عبد الفتاح الفريسي: التعليم العتيق حصانة من الغلو والتطرف

0

عيد الرحيم بلشقار

الدكتور عبد الفتاح الفريسي مدير مؤسسة الحاج بشير للتعليم العتيق، والمشرف العام على الملتقى الدولي للسماع القرآني الذي تنظمه المؤسسة بشراكة مع المجلس العلمي المحلي لتمارة، إن التعليم العتيق مكسب كبير للبلد لأنه يعمل على تثبيت الهوية المغربية المرتبطة بالأصل والمنفتحة على الآخر، وهو كذلك مكسب من المكاسب الكبرى للثوابت التي تقوم عليها المملكة المغربية، وأكد المتحدث على أن التعليم العتيق يشكل حصانة من فكر الغلو والتطرف وقطب رحى الأمن والسلام.

واستغرب الفريسي ترويج مغالطات عن مادة التربية الإسلامية واتهامها بتصدير “التطرف والتشدد” الذي يؤدي إلى “الإرهاب” ، موضحا بأن خريجي التعليم العتيق صنعوا التاريخ والحاضر وثبتوا أركان الدولة المغربية والتصقوا بثوابتها وساهموا في بناء مستقبلها.

من جهة أخرى، أبرز الفريسي، أن الملتقى الدولي للسماع القرآني الذي سينعقد شهر ماي المقبل، يأتي كتتويج للأسبوع الثقافي “البشير” الذي يمتد على مدى عشرة أيام بأنشطة متنوعة ثقافية وفكرية واجتماعية وترفيهية لفائدة الأطفال، ويهدف الملتقى إلى ربط الإنسان بربه ومولاه وفي نفس الوقت يسعى إلى التعريف بالدرر اللوامع والنجوم الطوالع في سماء القراءة والتجويد في المغرب والعالم الإسلامي. في مكتب إدارته بالمؤسسة استقبلنا الفريسي فكان معه الحوار التالي:

أنتم مقبلون على تنظيم النسخة الثامنة من الملتقى الدولي الثامن للسماع القرآني شهر ماي المقبل، ما هو جديد هذا الملتقى؟

هذا الملتقى يأتي كتتويج للأسبوع الثقافي السنوي الذي نسميه “أسبوع البشير” والذي يمتد على مدى عشرة أيام بأنشطة ثقافية متنوعة محاضرات وندوات دينية وفكرية، يؤطرها ثلة من العلماء الأجلاء والمفكرين، وقد كان أول أسبوع ثقافي تحت اسم “الرحمة المهداة”، ثم جاء بعده “الوسطية والاعتدال، المرتكز والمجال”، ثم “رسالة القرآن، بناء الإنسان وإنشاء العمران”، والملتقى الرابع “آداب الحوار وطرق تدبير الاختلاف”، والخامس “الأسرة والتحديات المعاصرة” والملتقى السادس “السيرة النبوية ودورها في بناء الأمة والتغيير”، و الأسبوع الثقافي “البشير 7″ الذي نظم سنة 2013 كان عنوانه “فقه التدين: الفهم والتنزيل”.

أما الملتقى المقبل فاخترنا له شعار “الشباب والقيم في عالم متغير” سينعقد تحت شعار “الارتباط بالأصل والانفتاح على العصر”، بمشاركة علماء في مجال التربية وخبراء في القيم، ولأول مرة في سنعقد أسبوع البشير الثقافي بشراكة مع وزارة التربية الوطنية ووزارة الشباب والرياضة، لذلك ستكون المحاضرات والندوات

بالإضافة إلى مسجد الحاج البشير كما جرت العادة، في المؤسسات التعليمية الإعدادية والثانوية سنتواصل خلالها بشكل مباشر مع التلاميذ من أجل تحسيسهم بفهم القيم وعلى أسس الانفتاح والتسامح وبناء الحضارة الإنسانية وتصحيح الصور النمطية التي تسوقها بعض وسائل الاعلام عن الإسلام، وبالموازاة مع ذلك يتخلل الأسبوع الثقافي أنشطة اجتماعية وتقديم فحوصات طبية وعمليات الختان لأطفال لفائدة الأسر المعوزة وحملة للتبرع بالدم، وفي اليوم الأخير وكما جرت العادة يتم تنظيم ملتقى الطفل الذي يعرف إقامة أنشطة فنية وترفيهية متنوعة لفائدة الأطفال.

*كيف جاءت فكرة الملتقى السنوي “رتل”؟

فكرته هي خدمة القرآن، وهذه الغاية لها أساليب متعددة منها المسابقات والبحوث والدراسات والملتقيات والندوات والمؤتمرات، وفكرة هذا الملتقى الذي تبنيناه قبل ثلاثين سنة تأتي في هذا الإطار وتتمثل في عقد جلسات القرآن الكريم، لكن في سنة 2006 بدأنا الملتقى بالشكل الجديد الذي وصل إلى دورته الثامنة هذه السنة، وقد انطلق في البداية بمشاركين من جهة الرباط سلا تمارة ثم بعدها بسنوات صار ملتقى وطنيا ثم انتقل ليصبح اليوم ملتقى دولي يحضر إليه قراء من دول عربية وإسلامية مختلفة.

ما هي أهداف هذا الملتقى؟

أولا، الاجتماع على القرآن الكريم مختلف عن الاجتماع على أي مناسبة أخرى سواء كانت ندوة أو محاضرة أو مؤتمرا لأنه قد تتفق مع الأفكار الواردة فيها وقد تختلف وقد تتحفظ أو تبدي ملاحظة أو مؤاخذة عليها، أما الاجتماع على شخص يقرأ كلام الله عز وجل فإنه يحظى بإجماع لأنه لا يقول شيئا من عنده وإنما يجتهد في تعابير صوتية الملاءمة للآيات القرآنية. ولذلك بادرنا لإقامة هذا الملتقى لاحتضان القراء المجودين لنسلط عليهم الضوء، وفي الفترة الأخيرة نستضيف ثلة من القراء اللوامع الذين فازوا بجوائز عالمية، لأنهم بعد حصولهم على الجوائز لا يمكنهم المشاركة في المسابقات مرة أخرى لذا نستضيفهم لنبرزهم ونسلط عليهم الأضواء من جديد ونكرمهم. ومن جانب آخر نريد إشاعة ونشر ثقافة سماع القرآن الذي هو واجب وأمر رباني، وهو أول الطريق للالتصاق بكلام الله عز وج، فالاستماع إذا كان صحيحا وجميلا يعين عليه الصوت الجميل وتعبيرات صوتية متقنة، فهذا الهدف في حد ذاته مكسبا بالنسبة لنا.

ما هو البروفايل الذي تعتمدونه في اختيار المدعويين من القراء؟

نستدعي لهذا الملتقى ثلة من كبار القراء في الوطن العربي والعالم الإسلامي من المتفوقين الذين جمعوا بين الدراية والرواية في الصوت، قراء منتهين متقنين لقواعد علم التجويد مبدعين بالترنم بآي القرآن، ونحن نعتبرهم نجوم ليسوا أقل إبداعا من المبدعين في مجالات أخرى الذين تسلط عليهم الأضواء في المنصات العمومية ووسائل الإعلام، فمن منطلق التشجيع الذي يحضى به الفنانون في مختلف المجالات، ارتأينا أن نحتفي بنجوم فن تجويد وترتيل القرآن لأنهم امضوا ردحا من الزمن في حفظ القرآن وتعلم قواعده ترتيله.

ما هي جنسية المدعويين للمشاركة في الدورة الثامنة ؟

تلقينا موافقة قراء من جمهورية مصر، ولبنان، وأندونيسيا، وباكستان، والجزائر، بالإضافة للمغرب.

هل كان وسم الملتقى ب”السماع القرآني” اختيارا قصديا وما دلالة ذلك ؟

نعم هو كذلك، فكما يقول العلماء أن السماع رسول القلب، والسماع كما قال ابن القيم الجوزية رحمه الله، السماع نوعان سماع شيطاني وسماع رباني، فإما أن تكون الكلمة طيبة أو سيئة… وأرقى أنواع الكلام الطيب هو كلام الله عز وجل، ولذلك نرى أن جمع الناس لسماع القرآن الكريم الذي هو أحسن الحديث (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ اللَّهِ)، أراه بداية الطريق لاستماع القرآن الكريم استماع تدبر وليس استماعا شكليا، لأن السماع على ثلاثة أنواع سماع الحاسة بالأذن ثم سماع الفهم والتدبر، ثم سماع التطبيق والعمل والطي يسميه العلماء سماع الاستجابة وهو أرقى أشكال السمع إذ أنه يسمح بتنزيل المعاني على الواقع، ولا شك أنه إذا كان الفهم صحيحا صالحا كان التنزيل سليما، وهذا الاستماع نريده شيئا جديدا في حياتنا.

على ماذا يدل شعار “رتل” الذي رافق الملتقى منذ دورته الأولى؟

الترتيل هو الترتيب وإقامة المباني الحرفية لكلمات القرآن الكريم، فحين يرتل القارئ يكون يؤدي حق الحروف القرآنية، والترتيل شرط ووسيلة لإقامة المعاني بعد إقامة المباني، وهنا نجمع بين أمرين مهمين، لأننا لا نريد من يقيم المباني الحرفية فقط ويفني عمره كله في صفات الحروف ومخارج الصوت هذا توجه خطير عاشته الأمة ولا نريد أن يتكرر، فالذي يرتل القرآن ترتيلا جيدا ويتقن إخراج الحروف لا يجب أن يخرب المعاني ورب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه.

فالقرآن الكريم لم ينزله الله عزوجل لكي نقيم حروفه فقط وإنما أنزله لكي نقيم حروفه وحدوده ومبانيه ومعانيه، وإقامة المباني ليست غاية في حد ذاتها وإنما وسيلة من وسيلة المعاني، والأمة اليوم محتاجة لإقامة معاني وقيم القرآن من أجل تحقيق النهضة وإتقان الحياة ونصبوا إلى الإبداع في كل شؤوننا الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والتربوية وسنبدع في علاقاتنا الأسرية.

باعتباركم فاعلا في مجال التعليم العتيق كيف تنظرون إلى واقع القطاع هل هناك إكراهات تواجه المشتغلين؟

في الحقيقة ليست هناك أية معيقات إلا الإكراهات الذاتية، فلا شك أن هناك رغبة مجتمعية وإقبال متزايد على هذا الشكل من التدريس، كما أن هناك تجاوب من الإدارة المغربية ولله الحمد مع حاجيات هذا القطاع على قدر الإمكانيات، بل وتدعم المبادرات الصادقة الخيرة التي تيسر ولا تعسر، كما أن الإجراءات القانونية مبسطة ومتاحة لمن أراد الاشتغال في هذا الميدان، ويبقى للعاملين أن يميزوا بين ما هو علمي وما هو تدافع سياسي، لأن الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم العتيق يجب أن تعمل بمبدأ المواطنة وأن تعمل في إطار الثوابت والمجمع عليه بين المواطنين، وأن لا تصطف في اختيارات فكرية وسياسية التي تؤدي إلى الاختلاف.

بماذا تتميز مؤسسة الحاج البشير للتعليم العتيق في تمارة؟

هذه أول مؤسسة ابتدائية على مستوى جهة الرباط تندرج في إطار التعليم العتيق، وتتميز بكونها مدرسة ابتدائية خاصة تشتغل بالمقررات الدراسية المعتمدة من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، وتفتح أبواب التسجيل في وجه التلاميذ الذين بلغوا سن الخامسة لولوج المرحلة التمهيدية التي يتعلمون خلالها أبجديات الحروف والكتابة والقراءة، وبعد ذلك ينتقل التلميذ للصف الابتدائي بالقسم التحضيري إلى غاية القسم السادس، حيث يتلقى التلاميذ في مؤسسة الحاج البشير نفس المضمون الدراسي يتلقاه التلاميذ في المدارس العامة من اللغات الأجنبية والرياضيات والنشاط العلمي والتربية الوطنية علاوة على إتقان اللغة العربية وعلومها، غير أن ما يتميز به التلميذ في مؤسستنا هو أنه يحفظ كل سنة 10 أحزاب، فما يكاد ينهي المرحلة الابتدائية حتى يكون قد ختم القرآن الكريم حفظا قبل حصوله على شهادة السادس ابتدائي، والحمد لله يتخرج التلاميذ بمستوى عال جدا ويمكنهم بعدها استكمال مسارهم في أي تخصص سواء المسار العلمي أو الرياضي أو التعليم الأصيل.

كيف هو الإقبال على مؤسستكم؟

هناك رغبة كبيرة من الآباء لتسجيل أبناءهم في مدارس التعليم العتيق، الآن عندنا في لائحة الانتظار برسم الموسم الدراسي المقبل 2016- 2017 أزيد من ستين تلميذا، وكما ترى البيئة المجالية لا تسعف لفتح الباب أمام عدد أكبر ولكن نسعى لبناء أقسام جديدة

كيف تقيمون حركية التعليم العتيق في المغرب ؟

أرى أن تجربة التعليم العتيق يجب أن لا نقسو عليها في تقييم مسارها لأنها ما تزال تجربة فتية في الحقل التعليمي، وكل عمل فتي إلا ويحتاج للتطوير والتحسين والترشيد وإلى دعم ولتعزيز الجوانب الحسنة وتقويم الجوانب السيئة، أما على مستوى الإدارة المشرفة على قطاع التعليم العتيق في وزارة الأوقاف فنجد منها كل التجاوب بخصوص كل الاحتياجات والمقترحات، ونتعايش جميعا كأسرة على اعتبار أن الغيرة على هذا النوع من التعليم يبقى قاسما مشتركا بين كل الفاعلين فيه سواء الجهات الرسمية أو مؤسسات وأساتذة وأطر تربوية.

ما هي الحاجة المجتمعية اليوم إلى التعليم العتيق وما يوحي به الإسم على الماضي في الوقت المعاصر؟

أعتبر أن التعليم العتيق مكسب كبير للبلد لأنه يعمل على تثبيت الهوية المغربية المرتبطة بالأصل والمنفتحة على الآخر، وهو كذلك مكسب من المكاسب الكبرى للثوابت التي تقوم عليها المملكة المغربية، من الدين الإسلامي والعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي وإمارة المؤمنين، ومن ناحية أخرى فإن التحدي اليوم الذي يهدد السلم العالمي المتمثل في “الإرهاب” يمكن علاجه بهذا النموذج الدراسي التعليم العتيق، وأنا أؤكد أن التعليم العتيق هو الحصانة من الغلو والتطرف وقطب رحى الأمن والسلام، فإذا كان من دعم يجب أن ينفق فإنه يجب أن يتجه للمؤسسات التعليمية الدينية التي تسهر على تكوين المواطن المعتدل الوسطي والشخص الصالح الإيجابي، والمواطن الذي يتمسك بتراثه وتاريخه وثوابت مجتمعه وأمته ووطنه.

للأسف ثمة فكر استئصالي في الساحة يروج لمغالطات عن مادة التربية الإسلامية ويتهمها بتصدير “التطرف والتشدد” و إنتاج “الفكر المتعصب” الذي يؤدي إلى “الإرهاب”، وأنا أتساءل هل الانتحاريون الذين فجروا أنفسهم في بلدان مختلفة من أوروبا درسوا التربية الإسلامية أو تخرجوا من الكتاتيب القرآنية ؟ بل إن بعضهم هم أصلا لم يدرسوا حتى في مدارس بلداننا. ولذلك أرى أن الأمة يجب أن تنتبه إلى خطورة المس بمواد التربية الإسلامية أو زعزعة ثوابت التربية الإسلامية في التربية والتعليم، إذ ستكون لها نتائج كارثية لأن الشاب الذي لا يتحصن بثقافة إسلامية واعية كافية يكون عرضة لخطاب التأويلات المتطرفة سواء الدينية أو اللادينية، ويكفي أن نعود لفترة سابقة من الزمن ونقرأ سيرة الشخصيات التي تركت أثرا كبيرا في تاريخ المغرب المعاصر سنجدهم كلهم خريجوا التعليم الديني مثل الزعيم علال الفاسي والمفكر عبد الهادي بوطالب والمؤرخ عبد الهادي التازي وعبد الله كنون وأبي شعيب الدكالي رحمه الله جميعا، وغيرهم من الأعلام الذين صنعوا التاريخ والحاضر وثبتوا أركان الدولة المغربية والتصقوا بثوابتها وبشروا بمستقبلها، وهؤلاء جميعا لا يمكن لعاقل أن يصفهم بالغلو والتطرف.

وبالعودة إلى التاريخ كذلك، نجد أن الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه كان يدعو إلى تشجيع الكتاتيب القرآنية، إيمانا منه رحمه الله بأنها حصن حصين لشخصية المسلم وأنها لا يمكن أن تخرج إلا المواطن الصالح، وحتى سلفه الملك محمد السادس حفظه الله يسير على نهجه ويدرس ولي عهده بالكتاب القرآني.

إذن القول بأن التربية الإسلامية أو الكتاتيب القرآنية قد تكون مسؤولة عن التطرف هي دعوة في صالح فريقين، فريق المتطرفين الذين يعادون كل ما يمتح من الدين، وفي صالح المتطرفين المتشددين الذين يريدون أن يتخلصوا من كل فكر حتى يسهل عليهم الانقضاض على الأمة وحتى يجد مسوغا بأن هذه الدول تحارب الدين والتربية الإسلامية ويجدوها مطية للانقضاض على الأمة وتبرير ما يقومون به من أفعال مروعة، فالدين الإسلامي لا يمكن أن يكون سببا من أسباب انهيار الانسانية، لأنه رسالة بناء الإنسان وإنشاء العمران، وفي السيرة النبوية الشريفة نجد هذه الأبعاد حاضرة بقوة حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل الأقوام بالرحمة واليسر، وفي وثيقة المدينة دستر الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق الإنسان وكرس أصول المواطنة، عندما جعل في الوثيقة لكل أمة من الناس حقوقها، فقال لليهود ملتهم وللمسلمين دينهم.

إذا كانت المادة الخام في الدين تعزز قيم التسامح والتعايش والرحمة بين الناس فهل الإشكال يوجد في الوسطاء الذين يوصلون هذه الرسالة؟

تماما، هذه الرسالة تحتاج رجالا يفهمون أن العنف لا يمكن أن يحل المشكلات كيفما كانت طبيعتها وحجمها، لكن الرحمة سبيل لحل كل المشكلات، لأن ديننا يدعو إلى ذلك كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )، والملاحظ أن الله تعالى ولم يقل وما جعلناك لأن ذلك كان يعني أن الرحمة ستنمحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله جل علاه قال (وما أرسلناك) وبالتالي فإن الرحمة موجودة في رسالة رسول الله وممتدة عبر الزمان والمكان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يجب أن تبقى حاضرة، وبالتالي فإن نشر رسالة الاسلام لا تكون بالفكر المتشدد والمتطرف الذي يلغي الآخر ويتمنى محو المخالف، نحن نريد أن يبقى الناس ونشارك رؤيتنا وأفكارنا في الوعاء الإنساني الكبير الذي يستوعب الجميع، ولذلك يجب أن يكون التدافع من منطلق الحرية، ففي النهاية التدافع بين الخير والشر سنة من سنن الحياة، كما قال الله عزوجل في كتابه (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ? وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)، أعتقد أنه إذا تحققت شروط الحرية والحوار يمكن للإسلام أن يساهم في حل كثير من المشكلات الإنسانية.

انطلاقا من موقعكم كفاعل في حقل التعليم العتيق هل أنتم مع دعوة تجديد مناهج التدريس أم مع الفكرة القائلة ليس في الإبداع أبدع مما كان؟

يوجد بين الفاعلين في التعليم العتيق جبهة للممانعة تريد أن لا يتغير شيء إطلاقا على اعتبار أن التعليم العتيق في القديم كله كان مميزا وكان طيبا، وهذه الرؤية تحتاج إلى إعادة نظر فليس كل ما في المدرسة التقليدية القديمة جيد، العكس ثمة أمور غير جيدة يجب مراجعتها وتجاوزها وتعديلها وتحسينها خصوصا في ما يتعلق بالمناهج وأساليب التدريس واكتساب المهارات.

كما يجب أن نعترف أن المدرسة التقليدية والمناهج التعليمية القديمة بقدر ما تنطوي حسنات كثيرة ينبغي الحفاظ عليها لأنها ساهمت في تمتين الصرح المعرفي، وتخريج الإنسان المستقيم، فإنها كذلك عاشت مشكلات وهو أمر طبيعي نظرا للتطور التاريخي والتحولات التي عرفها الفكر البشري، والذي يؤخذ على المدرسة العتيقة أنها لم تأخذ بأسباب مواكبة العصر ومسار التقدم البشري، وأظن أنه ليس عيبا أن نعترف بجوانب الضعف والنقص في تراثنا، بل بالعكس إن عدم الاعتراف بنقائص الذات منهج ينطوي على كثير من المخاطر ولعله أبرز الأسباب المسؤولة عن كثير من مشكلاتنا المعاصرة، لذلك يجب الإقرار بأن الاعتراف بالحق فضيلة وأننا يمكن أن نبدع من خلال تاريخنا بشرط أن نأخذ بأسباب الإبداع ونأخذ بعين الاعتبار السياق التي عاشت فيه المدرسة في الماضي والسياق الذي تعيشه اليوم.

ما الذي يميز تلاميذ التعليم العتيق في هذا السياق الذي تحدثت عنه؟

نحن الآن بصدد تخريج أفواج من التلاميذ يمزجون بين نظام التعليم العتيق ونظام التعليم العام ودون أن يفرطوا في التاريخ والقيم الدينية الأصيلة، فاليوم حينما يتخرج التلميذ يحفظ القرآن الكريم، تتوسع مدركاته العقلية ويتميز بلغة سليمة وتعبير فصيح ونشاط علمي بارع، ويتوفر على معجم لغوي زاخر بالكلمات والمفاهيم، وبالتالي فلا شك أن التلميذ الذي يعبر من هذا المسار سيكون مبدعا بما تحمل الكلمة من معنى ويحمل أسباب النجاح والتفوق، ومما يُحسب للتعليم العتيق هو المزايا السلوكية و والحصانة الخلقية التي يتحلى بها التلاميذ، فباعتقادي أن المدرسة العمومية تعيش أزمة على مستوى القيم والأخلاق والسلوك بسبب التناقضات التي أفرزتها العولمة، وبالتالي فإن معالجة هذه الأزمة لا يمكن أن تتم إلا بمزاوجة بين مضامين الأصل والعصر كطائر يطير بجناحين.
عبد تالرحيم بلشقار / جديد بريس

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.