواب من الله ويبعثه على المزيد من تحرى الصواب وطلب التوفيق منه سبحانه مع تجريد التصويب من الإطراء و الإفراط في المدح لأنه غالبا ما يعود على الممدوح بالعجب أو الكبر أو الفتور وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن أطرى أخاه في المدح “قطعت عنق صاحبك” وفي المقابل ينبغي أن يخطىء المخطئ تخطئة تنبهه برفق على سبب الخطأ من غير تقريع أو تبكيت يؤول به إلى الوهن والشعور بالعجز والإحباط أو يدفعه إلى التوقف.

      على أن التقويم  ينبغي أن لا يقتصر على ذكر السلبيات دون الإيجابيات بل لابد من بيانهما معا مع التغاضي عن الخطأ اليسير وستره وفي ذلك قال سعيد بن المسيب قاعدته الذهبية:” ما من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله”.

وهذا الميزان هو الذي ينبغي أن يعتمد أيضا في تقويم الناس للمؤمن الفاعل قائد المشروع.

الصائن الرابع: ضبط التوسع

      توسع المؤمن في العمل وكسبه مساحات جديدة أمر مطلوب محمود وهو من أبرز مظاهر فاعليته، ولئن كان تزايد استجابة الناس له وإقبالهم عليه، يسبب إخلاصه واعتداله ومؤهلاته، من المنح الربانية التي يؤتيها الله من يشاء من عباده. ولا داعي إلى التحكم فيها فإن نوعا آخر من التوسع في العمل ينبغي ضبطه ومنعه من الانفلات ألا هو ما قد يشرف عليه من العمل ذي الطابع المؤسسي فإن التوسع في هذا النوع من العمل، بما أنه يقع اختياريا، ينبغي أن يحصل بقدر ويكون مدروسا موزونا متناسبا مع قدرته على متابعته وتقويمه وتوفير الدعم له واجدا من هو مؤهل لإجراء هذا التوسع بنجاح، وبعبارة أخرى إنه لا يتوسع في العمل إلا بقدر ما تتهيأ شروط النجاح فيه، وبدون ذلك يصبح التوسع محنة ونقمة وآفة تنال من الفاعلية وتضعفها أو توقف مسيرتها ومصدرا للمشاكل المعقدة المتكاثرة المتناسلة التي تفرض على المؤمن أن يتوقف عندها طويلا ليحلها ويستأصل أسبابها ويمحو آثارها وقد لا يبرح مكانه ويظل يدور في دوامتها بلا طائل وتستعصي عليه معالجتها فيتخبط ويضطرب أمره ويتوقف عطاؤه وينكمش تأثيره وتسوء سمعة عمله.

      وهذا كله ما لم يكن التوسع في مجال ما نموا للعمل يقتضيه النمو الطبيعي للمجتمع أو تغييرا  تقتضيه الضرورة العامة فإن كان للنمو الطبيعي أعد له وسائل  إنجاحه بناء على توقعاته وإن كان لضرورة كان التوسع واجبا شرعا وإن بأشخاص أقل أهلية من المطلوب إذا كانوا أفضل من شاغلي  ذلك المجال المراد دخوله فهذا من تقليل المفاسد وقواعد الشرع الحنيف لا تأباه.

الصائن الخامس: مجانبة القاعدين والسلبيين 

      المؤمن الفاعل إذا كان كثير المجالسة للأصدقاء القاعدين والسلبيين على غير قصد النصح لهم وإصلاح حالهم وحضهم على فعل الخير وإعلاء هممهم فإنه لن يمر عليه وقت طويل حتى يجدهم قد نالوا من فاعليته وفتوا من عضده ونزلوا بهمته وثبطوا عزيمته إذ الإنسان بطبعه يتأثر بمن يتخذه خليلا  ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من جليس السوء معللا ذلك  بقوله: “جليس السوء إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا كريهة” كما أنه إذا كان متساهلا في ملاقاة هؤلاء وأمثالهم ممن لم يقرروا بعد أن تكون لهم رسالة في هذا الوجود فترك ذلك فراغا في حياتهم ويريدون أن يملئوا وقت الفراغ بالكلام الفارغ والعمل الفارغ وبمضمونه في قيل وقال قد آثروا الجدل على العمل، إذا كان متساهلا في الاجتماع بهم أعدوه بمرضهم وأضاعوا من فاعليته وقتا ثمينا وفتحوا له في بنيانها ثقبا عريضا، وقديما قال الأوزاعي:” إذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم باب الجدل ومنعهم العمل” وقال معروف الكرخي:”إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل وأغلق عنه بابا الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرا فتح له باب الجدل وأغلق عنه باب العمل” (اقتضاء العلم العمل): 79/80 ، وذلك يحتم عليه أن يتفاداهم بكل لباقة.     

الصائن السادس: اجتناب طول التوقف

      يحتاج المؤمن الفاعل، مرة بعد مرة، إلى أخذ قسط من الراحة يستعيد بها قوته، غير أن بعض الأعمال لا تحتمل التوقف لأنها إذا توقفت انقطعت مقاصدها وفاتت منافعها وتطلبت العودة إليها البدء من الصفر، وقد تتعذر محاولة إعادة البدء، وبعض الأعمال تحتمل التوقف اليسير فإذا طال التوقف، تعثرت على قدر مدة التوقف فيعقبه قدر من الفتور والارتخاء. ويصبح استئناف النشاط ثقيلا على نفسه واحتاج إلى مجاهدة حقيقية لنفسه قد يوفق فيها وقد لا يوفق.

           وليتأمل قوله تعالى:”فإذا فرغت فانصب”(الشرح 7) فقد قال فيه ابن عباس رضي الله عنه: “فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء” وقال الحسن: “فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة”. ويؤخذ من تفسير الآية أن المؤمن إنما يستريح عند الحاجة إلى الراحة وبقدرها وأنه في ما عدا حال الحاجة إذا فرغ من نوع عمل في يوم ما انتقل إلى نوع آخر كالانتقال من نفع الناس إلى العناية بقلبه أو بأهله أو بذوي الحقوق عليه، وهذا الانتقال نوع من الاستراحة النفسية وإن كان فيه مواصلة لعمل بدني.

الصائن السابع: توريث الفاعلية  

      يرجو كل مؤمن فاعل أن يكون لعمله امتداد من بعده: من بعد انتهاء تكليفه به ممن وسده إليه أو من بعد وفاته فيكون له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة.

      ولا شك أن العمل المؤسس على التقوى من أول يوم والجاري على شروطه الشرعية وسننه الاجتماعية هو عمل يبارك الله فيه ويثبت خيره مدة قيام صاحبه به وعقب تركه إياه وبعد وفاته.. غير أن هذا العمل يتبارك أكثر إذا وفق الله تعالى المؤمن فزاد على ذلك قيامه بانتقاء بعض الناس وتهيئتهم لخلافته في العمل كله فينقل إليهم خبرته بالتعليم والإرشاد والتكوين والتدريب والاستشارة والإنابة، وهو أمر صعب المنال لا يتأتى عادة إلا لقلة قليلة من الناس لكنه جدير بأن يحاوله المؤمن الفاعل فإنه إذا وفق له كان من خير الفاعلين، فإن تعذر عليه إيجاد من يخلفه في كل عمله خلافة كاملة، وهو الغالب، حاول أن يورث إرادة الخير ونفع الغير وخبراته ومهاراته إلى أشخاص متعددين يصطفيهم بحيث يأخذ كل واحد منهم شيئا مما عنده فيتفرق إرثه من الفاعلية فيهم وينتشر مجرء وبذلك لا يدفن سره معه إذا مات ولا يبقى وقفا عليه ولا يكون ما يخلفه آثار عمله فقط بل أيضا عاملون يعملون بعمله. ويكمل هذا النوع من الفاعلية إذا دون المؤمن الفاعل حصيلة خبراته ومنهجه المجرب وجعلها في متناول من يعملون مثل عمله ليكون مرجعا لهم، أو ينشره عبر وسائل الاتصال المتاحة، وبذلك يجعله الله تعالى”للمتقين إماما” ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم”من سن سنة حسنة عمل بها بعده، كان له أجرها بعدها ومثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء”.

 سؤال26: العمل الذي يدبر أمره المؤمن الفاعل ليس معزولا عن محيطه وليس بعيدا عن التأثر به، فما هي في نظركم سبل صيانته من المؤثرات السلبية ؟.

هذه زاوية للنظر مهمة، ويمكن أن نستحضر فيها عددا من الصوائن العملية أذكر منها:

الصائن الأول: ضبط الاستجابة

      جرت العادة أن المرء إذا صار معروفا بنفع ما تزايد إقبال الناس عليه وتكاثرت عليه الطلبات وههنا لابد أن يكون على حذر من الانزلاق والانعطاف:

1– ينزلق المؤمن انزلاقا خطيرا إذا أصابته ضغوط الطلبات بالذهول وأفقدته صوابه وصار يظن أنه بالوعد يمكن أن يكسب ودهم أو يمتص غضبهم أو أنه إذا لم يعدهم بما يريدون سقط من أعينهم وانفضوا من حوله وذهبوا إلى غيره فهو بطروء هذا الظن عنده قد ينحرف عن وجهته الربانية ويورط نفسه في وعد الناس بأشياء لا يستطيع الوفاء بها أصلا، أو الوعد بإنجازها بدرجة من الجودة لا يملك أن يبلغها، أو الوعد بانجازها في مدة هو غير متحقق من كفايتها. وذلك يجعله في نظر الناس مشتملا على خصلة من خصال النفاق ويخدش سمعته ويحط من فاعليته.

      المؤمن الفاعل يحترز من هذه الآفة ويحرص ألا يقع له هذا الوهم ويجعل قاعدته في الوعد أن ينظر قبل وعده الناس بأي شيء هل يملك القدرة على إنجازه أم لا، وهل يمكنه إنجازه بالصورة المطلوبة أم لا، وكم يكفي من الوقت لإنجازه، ثم له أن يعد بعد ذلك أو لا يعد تبعا لما ينتهي إليه تقديره الدقيق ونظره المتأني مع ضرب أجل للإنجاز أبعد قليلا من الوقت المقدر له عادة من باب الحذر والاحتياط، وقد يناسب بعض الطلبات أن يعد فيها ببذل قصارى الجهد وأداء الواجب، وسيحترمه الناس بعد ذلك سواء قال لا أعدكم بشيء، أو وعدهم وأنجز وفق ما وعد. وبدون هذا التقدير وهذا السلوك يتراكم تذمر الناس ويتفاقم سخطهم وتتراجع الفاعلية.

2 – ينعطف المؤمن عن مشروعه أو يتأخر إنجازه لأهدافه إذا كان به استعداد دائم للاستجابة لكل طلب يراه مشروعا ظنا منه أن ذلك من الفاعلية وأن فيه كسبا لقلوب الناس وأنه إذا رفض الاستجابة لبعض الطلبات سيساء به الظن أو يشاع عنه أنه يتهرب من فعل الخير أو يوصم بالعجز والقصور والخذلان. فتسوء سمعته…وهذا مجرد وهم أو خطأ في التقدير ينبغي أن يربأ بنفسه من الوقوع فيه، وذلك أن معرفة عموم الناس أنه لا يقول “لا” سيجعل طلباتهم اللامتناهية تنهال عليه ليلا ونهارا ومن كل حدب وصوب وسيعجز لا محالة عن قضاء حوائجهم وحل مشاكلهم كلها وعن المضي في مشروعه الأصلي وإتمامه في وقته المناسب المرسوم فتتبعثر أوراقه وتنحرف وجهته.

        والحصيف يميز بين الطلبات ويقف منها مواقف مختلفة بحسب طبيعتها وقيمتها ومدى صلتها بعمله الذي ندب له أو انتدب نفسه له، وقديما كره الإمام مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم:

        فمن الطلبات ما ينبغي أن لا يستجيب له إذا صادف اشتغاله بما هو أهم منه.

ومنها ما ينبغي أن يحيل صاحبه على جهات أخرى مختصة هي خير منه في معالجته إذا كان يراه جديرا بالعناية.

      ومنها ما يستجيب له لأن الاستجابة له هي من توابع عمله التي تعززه وتحفظه.

      وبضبط المؤمن لاستجاباته يتمكن من الاسترسال في تحقيق رسالته من غير أن يتقوقع عليها مطلقا أو يينفتح على سواها مطلقا.

       ومثل ذلك يقال في إجابة الدعوات أي عند استدعائه للحضور في المحافل الاجتماعية والعلمية والثقافية والسياسية والإدارية وغيرها مما ليس مشتملا على منكر أو مزكيا للباطل، فمنها ما يستجيب له ومنها ما ينيب عنه غيره ومنها ما لا يستجيب له ولا ينيب وذلك بحسب حكم إجابة الدعوة إذ هي في الشرع درجات فمنها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو جائز، وكذا بحسب تأثيرها في عمله أو رسالته، وهو في ذلك ناظر في تأثير ما يدعى إليه فإن ٍرأى أنه لا يضر عمله الذي هو مشغول به وصادف وقتا مناسبا استجاب وإن رأى أنه ينفعه واستطاع أن يوفق بينهما بطريقة من طرائق التوفيق فعل وإلا ترك الاستجابة ومضى إلى حال سبيله. 

الصائن الثاني: ضبط الاستعانة

      جرت سنة الله أن عمل المؤمن، في وقت من أوقاته، قد يحتاج إلى الآخرين أو يحتاج إليه الآخرون، وهو وقت عصيب يمتحن فيه إيمان المؤمن قائد المشروع ويقينه وصدقه وجديته، مما يوجب عليه أن يبقى على ذكر لهذه السنة وأن يحرص على النجاح في هذا الامتحان بحيث لا يستعجل في ربط علاقات وعقد شراكات حتى يتبين هل الجهات المعنية مرضية القصد والحال أم لا وإذا كانت مرضية القصد والحال فهل التعاون معها مناسب ويحقق مصلحة راجحة أو يدفع مفسدة راجحة أم لا.

      والمؤمن كيس فطن يحمي مشروعه من عواقب أي ارتباط غير مدروس الجدوى أو لا تقتضيه الضرورات العامة.

      وقد يعوز عمله وسائل فيحتاج إلى التمويل فيجده وحينئذ لا بد أن يتبين حال الجهة العارضة للتمويل وسمعتها ومصدر أموالها فإن لم يعلم عليها سوء أو شبهة أو تحفظا معتبرا تعامل معها إذا لم يكن تمويلها مشتملا على شروط مخلة بالمشروع ومقاصده الشرعية، مع الاستفادة منه على وفق ما يجري به العمل.

الصائن الثالث: توقي الإثارة

     دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أنه قد جرت سنة الله في العلاقات الإنسانية أن حسن المعاملة يجلب لصاحبها معاملة مثلها فمن نصر أخاه نصره الله أو قيض له من ينصره ومن ستر مسلما ستره الله ومن يسر على معسر يسر الله عليه ومن أعانه أعانه الله، وأن سنة الله في مقابل ذلك قد جرت أن الإساءة جزاؤها إساءة مثلها فمن خذل أخاه خذله الله، ومن ظلمه سلط الله عليه من يظلمه ومن تتبع عورات الناس تتبع الله عوراته ومن أساء إلى الآخرين بكلامه اغتيابا أو تجريحا أو تشهيرا أو إهانة مثلا عرض نفسه لأن يساء إليه بمثل ذلك ومن فضح أخاه فضحه الله فالناس يحترمون من يحترمهم ويجترئون على من يجترىء عليهم.

      لأجل ذلك كان على المؤمن الفاعل، في خضم إصلاحه وما يعترضه من صعوبات وعوائق وأخطاء مشوشة ومثيرة يرتكبها غيره، أن يملك نفسه عند الغضب ويكف لسانه عن الإساءة ويعالج بالحسنى ما يمكنه معالجته فذلك هو الواجب عليه شرعا وهو مما يحفظ السمعة من أن يساء إليها جزاء وفاقا ويحفظ العمل من أن يفتش فيه عن العيوب ويذاع بها في الناس فإنه ما من عمل إلا وفيه عيوب ولكن الله يستر من يشاء ولا ينبغي للمؤمن أن يفعل ما يكشف مستور عورته.

      والمقصود أن إساءة الناس إليه ينبغي أن لا تكون بسبب إساءته إليهم لأنه في حال كان هو البادئ بالإساءة يكون قد فعل ما لا يجوز فذاق وبال أمره، وليس هذا دعوة إلى ترك النهي عن المنكر فرارا من الإساءة التي قد يتعرض لها الناهي لأن الناهي قد يتعرض للإساءة وإن حلى نهيه بزينة الرفق والحكمة، والناهي في هذه الحال فاعل لما يجب عليه ومتلق لابتلاء ربه.

       وجرت سنة الله أن عمل المؤمن قد يتعرض لمحاولة إنهاء أو تشويش أو تحريف ممن لا يقبله منافسا ولا يحب استمراره، فيكيد له بدهاء ويستفزه لاستدراجه إلى خوض معارك خاسرة أو جانبية والدخول في ردود أفعال مهلكة أو صارفة عن المقصود، والمؤمن نبيه يحصن عمله الرباني من كيد الكائدين وحسد الحاسدين وسفاهة السفهاء وشماتة الأعداء اعتصاما منه بقوله تعالى: “ولا يستخفنك الذين لا يوقنون”.(الوم 60)

الصائن الرابع: حماية الأمل والاعتدال.

     اليأس والغلو من العوارض المحتملة للعمل الجاد ومن العوائق المتوقعة للفاعلية الصحيحة، والمؤمن الفاعل، إذ يعرف حق المعرفة أن ذلك ظاهرة عامة قد تعرض لعمل أي عامل أيا كانت منطلقاته الفكرية، فإنه يجعل من وظائفه الدائمة أن يراقب من حوله من الناس المتأثرين به أو العاملين معه أو غيرهم من أجل ألا يدع ما قد يروج من مفاهيم مغلوطة وما قد يحدث من أحداث سيئة وإخفاقات عادية، وما قد ينشر من أخبار غير دقيقة وتحليلات غير موضوعية تهول من العوائق وتهون من القدرات، وتضخم سوء الواقع وتحجم خيره، أو تحليلات تنحو عكس هذا النحو، ألا يدع شيئا من ذلك ينال من أملهم وإيجابيتهم وعزائمهم واعتدالهم، ويظل يتعهدهم بكل توجيه صحيح  يحمي من اليأس لأن اليأس إذا تمكن من النفس أقعد عن العمل، وصد عن التعاون  على البر والتقوى، ودفع إلى الانسحاب الفعلي أو النفسي من الواقع، ونفث في الروع أن لا جدوى من الجد والاجتهاد وفعل الخير، وجعل أعمال من استمروا في العمل سلوكات عادية لا روح فيها وصورا ليس في طيها إيمان برسالة ولا حرص على مقصد شرعي، وقد يدفع أحيانا إلى سلوك نهج الغلو والتنطع أو ينشىء نفسيات عدوانية.

     وهو قبل ذلك يصون لسانه من الزلل المتسبب في ذلك بحيث  يجتهد أن يخلو خطابه من أي خبر أو تحليل أو نقد يصور الواقع على غير ما هو عليه أو يتضمن إيحاءات باطلة.

      فإذا كان المؤمن الفاعل على هذه الحال مع الناس محتاطا في كلامه ومتعهدا لوعيهم وعزائمهم فإنه يكون صائنا لفاعليتهم التي هي جزء من فاعليته وامتداد لها.

الصائن الخامس: إيثار التطور

      أن ينتقل المؤمن الفاعل من مشروع  ضيق إلى مشروع واسع مبني على الأول وأنفع منه بحيث تتراكم خبراته وتنمو قدراته ويتبارك تأثيره فهذا تطور حسن تقتضيه الظروف الذاتية والموضوعية وله أصل في سيرة سيد الفاعلين محمد صلى الله عليه وسلم فلقد كانت فاعليته الأولى، وهو بمكة، مقتصرة على الدعوة والتزكية والتعليم: “يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحمكة”(الجمعة 2) وكان خلالها يعد نواة الأمة ويؤهلها ويثبتها، لكن فاعليته تطورت لما هاجر إلى المدينة فأصبح يعتني بعموم الناس بواسطة خطبه المنبرية، وقضائه بين المتخاصمين، وإفتائه السائلين، وقيادته للجهاد، وتدبيره للأمور العامة، وكان خلال ذلك وبموازاته يعد النخبة من أمته إعدادا من نوع آخر يؤهلهم لخلافته خلافة راشدة.

      وأن ينتقل المؤمن الفاعل من مشروع معين جربه إلى المشروع الذي يقدر أنه مناسب له وملائم   لقدراته، علما منه أن الأول يوجد من يقوم به بخلاف الثاني، فهذا أيضا شيء مستحسن واستدراك محمود وتطور مطلوب لأن الانتقال إلى العمل الثاني خير من التمادي في عمل قليل المر دودية أو عديمها.

      ولكن أن ينتقل المؤمن الفاعل من مشروع كان يبنيه لبنة لبنة، وهو مرغب فيه شرعا ومناسب لمؤهلاته وأهدافه ذات أولوية ولم يحقق فيه المطلوب بعد، إلى مشروع يدعوه إليه غيره جديد كل الجدة عليه ولا صلة له بقدراته ولا يحقق المصالح الشرعية ذات الأولوية فهذا ما ينبغي أن يحترز منه، وذلك أن المؤمن الفاعل عندما يكسب سمعة طيبة وشخصية قوية ومرنة فإن جهات عدة لابد أن تعمل على استمالته إليها فتبدي له إعجابها به وتزين له الانتقال إليها والمزايا المشتمل عليها، فإذا صادف ذلك فيه حالة جهله قدر نفسه ونسيانه لأهمية مشروعه صادف هوى في النفس وقابليته للاستجابة، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الله يحفظه ويحفظ عمله ويزكيه.

      والمؤمن ههنا يستحضر أن تركه لخبرة كسبها أو عمل بدأه يلحقه بمن قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:”من ترك الرمي بعدما علمه، رغبة عنه، فإنها نعمة كفرها” كما يستحضر أنه معني بقوله تعالى:”ولا تبطلوا أعمالكم”(سورة محمد 33)، ولذلك كان المؤمن الفاعل حريصا على التطور محترزا من التحول.

      هذا ولا يخفى على الحصيف أن الموضوع قابل لتفصيل أكبر وأن في تدبير الأعمال خبرات علمية راكمها العقل البشري، وما على المستزيد والمستفصل إلا مراجعة المكتبة المعاصرة فإنها حافلة بحصيلتها، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

سؤال27:ورد في أسئلة بعض الإخوة المعلقين سؤال حول الفاعلية الفردية والفاعلية المؤسسية هل يمكن أن تتعارضا أو تعيق إحداهما الأخرى؟

      يمكن تصور التأثير المتبادل بين الفاعليتين تبعا لعدد فاعليات المؤمن وهل هي متصلة أو منفصل بعضها عن بعض:

1 – الفاعلية الفردية الجارية داخل عمل مؤسسي هي كسب للمؤسسة وربح إذا كان كل من الفاعلية والمؤسسة منضبطا بالضوابط الشرعية والقانونية.

      المؤمن إذا كان رئيسا لمؤسسة، وكان ذا أهلية وفاعلية، فإنه يجعلها مؤسسة نشطة وينمي مساحات وجودها في المجتمع ويوسع من دائرة تأثيرها لاسيما إذا عمل على تفعيل مواردها البشرية وفق ما يناسب المؤهلات الخاصة لكل واحد منها ووفق ما في الاسلام من أسباب تنشىء الفاعلية وشروط تحققها وعواصم تحفظها.

      والمؤمن إذا كان عنصرا عاديا من عناصر المؤسسة وكان فاعلا فإن فاعليته تنتقل منه إلى زملائه في العمل، على سبيل الاقتداء، إذا كان حريصا على انتقالها إليهم، وكان مقبولا لديهم حكيما متواضعا لا يحقر القاعدين ولا يوبخهم ولا يلمزهم ولا يفتخر عليهم بما يصنع ولا يباهيهم بعمله ولا يفعل ما ينفرهم.

      لكن الفاعلية الفردية قد تعود بالوبال على الفاعلية المؤسسية في حالات:

      فإذا كانت المؤسسة غير مشكلة تشكيلا مناسبا وصحيحا وغير مؤهلة لتدبير أمورها، ورئيسها غير مؤهل لقيادتها بسبب خلل في شخصيته، مثل العجلة والخفة والإعجاب بالرأي وعدم قبول النصح وإساءة الظن بالناصحين والمخالفين وترك الاستشارة والاستخارة وترك سائر عوامل الفاعلية وصوائنها، فإنه ما يلبث أن يجر المؤسسة إلى التصدع، أو الإفلاس، أو الدخول في معارك غير محسوبة العواقب أو التورط في منافسات مهلكة أو منهكة، أو التحول عن الوجهة التي ارتضتها المؤسسة ابتداء أو الغاية التي رسمتها لها الأمة أصلا.

      كما أنه إذا كان يعتبر نفسه محور كل شيء في المؤسسة ولا يفوض شيئا من مصالحها ويعتقد أن على مواردها البشرية أن تكون مجرد أدوات للتنفيذ لا أصحاب رأي أو مبادرة فإن ذلك يؤول إلى تعطيل طاقاتهم الكامنة وفاعلياتهم الممكنة فتتلون المؤسسة بألوانه المتغيرة، وتتحول كلما تحول وتدور حيث دار: تنشط بنشاطه وتفتر بفتوره، وتقوى بقوته وتضعف بضعفه، وتصح بصحته وتمرض بمرضه، وتصلح بصلاحه وتفسه بفساده، وتثبت بثباته وتضطرب باضطرابه، وتتوقف بتقوفه وتموت بغيابه عند موته أو إعفائه أو استعفائه.

2 – فاعلية المؤسسة تعود على الفاعلية الفردية بخير كثير إذا كانت المؤسسة تملك القدرة على اكتشاف خصائص أفرادها واستثمار مواهبهم، لكنها تعود عليها بالضرر البالغ في حالات:

      تتضرر الفاعلية الفردية بالفاعلية المؤسسية إذا كانت المؤسسة عاجزة عن معرفة أفرادها حق المعرفة وتنمية قدراتهم الذاتية حق التنمية، ولم تصطلح في نظامها الداخلي على ما ينبغي اتباعه لتوليد الفاعلية الفردية إذ حالئذ تنمو في أفرادها فاعلية التنفيذ وتتضخم لكن فاعلية المبادرة تضمر فيهم وتتجمد فتخسر المؤسسة نسبة كبيرة من طاقاتها المتاحة وكما يقول المثل عندنا “خسرك من لم يعرفك”.

     وتتضرر الفاعلية الفردية بها أيضا إذا كانت المؤسسة تستعمل أفرادها في فاعليات هي دون قدراتهم الحقيقية فتسند إلى الفرد الواحد من المهام ما لا يتطلب إلا نسبة ضئيلة من قوته أو تسند إلى مجموعة منهم ما يمكن أن يقوم به الفرد الواحد.

     وتتضرر الفاعلية الفردية إذا كانت المؤسسة تستعمل بعض أفرادها المتميزين فيما هو فوق طاقتهم من الأعمال وتسرف في ذلك إلى درجة التسبب في إجهادهم وإنهاكهم والنزول بجودة إنجازهم.

     وتتضرر الفاعلية الفردية أيضا إذا كانت المؤسسة تستعجل في حق من أظهروا كفاءات متميزة واستعدادات عجيبة فتحرق بهم المراحل وتسند إليهم، بدون تدرج، مهام خطيرة القدر لم ينضجوا بعد لتحملها والنجاح فيها فيخفقون ثم يحترقون.

     وتتضرر الفاعلية الفردية أيضا إذا كانت المؤسسة تستعمل بعض أفرادها في أنواع من الفاعليات غير المناسبة لمؤهلاتهم ولا تستعملهم فيما هم مؤهلون للنجاح فيه.

      وتتضرر الفاعلية الفردية أيضا إذا كانت المؤسسة تحسن استثمار مواهب أفرادها ولكنها لا تحسن صيانتها وتعهدها عاجزة عن متابعة أحوالهم ومعالجة ما يحصل لديهم من تحولات فتصيبهم بعض الأدواء التي قد تصيب بعض العاملين ذوي المناعة الضعيفة وقد تنمو فيهم حتى تنتكس بهم.

      وتتضرر الفاعلية الفردية أيضا إذا كانت المؤسسة الفاعلة غير محسنة لعملية تقويم أعمال أفرادها، وهي عملية حد مهمة وبالغة الحساسية، ، فلا تعتمد معايير التقويم التي تلزم بها المؤسسات المعاصرة مثل معيار القيام بالتكاليف ومعيار المردودية ومعيار القدرة على المبادرة والإبداع ومعيار أهلية التدبير والتنظيم ومعيار احترام مقتضيات العقد، وقد تعتمد هذه المعايير أو غيرها لكن قد لا تستتثمر نتائجها في معالجة نقص الفاعلية عن طريق التكوين والتدريب أو تغيير المهمة وما إلى ذلك وقد لا تحسن التقويم من جهة أخرى وهي أن تطري في مدح الناجحين منهم حتى تقصم ظهورهم وتأفل نجومهم، وتسيء العتب على المتعثرين والمخطئين والكسالى حتى تورثهم الشعور بالإحباط والعجز وتصبح الأخطاء معاول لكسر الطموح الفردي واغتيال الفاعلية الفردية بدل أن تكون أسبابا للتعلم والارتقاء فإن من سنن التعلم “المحاولة والخطأ” وقد قيل: “من الأخطاء يتعلم الإنسان”.

3- قد تكون للمؤمن فاعليات متعددة: فاعلية فردية خارج نطاق أي عمل مؤسسي، وفاعلية فردية داخل نطاق عمل مؤسسي مهني، وفاعلية فردية في إطار عمل مؤسسي تطوعي.

      وهذه الفاعليات المتنوعة والمتوازية قد تكون خيرا ويحصل بالجمع بينها تكامل النفع الصادر من المؤمن وذلك إذا كان قادرا عليها جميعا وحريصا على إقامة التوازن بينها بحيث يعطي لكل عمل حقه بلا وكس ولاشطط ولا إفراط ولا تفريط، نعم لن يستطيع أن يعدل بينها ولو حرص ولكن عليه ألا يميل كل الميل وعليه أن يسدد ويقارب فإن فعل ذلك رجي له النجاح وإلا تعثرت بعض فاعلياته وصار بعضها بعيق بعضا أو يفسد بعضها بعضا.

      وتوضيح ذلك أن الفاعلية الفردية التي هي خارج دائرة العمل المؤسسي إذا بلغ فيها المؤمن حد الإسراف بحيث يسهر لياليه من أجلها دائما أو كثيرا فإن ذلك يؤدي إلى إنهاكه وإضعاف قوته التي تحتاج إليها كل فاعلياته عموما وفاعليته داخل العمل المؤسسي خصوصا ويفضي إلى الخفض من زمن نشاطه المؤسسي، وكذلك إذا صار يتمم أعمال فاعليته الفردية في وقت عمله المؤسسي المهني مثلا.

      وأما الفاعلية الفردية التي يباشرها في إطار المؤسسة المهنية فإذا كانت في حدود  إتقان العمل وإحسانه داخل زمن العمل المتعاقد عليه  فهي خير كلها ولا تعيق الفاعلية الفردية التي يباشرها خارج زمن المهنة، لكنها إذا تطلبت جهدا إضافيا ووقتا زائدا فإن هذه الزيادات يمكن أن تكون خيرا كما يمكن  أن تكون ضررا، وذلك بحسب طبيعة العمل المهني وقيمته…فإذا  كان  العمل المؤسسي في ذاته مهما جدا يحدث إصلاحا معتبرا ويسن السنن الحسنة الكبيرة ويفتح أبواب لخير عميم أو يسد أبوابا لشر كثير فإنه تكون له الأولوية ويكون مستحقا لأن يتفرغ له المؤمن أو يغلبه  على غيره من فاعلياته الأخرى ويؤجل منها ما يقبل التأجيل ويقلص منها ما يمكن تقليصه. وإذا كان العمل من النوع الذي تتوقع له عوائد مهمة على الحياة العامة مستقبلا وكان اكتساب الفرد فيها للخبرة أو للثروة يهيئه لأن يصبح فاعلا عاما: فاعلا تربويا أو إعلاميا أو اقتصاديا…فهذا يسوغ له أن يجعل عمله المهني هذا مغلبا على الفاعلية الفردية التي تتم خارج نطاق العمل المؤسسي.

      وأما إذا كان الدافع إلى إعطاء مزيد جهد ووقت للعمل المهني هو طلب مزيد رزق لا تدعو إليه ضرورة المعيشة ولا حاجتها بل هو فضل رزق معدود محدود لا تتكون بتراكمه ثروة يتمكن بها من إنجاز أعمال نافعة ذات بال… إذا كان التوسع في النشاط المهني كذلك فإنه يضيق على الفاعليات الفردية الأخرى للمؤمن بل قد يعيقها من غير حاجة ماسة ولا مرجح معتبر.

      أما الفاعلية الفردية في إطار العمل المؤسسي التطوعي فإذا كانت ملائمة لقدراته، ولا تستغني عنها المؤسسة، وكانت تجري بوتيرة معتدلة، وكان الجمع بينها وبين سائر الفاعليات ممكنا، ولو بوجه من الوجوه، فإن الجمع هو الأولى لما تقرر شرعا وعقلا أن “الجمع أولى من الترجيح” فإن تعذر عليه الجمع لجأ إلى الترجيح أي ترجيح الفاعلية الراجحة التي يتحقق بها “واجب الوقت” على سواها ترجيحا مؤقتا أو دائما.

       إن إعاقة بعض فاعليات المؤمن لبعض أو تعارضها أمر وارد وليس هو المشكل لكن المشكل والذي لا يجوز أن لا يحاول الجمع بينها مع إمكانه أو يجمع بينها بطريقة غير مجدية على غرار ما يقول المثل عندنا:”سبع صنائع والرزق ضائع” أو يعمد إلى تقديم المرجوح منها على الراجح إو إهمال واجب الوقت.

سؤال28:جاء ضمن تعليق إحدى السيدات المتابعات لهذا الحوار أن بركة أولياء الله ومحبتهم ودعاءهم مما يعزز فاعلية المؤمن، غير أن السعي في طلب ذلك قد يؤدي إلى إساءة الفهم والعمل، وطلبت التطرق لرفع الإشكال الديني الوارد في الموضوع؟

 لم أكن في هذا الحوار أقصد القيام باستقراء تام للعوامل ولا للصوائن ولا التفصيل فيها أكثر مما أشرت إليه، ولكن السؤال المطروح يجرني إلى التوسع في صائن “حفظ التقوى” فأقول:

      إن تقوى المؤمن لربه وحفظه لحدوده وأوامره ونواهيه واجتهاده في التقرب إليه يضمن له أن يحفظه الله في دينه وخلقه، وفي صحته وعقله، وفي أسرته وماله، وفي قوته وفاعليته وسائر نعمه عليه، وأن يحفظه من شر الأشرار وحسد الحاسدين ومكر الماكرين، يدل على ذلك وعد الله للمتقين بذلك”واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين” فمن كان الله معه كان معه الحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل والفئة التي لا تغلب، كما قال قتادة، ويدل عليه قوله: “واتقوا الله لعلكم ترحمون” والحفظ من السوء هو إحدى معاني الرحمة الثلاث في القرآن الكريم، وهذه قاعدة لخصها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: “احفظ الله يحفظك”.

      على أن تحت هذه القاعدة تفصيل شرعي لما يحفظ الله به المؤمن وفاعليته ومقوماتها وآثارها ومكتسباتها أذكر منها الآن عشرة أخرى:

      فمنها، إضافة إلى كثير مما سبق ذكره من عوامل الفاعلية وصوائنها، الفقه في الدين فإن الله تعالى يقول:” اتقوا الله ويعلمكم الله”(البقرة 282) والفقه في الدين ناتج عن تقوى الله  عاصم من قواصم الهوى فإن الهوى يضل عن سبيل الله ويميل بصاحبه عن اعتدال الإسلام إفراطا أو تفريطا ويزين له سوء  العمل أما المتفقه في دينه فهو على بينة من ربه ويبقى مهديا معتدلا بصيرا قال الله تعالى: “أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم”(محمد 14)ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”.

      ومنها التوكل على الله فإن الله يقي المتوكلين عليه حق التوكل من السوء الذي يدبره لهم أعداؤهم قال الله تعالى: “الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل ولم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله”(آل عمران 173 ـ 174)

      ومنها ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من سلوك يضبط به المؤمن نفسه عند الغضب ويحفظه، من ثم، من أن تصدر منه ردود أفعال سيئة تصدر عادة ممن لا يملك نفسه عند الغضب ويجعله عرضة للاحتقار لدى الناس وتعرض مكتسباته للضرر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا غضب أحدكم فليسكت” وقوله: “إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله سكن غضبه” وقوله: “إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب الغضب عنه وإلا فليضطجع”(انظر صحيح الجامع الصغير).

 ومنها كل ذكر ودعاء يدرأ المفسدة ويصرف السوء من قراءة المعوذتين، والاستخارة، وكثرة الدعاء في الرخاء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من سره  أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء” وكدا دعاء حفظ النعمة وهو أن يقول عند رؤيته لما يعجبه من نعم الله عليه:” ما شاء الله لا قوة إلا بالله” وذلك لما حكاه الله من حوار الرجلين:” ولولا إذ دخلت جنتك قلت ماشاء الله لاقوة إلا بالله “(الكهف 39) وما إلى ذلك…  

      ومنها بر الوالدين فإنه يضمن لولدهما المؤمن الفاعل أن يحفظه الله ويحفظ عمله بدعائهما المستجاب لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاء الوالد لولده مستجاب “ويحفظه من أن يدعوا عليه وقد قال الرسول صلى الله عليه سلم أيضا: “دعاء الوالد على ولده  مستجاب”.

      ومنها إيتاء الزكاة وصلة الرحم فإنهما يحفظان ماله الذي هو قوام عيشه وفاعليته وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة” وقال:”ما خالطت الزكاة مالا إلا أفسدته” بل إنهما يزيدان من المال ولا يحفظانه فقط إذ الزكاة سميت كذلك لأنها نماء لشخصية المعطي ونماء لماله والله يقول: “يمحق الله الربا ويربى الصدقات” وهي شكر لأنعم الله والله يقول:”لئن شكرتم لأزيدنكم” وأما صلة الرحم بكل معانيها، ومنها معنى الإنفاق على المحتاجين من أولي الأرحام، فتنمي  مال فاعلها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه”.

      ومنها اصطناع المعروف فإنه يحفظ المؤمن لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “عليكم باصطناع المعروف فإنه يمنع مصارع السوء”

      ومنها ما يكتبه الله للمؤمن الفاعل الصالح من محبة في قلوب المؤمنين والملائكة وما يتبع هذه المحبة من دعاء له بالتوفيق والحفظ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب لا يرد” وقال:”دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وملك عند رأسه يقول آمين ولك بمثل ذلك”، واضح من الحديثين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربط استجابة الدعاء بالأخوة الإيمانية (دعاء المرء لأخيه) وهي صفة عامة يدخل فيها كل الإخوة المؤمنين وتدور معها الاستجابة وجودا وعدما، ولم يخصصها النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فلم يعلق الاستجابة بالمؤمنين ذوي المقامات الربانية الرفيعة، ولا علقها بأشخاص معينين بحيث لا يتحقق المطلوب إلا بالبحث عنهم أو شد الرحال إليهم وسؤالهم الدعاء.

       ولا يعارض هذا ما جاء في صحيح مسلم من أن أويسا القرني “سيد التابعين” كان مستجاب الدعاء وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيأتي المدينة وقال لعمر بن الخطاب “فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل” ففعل ذلك عمر فسأله أن يستغفر له عندما قدم المدينة … فإنما في هذا الحديث دلالة على شخص مؤمن واحد من بين عموم من تستجاب دعوتهم،وإن كان من خيارهم، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان برا بوالدته إشارة إلى علة استجابة الله لدعائه ، ولكن ليس في هذا الحديث تخصيص لعموم الحديثين السابقين وليس فيه نفي استجابة الدعاء عن سوى أويس، وإنما يتصور إمكان التخصيص لو أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط الاستجابة بأشخاص معينين يظهرون في كل زمان ومكان وذكر للمسلمين أوصافهم أو أسماءهم وحثهم عل قصدهم وجعل الاستجابة رهنا على دعائهم ولكن ذلك لم يصدر من النبي صلى الله عليه فيبقى النص الأول العام على عمومه.

       نعم يجوز للمؤمن أن يتحرى أكمل المؤمنين إيمانا وأتقاهم لله تعالى ويطلب منه أن يدعو له كما قيل:”ادع الله باللسان الذي لم تعصه به” لكن بشرط ألا يعتقد أن ذلك شرط في الاستجابة وألا يعتقد في صالحي المؤمنين اعتقادات لا أصل لها في دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل لاستجابة الدعاء شروطا تتحقق بها وهي شروط ظاهرة وعامة مقدورة لكل المؤمنين وليست شروطا خفية أو خاصة لا يقدر عليها إلا البعض. ولقد كان بعض الناس يسألون عمر بن الخطاب الدعاء فيرد عليهم “لست بنبي” لا على أنه يمنع دعاء الأخ لأخيه ولا على أنه لا يعتقد استجابة الله دعاء الأخ لأخيه،  وكيف يظن به ذلك وهو أعلم الناس بسنة النبي صلى الله عليه وهو الذي سأل أويسا أن يستغفر له، لكنه بثاقب نظره وصادق فراسته وجد أن بعض الناس ربما بدؤوا يعظمونه أكثر من اللازم فخاف أن يغلوا فيه وخشي عليهم الفتنة في الدين، وذلك على طريقته رضي الله عنه في سد ذرائع الغلو وهذا الموقف هو الذي ناسب أن يقفه معهم بصفته إمام الناس وقدوتهم ومعلمهم، أما أويس القرني فإنه لما وجد أن الناس صاروا يقصدونه للدعاء لما نزل بالكوفة خرج منها، على حين غفلة من أهلها، إلى وجهة غير معلومة أو “انطلق على وجهه” كما قالت الرواية خشية أن يكون فاتنا للناس أو مفتونا بهم وذلك شأن المؤمنين يصونون نعمة الله من أن ترجع بالضرر عليهم أو على المؤمنين.  

      ومنها ما يكتبه من الستر للمؤمن إذا هو ستر أخاه ولم يفضحه بعد أن ينصحه طبعا وينهاه وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة”  

      ومنها دفاع الله عن المؤمن الفاعل إذا دافع عن أخيه بالحق في موطن يحتاج فيه إلى الدفاع وهو ما يشمله قوله صلى الله عليه وسلم: “من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة”.

       سؤال29: جاء في تعليقات متابعي هذا الحوار سؤال حول غياب الفاعلية لدى كثير من المنتسبين إلى العلم، وطلب الأخ السائل تفسيرا لذلك.

      بالعلم والعلماء صنع الله هذه الأمة وأخرجها للناس، وبالعلم والعلماء جدد الله أمر هذا الدين في كل قرن بعد ذلك وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة خالدة.

        لا يتمارى اثنان أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بدين الله وأدراهم بواقع الناس وأنه كان بعلمه الواسع مؤسس الأمة وقائدها أسسها عندما وظف ما آتاه الله من العلم فيما مارسه من الدعوة والتزكية والتعليم والإفتاء والقضاء والجهاد والإمامة العظمى فكان العالم الأول الذي طبق علمه على شؤون الحياة العامة والخاصة وكان ما أورثه الأمة من علم علما واقعيا نافعا مباركا.

       وكان النبي صلى الله عليه وسلم مع فاعليته العظمى ينشىء الفاعلية في أصحابه الكرام، رضي الله عنهم، ويؤهلهم لخلافته في الفاعلية.

       وقد خلفه علماء الصحابة كلهم في فاعليته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الفاعلية التي مدحهم الله بها وجعلهم بها خير أمة أخرجت للناس، وخلفوه في سائر الفاعليات، على تفاوت بينهم، خلافة كلية وخلافة جزئية، خلفه الخلفاء الراشدون المهديون خلافة كلية في فاعليات الدعوة والتزكية والتعليم والإفتاء والقضاء والجهاد والإمامة، وجمع الله فيهم كونهم أعلم أمة محمد بعده وأنهم ولاة أمورها مما جعل علمهم حيا لا نظريا وباركه الله بما طبقوه في شؤون الحياة.

       وخلف الرسول، صلى الله عليه وسلم، سائر الصحابة، أي فيما سوى الإمامة العظمى من المهمات، وكانوا في فاعليتهم درجات، بحسب مؤهلاتهم المتفاوتة، وتبعهم في ذلك بإحسان التابعون وأتباع التابعين فكانوا في الفاعلية خير القرون كما أنبأ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

       واستمرت الأمة قرونا، بعد القرون الثلاث تلك، تعتني بالعلم والعلماء، وتهيىء له ولهم شروط الفاعلية: تدفع أرحامها إلى ميدان العلم الشرعي البنين والبنات وتساعدهم على النبوغ وتمزج التعليم بالتزكية وتجمع بين تغذية العقول وتغذية القلوب، وتخرج من ثم العلماء النجباء الربانيين الفاعلين وتمكن لهم وتستعملهم في مصالحها وترجع إليهم في شؤونها وترفع مقامهم وتضع نفسها رهن إشارتهم، فكان منهم المجددون الذين جددوا أمر الدين وأحيوا علمه ونفوا عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وكان منهم فاعلون دون ذلك كل في المجال المستطاع له المناسب لأهليته المتاح في زمانه ومكانه إلا أنهم اشتركوا جميعا كل بإسهامه الخاص في حفظ دين الأمة واستمراره وإشعاعه وفي حفظ وحدة الأمة واستقلالها وسيادتها على أرضها .. لسان حالهم جميعا يقول: أمتي أمتي.

       غير أن الأمة صارت بعد القرون الثلاثة الأولى تخرج أيضا، في مقابل هؤلاء العلماء الأخيار، علماء طلبوا علم دينهم لمنفعة دنياهم واستعملوه لنيل المال أو الجاه واندمجوا في مجتمعاتهم لا لأجلها ولكن لأجل أنفسهم…لسان حال كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي، وصارت الأمة تخرج أيضا علماء اعتزلوا الحياة العامة وترهبنوا واحتفظوا بعلمهم لأنفسهم وتركوا مجتمعاتهم تسير بدون توجيه منهم، واتبعت هاتان الطائفتان من العلماء، المستغلون للعلم والمعطلون له، طريق الأحبار والرهبان فأساءوا إلى دين الإسلام وأمته، لكن الأمة بما زودها به نبيها من معايير التقويم، وبما حصنها به من أخبار وتوجيهات تتعلق بما يحصل فيها من تدهور وإتباع لسنن من كان قبلها، وبما يسر الله لها من استمرار تخريج العلماء الربانيين الفاعلين، كانت قادرة على التمييز، إذ بضدها تتميز الأشياء، وكانت قادرة على مقاومة إساءاتهم للدين، والاحتراز من تأويلهم الفاسد، والتحفظ منهم وعدم تسليم الزمام إليهم.

       المقصود أن العلماء في هذه المرحلة صاروا فريقين: علماء الآخرة الذين كانوا امتدادا لعلماء السلف الصالح، وعلماء دون ذلك ممن كانوا بدون فاعلية أو كانت لهم فاعلية معاكسة يسبحون ضد التيار ويغردون خارج السرب.

       هذا الوضع الجديد الذي صار إليه العلماء والمركب من ثلاثة عناصر هي الفاعلية واللافاعلية والفاعلية المعاكسة هو وضع مستمر في الأمة إلى اليوم ولا يتوقع له أن ينقطع أو يرتفع، لكن نسب كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة قابلة للتحول بالزيادة أو النقصان وبعبارة أخرى إن الزيادة في نسبة الفاعلين من العلماء ونسبة الفاعلية في العلم أمر ممكن.

       وبيان ذلك أن وجود عدد من العلماء الفاعلين اليوم  أمر راجع إلى تدبير الله وليس نتيجة مقصودة للأمة وصلت إليها بواسطة مقدمات تربوية باشرتها أو أسباب أخذت بها بقصد تخريج علماء فاعلين، بل أصل فاعلية هؤلاء العلماء أن الأمة آتتهم من علمها الموروث نصيبا صاروا به علماء، لكنهم إنما صاروا علماء فاعلين بسبب ما قدر الله لكل واحد منهم من عوامل الفاعلية أي  بما قذف الله في قلوبهم من الإيمان باليوم الآخر، من حيث هو دافع ووازع وقوة إبصار، فاعتقدوا جازمين أن نهضة أمتهم متوقفة على الإسلام وأن الإسلام محتاج إلى علمائه العاملين لأنه لا يعمل عمله في الأمة إلا بواسطة من يحمله ويعمل به ويعمله، وأنه في ذلك:

كالسيف يزهى بجوهره………وليس يعمل إلا في يدي بطل

كما قال الطغرائي

       ثم ذهبوا بجهودهم الذاتية المسددة من الله تعالى إلى كسب أهلية التأثير وأسباب الفاعلية، وبعضهم قلبهم الله في أعمال ذات صبغة عامة أكسبتهم خبرة بالناس وفقها للواقع فصار لعلمهم مذاق طيب عذب تعليمهم نافع وفتاواهم مناسبة ودعوتهم مقنعة ومواقفهم حكيمة وقراراتهم سديدة .. لأنهم تمسكوا بعوامل الفاعلية فنزلوا ما يعلمون من الدين على ما يخبرون من الواقع وذلك من أسرار العلم الشرعي الذي تميز به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم.

       وسيبقى هذا التدبير من الله للأمة الخالدة والإسلام العظيم، لكن الأمة اليوم بعلمائها العاملين وأسرها الصالحة ومؤسساتها الرشيدة تستطيع أن تجدد فاعلية العلماء وتزيد في منسوبها وذلك إذا اتبعت الأسباب، وأهم الأسباب:

السبب الأول:

       أن تصوغ برامج تخريج العلماء صياغة تحيى سنة النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة العلماء وهي التي لخصها الله تعالى في قوله: “يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة” أي اعتماد:

تزكية أنفس طلاب العلم الشرعي، بما تعنيه التزكية من تطهير وتنمية، أي تطهير قلوبهم وتنمية إيمانهم بالله واليوم الآخر، والرفع من هممهم وأشواقهم وتطوير قدراتهم النفسية والفكرية.

تعليمهم الحكمة بما تعنيه من التدريب على تنزيل مقتضيات علمهم على مفردات واقعهم تنزيلا صحيحا مفضيا إلى تحقيق مقاصد الشرع في مجال الفكر والتبليغ والتربية والإفتاء والتعليم والحوار والقضاء والتأليف وسائر مناشط الفاعلية.

     هذا كله طبعا بجانب تعلم العلوم من حيث هي معلومات وقواعد ومناهج، لكن اعتماد مجرد شحن الأذهان بالمعارف ومجرد الحفظ لا ينشىء فاعلية وقد ينشىء ما يضادها.

     ولقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم العلماء الذين هم مجرد أوعية للعلم بالأرض الأجادب التي تمسك الماء ولا تنبت شيئا فقال “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس شربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به”.

       إن العالم الذي هو مجرد وعاء للعلم ممن لم يؤت تزكية ولا حكمة قد يضر أقواما وينفع آخرين ويضر أحيانا وينفع أخرى إلا أن ضرره أكثر من نفعه، لأن علمه علم راكد ونفعه عند حصوله كنفع الماء الراكد الذي تمسكه الأرض الأجادب ولا يستفيدون منه الثمرات التي تنتج عن تشرب طالب العلم لعلمه وعمله به وتوظيفه إياه مثل الثمرات التي يستفيدها الناس من الأرض النقية التي تقبل الماء.

       والعالم الذي هو مجرد وعاء للعلم إنما يلجأ الناس إليه اضطرارا عند فقد العالم الرباني تماما كما يضطر الناس إلى الماء الراكد  الذي تمسكه الأجادب عند فقد الماء العذب.

       إنه لا يمكن أن يكون عالما فاعلا الفاعلية المرجوة شرعا من كان واسع المعرفة ودقيقها وفصيح اللسان وطليقه إذا كان مريض القلب فاسد السلوك رديء القصد يرجو بعلمه دنيا الناس ولا يعمل بما يعلم ولا يأتمر بما يأمر به ولا ينتهي عما ينهى عنه.

       ولا يمكن أن يكون عالما فاعلا الفاعلية المرجوة شرعا من كان بحرا للعلم سليم القلب متقيا وعاملا إذا كان عاجزا عن التأثير في الناس وتوصيل ما يعلمه ويؤمن به إليهم.

       ولا يمكن أن يكون عالما فاعلا الفاعلية المرجوة شرعا من كان عالما صالحا ربانيا حسن التواصل إذا كان علمه بالدين غير مشفوع بعلم الواقع وثقافة العصر.

       لابد إذن لأجل تخريج علماء فاعلين من العناية بقلوب طلاب العلم وعقولهم وألسنتهم واعتماد أسباب الفاعلية وشروطها وما يحفظها وينميها.

السبب الثاني:

       أن يتولى عملية تخريج العلماء – إشرافا وتدبيرا وتعليما- فئة من أهل العلم الذين هم قدوة صالحة حكيمة مؤمنة برسالتها الحضارية ومتصورة حق التصور لطراز العالم الشرعي الذي يحتاج إليه الإسلام في هذا الزمان وحريصة كل الحرص على تحقيق رجاء هذه الأمة.

السبب الثالث:

       أن تعمل على اصطفاء النجباء واستقطابهم إلى رحاب علوم الإسلام وانتقاء فضلاء طالبي هذه العلوم واستبعاد ناقصي الذكاء وكل من أنبأت سيرته عن سوء سريرته.

السبب الرابع:

       أن تعمل الأسر المؤمنة الصالحة، بحسب الإمكان، على أن تنذر للرحمن بعض أولادها النجباء الأذكياء ليكونوا من أهل العلم وتوطن نفسها على تهيئة أسباب بلوغهم المراتب العليا في ذلك، وتتخلص من عقدتي الخوف والحرج: الخوف من مستقبل أولادهم المهني في حال تخصصوا في العلم الشرعي والحرج من كلام الناس، وذلك أن الأسرة المتدينة هي محضن صالح للتربية الصالحة وهي المصدر المهم  لإمداد الأمة بمن هم “مشاريع علماء” فلقد كان لتدين الأسرة ورغبة الوالدين الأثر الكبير في ظهور العلماء الربانيين الفاعلين في تاريخ هذه الأمة كما تشهد بذلك تراجمهم وسيرهم.

السبب الخامس:

       أن تعتني الأمة بعلمائها اعتناء خاصا فتتخذهم مراجع لها في كل ما أمر الله أن يكونوا مراجع فيه وتنتفع بما آتاهم الله من علم  الانتفاع الأقصى  وتيسر سبل تحقيق ذلك.

 

التعليقات

#1يوسف فاوزي2014-01-19 20:44

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أستاذي الفاضل الأجل، الدكتور زيد بوشعرا حفظه الله ورعاه، أشكركم على إفاداتكم المتوالية، وآخرها هذه الإجابات عن أسئلة فاعلية المؤمن، التي نحن بأمس الحاجة إليها إذا أردنا حقا خدمة هذا الدين، ولي أستاذي الكريم -إن أذنتم- إضافة، وهي من باب المذاكرة بين الطالب وشيخه، فما أنا إلا طويلب علم أسأله سبحانه العفو والصفح:
1- لا شك أن قراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم-قراءة تأدب- تعطي للمؤمن الفاعلية المرجوة، فهو عليه الصلاة والسلام (على خلق عظيم)، وسيرته التي هي تاريخ دعوة ربانية نبراس للمؤمن الفطن، وقد دعانا سبحانه لهذا فقال: (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة).
2- عند حديثكم عن الصائن الاول -ضبط الاستجابة- في جوابكم شيخي الكريم عن السؤال (26)، وهو تمادي المؤمن في وعوده للناس، أرى -حسب علمي القاصر-، أن من الانزلاقات الخطيرة: وعد الناس بأمر قد يكون مشتملا على ما يسخط الله، وتمادي المؤمن في وعوده قد يسبب له الحرج والحياء حتى يلبي ما يكرهه الله والعياذ بالله.
3-ألتمس منك أستاذي حفظك الله تنظيم ورشات تكوينية تطبيقية في هذا الباب لفائدة طلبة العلم والدعاة إلى الله حتى ينوروا طريقهم بهذه الصوائن، وحتى لا تضيع الطاقات والجهود سدى.
أسأل الله سبحانه أن يجزيكم عنا خير الجزاء، وألتمس منكم صالح الدعاء، وأسأله سبحانه أن يحفظكم ويحفظ أبناءكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

#2ربيعة الخياري2014-01-22 23:37

أود أن أنوه بهذا الحوار الذي طال وأفاد وسمح لنا فعلا باستيعاب كثير من جوانب فاعلية المؤمن التي تعرف غيابا ملحوظا وبكل أسف حتى لدى من يلزم أن يكونوا قدوة للأجيال في الفاعلية سواء في مجال الدعوة إلى الإسلام او في مجال التربية التي أضحت تساهم في تكريس السلبية والتواكلية والانهزامية بدل أن ترسخ الفاعلية في نفوس النشءوتنميها بشتى الطرق! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

#3علي الفلالي2014-01-27 10:00

أرى أن من أسباب تجذر اللافاعلية في واقعنا يرجع إلى حبنا الشديد للراحة وكرهنا الكبير للعمل وبذل الجهد فمن لايبذل الجهد المكافيء للأجرة التي يحصل عليها تراه يعبر عن سعادته بكثرة فراغه وباخذه أجرة لاتناسب عمله عوض أن يضيق بهذه الوضعية ويخاف على نفسه أن يسأله الله عما قدمه في مقابل ما أخذه من مال، فنحن في حاجة إلى تغيير كثير من عاداتنا وتصوراتنا التي تقبع في نفوسنا وتقوم حجرة عثرة في وجه محاولات كسر قيودنا وفك كوابحنا وما أصعب تحررنا منها فاللهم امنن علينا بمعرفة عوائقنا وأعنا للانتصار على انفسنا.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.