مقدمة: برزت خلال مظاهرات واحتجاجات ما سمي بالربيع العربي، ظاهرة سلوكية لمنشآت الدولة ومرافقها ومحلات المواطنين وممتلكاتهم بل والقيام أحيانا بأعمال الحرابة من نهب وسلب للأموالوالاعتداء على المعارضين والشرطة وأحيانا كافة الناس بالسكاكين والسيوف وقنابيل المولوتوف،
وإشعال النار في السيارات والبنايات العامة والخاصة، ورفع شعارات كلها سب وشتم وقذف واحتقار وازدراء لمكانة الملوك والرؤساء والوزراء. صادمة ومرفوضة فطرة وعقلا ودينا وعرفا، حيث سلك بعض المحتجين أسلوب التخريب والتدمير
وكل هذه الجرائم تجري في سياق الحراك الشعبي لإصلاح الأوضاع العامة ومحاربة الفساد في الحكم والإدارة؟ والملاحظ أن الظاهرة إنما ازدادت حدتها وأخذت أبعادا خطيرة وغير مسبوقة، بعد اختفاء الحكام المستبدين وتولى قيادة البلاد من اختارهم الشعب وارتضاهم ومنحهم ثقته عن طواعية واختيار، وبعد أن اتسعت دائرة حرية التعبير والاحتجاج وتوارت سياسة التحكم والكبت والقهر.
وهذا ما يثير تساؤلات عديدة من قبيل من هؤلاء المخربون الغاضبون؟ وما هي الأهداف التي يرومون تحقيقها بهذا السلوك الشاذ والمشين؟ وما هي الخلفية الفكرية والثقافية والتربوية التي يتحركون في إطارها؟
ملامح من المنهج الإسلامي في الاحتجاج
للاحتجاج آداب وقواعد تضبطه حتى يحقق الأهداف المنتظرة من ورائه، كامنة في توجيهات الإسلام وممارساته السليمة، ويتبين من استقراء مواقف الاحتجاج في الخطاب الإسلامي قيامها على أسس أخلاقية عالية غايتها إعلام الطرف المحاجج ببعض مسؤولياته وإقامة الحجة على الخصم وتبصيره بأخطائه ومساعدته على إصلاحها بنفسه وبمحض إرادته.
فخطاب الله للإنسان على لسان رسله عليهم السلام قائم على الرفق بالمخاطبين وإظهار الحق والدعوة إلى تحمل المسؤولية كاملة في قبوله أو رفضه، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108] وعندما يدعي الإنسان على الله زورا وبهتانا وقولا عظيما فإن الله يرد بما يفند تلك الادعاءات ويبين زيفها بحجاج عقلي مفحم ويوضح عواقب موقفه. {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181] ، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 28]
ونفس النهج سلكه رسل الله في الدعوة للدين الحق، فقد أمر الله موسى وهارون عليهما السلام بأن يخاطبا فرعون الطاغية المتأله بلين ورفق، وتركه إزاء ضميره يقرر بعد ذلك ما يشاء ويختار لنفسه {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]. كما أن الغضب عند احتجاج الأنبياء على أقوامهم لايخرجهم أبدا عن حدود ما هو سائغ ومقبول خلقا وعرفا. فهذا إبراهيم عليه السلام يقول لقومه لما ضاق ذرعا بأصنامهم “أف لكم” {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأنبياء: 66، 67] ، أي قبحا لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله.
ويندرج الاحتجاج في الإسلام في دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمارسه المؤمنون فيما بينهم كلما تأكد وجوبه بين فرد وفرد وبين الرعية والرعاة، ومن آداب الآمر الناهي:“أن يكون متواضعا، رفيقا فيما يدعو إليه شفيقا رحيما غير فظ ولاغليظ القلب، ولا متعنتا، عدلا فقيها، عالما بالمأمورات والمنهيات، عفيفا ذا رأي وصرامة وشدة في الدين، مبتغيا وجه الله عز جل، وإقامة دينه،ونصرة شرعه، وامتثال أمره، وإحياء سننه، بلا رياء ولا مداهنة، وألا يكون قوله مخالفا لفعله، طليق الوجه وحسن الخلق عند إنكاره “[1].
ويكون النصح لولاة الأمور في غاية الحكمة والرفق، وحفظ حقهم في التوقير والاحترام وإن جاروا واعتدوا، قال النووي- رحمه الله:”أما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم”[2]
كما أن إذاية المسلم باللسان سبا وشتما واحتقارا من الذنوب الكبائر ” الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَهُنَا”. وَيُشِير إِلَى صَدره ثَلَاث مرات ” بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومالهُ وَعرضه “[3] ، “سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ”[4] ونظر عبد الله بن عمر يوما إلى الكعبة فقال: “ما أعظمك وأعظم حرمتكوالمؤمن أعظم حرمة منك“[5].
فلو أذنب المؤمن في سالف ماضيه لم يجز لأخيه أن يعيره بما كان اقترفه وربما تاب منه فتاب الله عليه، قال الإمام ابن القيم:” إن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب”[6]
فالاحتجاج على المخطئ بأخطائه لايسوغ ولا يجوز إلا حين تشبثه بها ودفاعه عنها، أما إن كان غافلا أو معترفا بتقصيره، غير مستبيح لما حرمه الله، ولا مستحسن لما قبحه الشرع، فإن الواجب يقتضي تنبيهه إلى مواقع الزلل بلطف وحكمة؛ يكون القصد من ورائها إرشاده للصواب وحمله على معرفته والإذعان له.
ولم يكفل الإسلام للإنسان حرمته وكرامته وحده، بل كفلها أيضا للحيوان الذي يحرم تعذيبه عن طريق اللهو به أو بتحميله ما لايطيق أو استعماله في غير ما سخر له من مهام ووظائف، بل إنه من غير الجائز تعيير الكلب بأنه كلب والحمار بأنه حمار.. قال تاج الدين السُبكي( كنت جالساً بدهليز دارنا فأقبل كلب فقلت إخسأ كلب بن كلب فزجرني الوالد من داخل البيت، فقلت أليس هو كلب بن كلب؟ قال: شرط الجواز عدم قصد التحقير، فقلت هذه فائدة)[7].
فهذا شأن الإسلام يحمي قدر الحيوان قبل قدر الإنسان المكرم أصلا من حيث كونه إنسانا مستخلفا في الأرض بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه.
الاحتجاج في الممارسة الديموقراطية الحديثة
عرفت الممارسة النقدية والاحتجاجية في ظل الديموقراطيات الحديثة تجاوزات مقرفة لكرامة الإنسان وحقوقه وخاصة من يتقلدون أعلى المسؤوليات في البلد من ملوك ورؤساء وحكومات ووزراء ومدراء كبار وشخصيات مجتمعية وعلمية مرموقة، حيث تكون هذه الشخصيات السامية موضع استهزاء وسخرية لاذعين بالكلام البذيء والتصوير الكاريكاتوري البالغ الإساءة لهذه النخبة، التي أنزلها المجتمع أسمى منزلة في مواقع المسؤوليات الكبرى، وبات حقهم على الجميع أن تصان كرامتهم ويتعزز تقديرهم واحترامهم في النفوس، كأبسط مظهر على اعتراف الناس لهم بالجميل على ما يقدمونه لبلدانهم من خدمات جليلة؛ يواصلون فيها الليل بالنهار ويتحملون في سبيل ذلك العناء والتعب الكبيرين.
فمن نماذج ذلك أن بعض الصحف البريطانية، رسمت الوزير الأول “توني بلير” في صورة كلب يجره جورج بوش، ولم ينكر أحد على هذا الصحفي أو رسام الكاريكاتير، تجاوزه لحدود اللياقة والأدب مع مكانة “الوزارة الأولى” التي من خلالها تدار جميع شؤون البلد وبالتالي تعد أسمى رمز لسيادة الشعب وإرادته، وتبعا لذلك تعتبر أول جهة تستوجب التقدير والاحترام على الجميع دون استثناء.
لكن الغرب الذي يرفع شعار حقوق الإنسان، لايحمي حقوق سادته وكبرائه ورموزه السياسية والدينية والعلمية من سخرية المناوئين وأراجيف الخصوم والمفسدين، ووقاحة الشاذين فكريا وسلوكيا، وإنما يتركهم ضحية لممارسة حق التعبير والنقد اللذين لايضبطهما عقل ولا خلق ولا عرف.
ولم ينج من استهزاء العابثين والمعتوهين حتى أنبياء الله وعلى رأسهم سيد الخلق محمد بن عبد الله عليهم صلاة الله وسلامه، حيث يقف الغرب عاجزا عن متابعة هؤلاء الجناة بدعوى حقهم في ممارسة حرية التعبير وذلك في خلط واضح بين التعبير عن موقف فكري معارض أو معترض، مستند إلى أدلة معينة وقناعة راسخة، وبين استعمال أسلوب التهكم والاستهزاء عن طريق إطلاق الكلام بأحكام قيمة غير مؤسسة علميا، أواستخدام رسوم كاريكاتورية ساخرة وتشويهية للحقائق.
فيبدو أن انحراف طريقة الاحتجاج عندنا لا تعدو كونها تأثرا بتقاليد النقد والاحتجاج لدى الغربيين الذين أخذنا ديموقراطيتهم المعطوبة دون إصلاح عوجها وتكييفها مع خصوصيتنا وتعاليم ديننا الخاتم وضوابطه التربوية والأخلاقية في رسم العلاقة بين الناس على اختلاف مكانتهم ومواقعهم الاجتماعية، فصرنا نصدم بسماع من يتظاهر في الشارع أو يكتب على النت وهو يسب ويشتم رئيس حكومة أو أميرا أو وزيرا صارخا بأعلى صوته يافلان ياملعون ! يافلان يامجرم! يافلان ياحمار!.. فما مضمون النقد الذي تحمله هذه العبارات الشنيعة الوقحة؟ بل من الجور البين تسمية هذا السلوك انتقادا أو احتجاجا بدل اعتباره محض سب وشتم ووقاحة.
فكيف يمكن اجتماع الرئاسة والريادة والسيادة مع الإهانة والاحتقار والازدراء في شخص واحد؟
أليس سب الحاكم وقذفه وتشويه شخصيته أكبر عائق له على الإخلاص في مهامه والقيام بها باعتزاز وتفان؟
وهل لابد للنقد الفعال أن يأتي في صور الإهانة والسخرية والسب والشتم، أم أن هذا المنحى يبتعد به تماما عن أن يكون نصحا وتوجيها ومحاسبة، تنبه على الأخطاء في الإدارة والتسيير، وتعين على تداركها وترتقي بالتواصل والحوار بين الحاكم والمحكوم.
إذا كان يسمح في التربية المجتمعية بإهانة المواطن لرئيس البلد فكيف يسود الاحترام المتبادل بين الوزير ومن تحت إمرته والمدير وموظفيه والأستاذ وتلامذته والعلماء والعوام والوالدان والأولاد؟
تساؤلات حول الظاهرة
ولإثارة النقاش حول هذا الموضوع حديث الساعة نطرح التساؤلات التالية:
ـ إلى أي حد يمكن إرجاع ارتكاس مستوى الاحتجاج في واقعنا الإسلامي إلى قصور التربية الإسلامية وآدابها وأخلاقها في منظومتنا التربوية المرتهنة لتوجهات التربية العلمانية السائدة عالميا.
ـ هل يمكن اعتبار هذه الظاهرة نتيجة منطقية لتبني نموذج الديموقراطية الحديثة وتقاليدها وأعرافها، خاصة في جوانبها السلبية التي تنزلق إليها فئات من الناس استحال عليها كسب ثقة الناخبين وصعب عليها احترام اختياراتهم عبر الصناديق الانتخابية؟
ـ كيف يمكن دمج قيم العدل والنزاهة والصدق والأمانة في التربية على النقد والاحتجاج داخل مناهجنا الدراسية؟
ـ لماذا لا تفعل القوانين الرادعة عن الشتم والقذف وإهانة رجال الدولة وتعزز بقوانين صارمة أخرى لحماية أخلاقنا وأعرافنا الإسلامية وترسيخها في الواقع تربويا وقانونيا؟
ـ كيف نجعل منظومتنا التربوية قادرة على ضمان استمرارية التزامنا بأخلاقنا السامية وقيمنا الخالدة، وتحصين شبابنا ضد اللوثات الفكرية والانحرافات السلوكية الوافدة؟
[7] – الإِعلامُ بـ حُرمةِ أهلِ العلمِ والإِسلامِ – محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم ، دارُ طيبة – مَكتبةٌ الكوثر، الرياض .ط 1، 1419 هـ – 1998 م ص65.
أسلوب التظاهر بين الزين والشين
د.نورالدين عادل
حينما أيقن موسى عليه السلام أنه مختار لمواجهة طاغية زمانه وملئه الذين أكثروا في الأرض الفساد، سأل ربه أن يمده بقوة البيان التي تمكّنه من عرض الحق في قوته لدحض الباطل وحزبه، ذلك أن ميزان القوة بعتادها وجندها واستخباراتها وإعلامها لاشك لصالح الطاغية، لكن القائم في وجهه يجد قوته في قوة الحق الذي ينتصر له، وشتان بين حق القوة وقوة الحق. وقد خلد الوحي هذا النداء في قوله تعالى:”رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفْقَهوا قولي” (1)
اللسان أداة البيان، ولتعدد ألوان البيان امتد هذا الدعاء ليشمل حركة الوجدان والأركان(الجوارح) خاصة إذا استحضرنا أن فعل:”قال” في لغة العرب يشمل الاعتقاد بالجَنان والقول باللسان والعمل بالأركان. فنبي الله موسى عليه السلام سأل ربه أن يؤهله لهذه المهمة بالتصور الواضح والقول السديد والموقف البيّن حتى يقوى على عرض الحق بما يدحض الباطل، ويزهق ادعاءاته.
هذا الموقف النبوي هو تربية لمن يحدث نفسه بتغيير ما بقومه من هوان وبناء غد أفضل يسعد فيه الانسان.
أُمسك من هذا السلوك النبوي معنيين، أهمس بهما في أذن من يخرج للتظاهر واستنكار ألوان الظلم:
الأول:إن التغيير حركة عميقة، تنطلق من أعماق النفس البشرية، وعلامته في حامل مشروع التغيير قوة إيمانه بعدالة قضيته، ونضج وعيه بأبعاد مشروعه، واستعداده الدائم لعرض هذا المشروع والدفاع عنه بكل وسائل البيان وبالثقة الكافية، وهذا ما يمنحه انشراحا ونفَسا لاقتحام عقبات الطريق مهما كان حجمها، لا يستفزه شاك ولا يثبط سيره مستعجل، فإن تظاهر فلإظهار ما معه من الحق، وإن عبّر فلبسط مقاصد مشروعه وأبعاد حركته.
بهذه الشعلة الوجدانية واليقظة الفكرية يمكن لحامل رسالة التغيير أن يكون فاعلا تاريخيا.
والناظر في تاريخ الحركات التغييرية يدرك أن التغيير يبدأ ببناء نماذج حية بإيمانها، واعية بما يجب وكيف يجب، تسعى في محيطها حاملة مشعل الحياة لأنها رمز الحياة. هذه الحقيقة سجلها الوحي الإلهي في قوله تعالى:”أَوَمَن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مَثَله في الظلمات ليس بخارج منها” (2).
الثاني: لما كان التغيير منطلقه ومنتهاه تغيير ما بالأنفس من تصورات وما عليه الناس من عادات، ولأن بناء القناعة بجدوى هذا التحول لا يكون بالإكراه كان الرفق والأناة في القول والعمل سمة شخصية الفاعل التاريخي، حامل مشروع التغيير.
ولأن التظاهر لحظة من لحظات التغيير، فإنه لا مبرر لنهج أي شكل من أشكال العنف أثناء التظاهر، بل إن العنف قد يسيء للقضية التي يروم الانتصار لها والتظاهر من أجلها، ويمكننا إعلان القاعدة الآتية ضابطا لأسلوب التظاهر:”ما دخل الرفق التظاهر إلا زانه، وما دخل العنف التظاهر إلا شانه” نَسْجا على منوال القول الشريف:”لا يكون الرفق في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه “(3)
ولعل لحظة من لحظات الأسلوب الرفيق في التظاهر تكون دالة على وعي أصحابها وجاذبة لتعاطف المتتبع وبالتالي توسيع جبهة المناصرين لمشروع التغيير. وقد بلغ إلى علمي أن تظاهرة مليونية شهدتها شوارع العاصمة الرباط انتهت بجمع المتظاهرين لقنينات الماء الفارغة والأكياس البلاستيكية وما يخلفه عادة المشاركون في التظاهرات، فتركوا الشوارع على صورتها الأولى ومروا منها مرور الكرام، وكان هذا السلوك كافيا لإثارة انتباه المتتبع المحلي والدولي، وتقديره للجهة المتظاهرة وسؤاله عن مشروعها، بل إن عمال النظافة لم تنقطع ألسنتهم بالدعاء لمن كفَوهم مؤونة العمل إلى أوقات متأخرة من الليل في جمع تلك القمامة.
والرفق لا يتعارض مع قانون التدافع الذي يطلب قوة في عرض القضية، ولعل الرفق في هذه الحالة سيكون مظهرا من مظاهر القوة، قوة الإيمان بعدالة القضية، والانشراح في إظهارها والتظاهر لها بعيدا عن كل أشكال الاستفزاز.وليكن يقيننا عظيما بجدوى الرفق، قيمة وأسلوبا، الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:
“إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه “(4)
ــــــــــــــــــــــ
(1)سورة طه، الآيات:من 24 إلى 27.
(2)سورة الأنعام، الآية:123.
(3)أخرجه الإمام مسلم رحمة الله عليه في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق. وزان الشيء جمله، وشانه قبّحه.
(4)نفسه
{jcomments on}