تشهد الساحة التعليمية الوطنية نقاشا ساخنا على إثر ما تعرفه السياسة التعليمية من قرارات، اختلفت حولها الآراء حسب التوجهات والمصالح المختلفة لفئات من الفاعلين والمهتمين بأمرها وكذا المستهدفين بها،
فمنذ أن أسندت حقيبة التربية والتعليم إلى الوزير الجديد محمد الوفا – المنتمي لحزب سبق أن تحمل نفس الحقيبة في مناسبة سابقة – في حكومة منبثقة عن انتخابات شعبية شهد الكل بنزاهتها، ونحن نستقبل مذكرات وقرارات، تحمل في طياتها مجموعة من الإلغاءات، وقلة المقترحات، إضافة إلى جملة من الوعود بتلبية كثير من الرغبات الفئوية، إما بدافع التغيير والإصلاح، أو بدافع تهدئة الساحة التعليمية، ووقف مد الاحتجاجات والإضرابات، في غياب قانون منظم للحق الدستوري في ممارساتها، فقد استقبلنا قرار إلغاء بيداغوجيا الإدماج، والمذكرة 204، والمذكرة 222 ،وثانويات التميز، ووثيقة البرامج والتوجيهات الجديدة بالابتدائي، ودفاتر التحملات الخاصة بإنتاج جيل جديد من الكتب المدرسية، وتوقيف التأليف بشأنها، والمقررالقاضي بوقف الترخيص مؤقتا لأطر هيئة التدريس بالقيام بساعات إضافية بمؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي؛ حيث ينص المقرر الوزاري على توقيف العمل مؤقتا بمقتضيات المذكرة الوزارية رقم 109 الصادرة بتاريخ 3 شتنبر 2008 في شأن الترخيص لأطر هيئة التدريس بالقيام بساعات إضافية بمؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي، وكما يتداول حاليا إلغاء نقط المراقبة المستمرة في الامتحانات الإشهادية … إضافة الى بعض الإجراءات الأولية حول محاربة الفساد التربوي والإداري، كالكشف عن محتلي السكنيات الوظيفية، والمستفيدين من التعويضات خارج إطار القانون …
جرأة اتخاذ القرار
لا شك أن كثيرا من الفاعلين والمهتمين عبروا عن مواقفهم إزاء هذه القرارات ، فاعتبرتها شريحة منهم قرارات جريئة، كانت للوزارة الوصية في شخص السيد الوزير جرأة غير مسبوقة في إثارة قضاياها، واتخاذ قراراتها، وربما تنم عن إرادة الإصلاح والتغيير لدى السيد الوزير، المنتمي لحزب عريق، ولحكومة جاءت نتيجة شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد، واستشعارا من الوزارة المعنية بعمق الخلل والتدهور الحاصل في المنظومة التربوية، واستشراء الفساد وسوء التدبير في إدارتها… ذلك الخلل الذي عبر عنه وبقوة الخطاب الملكي،في ذكرى ثورة الملك والشعب، يوم 20 غشت 2012، الذي خصص حيزا كبيرا للمدرسة العمومية، مؤكدا أن قضية التربية والتكوين ما زالت أسبقية وطنية، وإصلاحها يعتبر تحدّيا كبيرا في الظرفية الراهنة … خاصة بعد تقويم متواضع ومتسرع للبرنامج الاستعجالي، والذي كلف مبالغ باهضة من ميزانية الدولة .
وفي المقابل نجد عدة جهات تصف تلك القرارات المشفوعة بخرجات السيد الوزير الإعلامية بالارتجالية والارتباك الحكومي في تناول قضايا التربية والتعليم ؛ مما أدى بالبعض – ومن خلال رسائل مباشرة وغير مباشرة – إلى المطالبة بإقالة الوزير أو بالتعديل الحكومي، وطبعا انطلاقا من توجهات وخلفيات ومصالح معينة قد لا تكون معلنة .
غموض أفق تنزيل القرارات
وإن كانت القرارات في حد ذاتها اتسمت بنوع من الشجاعة والجرأة في اتخاذها ، فقد اعتبرها البعض هروبا إلى الأمام، كما وصفها الآخرون بمغالطات الإلغاء، ورأى فيها الآخر عدم وضوح السياسة التعليمية، إضافة إلى من يعتبرها مجرد رفع رصيد الشعبوية لوزراء الحكومة المنتخبة شعبيا… فإنها تعتبر جد قاصرة في ما تحمله من بدائل، ومقترحات للإصلاح؛ مما أدى إلى إرباك السياسة التعليمية، الذي قد ينعكس سلبيا على مردودية أدائها إداريا وتربويا .
فإلغاء بيداغوجيا الإدماج باعتبارها إطارا منهجيا لتطبيق مدخل الكفايات، أربك العملية التعليمية، وأرجعها الى غموض تطبيق الكفايات، في الوقت الذي كانت فيه الساحة التعليمية تناقش صعوبات تنزيلها، وتكييفها مع إكراهات المنظومة التربوية، من خلال التجريب، ودعم التكوين، وتكوين فرق جهوية لتأليف الوضعيات الإدماجية على المستوى المحلي والجهوي تراعي الخصوصيات المحلية، وبدء الاشتغال في التنافس من أجل تأليف جيل جديد من الكتب المدرسية تعمل على أجرأة مدخل الكفايات ، باعتماد الوضعيات الإدماجية… وإلغاء المذكرة 204 الخاصة بالتقويم وفق الكفايات، الذي عمل على الاستمرارية في نمط من التقويم الارتجالي الذاتي، المرتكز على التحصيل المعرفي في أبسط صوره.
كما أن إلغاء العمل بالساعات الإضافية لمدرسي التعليم العمومي بالتعليم الخصوصي أربك هذا التعليم، وشجع على العمل السري غير المصرح به، والذي يستعصي على التأطير والتتبع والمراقبة… واستبدال المذكرة 222 بالتوقيت اليومي الجديد لم يقنع كثيرا من الجهات التي بدأت تنادي بإلغائه؛ بل والمطالبة بتخفيض ساعات العمل … إضافة الى كثير من الفئات والشركاء الذين ما فتئوا يطالبون الوزارة بتفعيل وتنفيذ وعودها تجاههم …
كل هذا وذاك يضعنا أمام غموض في أفق تنزيل القرارات، وتفعيلها ميدانيا مما يجعلنا نتساءل:
– هل المشكل في القرار، أم في صناعته، وكيفية صناعته ؟ وكيف يمكن خلق سبل إقناع المستهدفين منه ؟
– وهل المشكل في مصداقية قرارات الوزارة التي ألفنا منها الإلغاء والتعليق بمجرد تغيير المسؤولين عليها، أو بضغوط من جهات شريكة، أو إرضاء لها أو انطلاقا من الهاجس الأمني، و تهدئة الأوضاع على الساحة التعليمية، أمام كثرة الاحتجاجات والإضرابات ؟
– أم المشكل يكمن في عدم بلورة سياسة تربوية تعليمية واضحة المدخلات والمخرجات على المدى المتوسط والبعيد ؟؟؟ ذ.محمد احساين
حول السياسة التعليمية بالمغرب
بين جرأة اتخاذ القرارات وغموض أفق تنزيلها ذ. علي الأصبحي
أثارت القرارات الصادرة عن السيد وزير التربية الوطنية بالمغرب مع مطلع الموسم الدراسي الحالي جملة من ردود الأفعال الذاتية أحيانا، والموضوعية أحيانا أخرى ، الذاتية لأن أصحابها وهم أركان المنظومة المستفيدون من الوضع المتردي الذي أدخل في نفق مظلم، وفي متاهات البيداغوجيات المستنبة والقائمة على أساس فلسفي دخيل لم يشتق من ثقافة مجتمعنا كما يحترم ذلك في كل السياسات التعليمية لدى جميع شعوب الأرض، الشيء الذي طبع هذا المستورد بغموض في المفاهيم المترجمة بلغة ركيكة ،زادتها غموضا إلى غموض، وتعقيدات يشهد بها الجميع ، ويؤكد ذلك الواقع، سواء على مستوى التدريس أو على مستوى التقويم، وظلت المنظومة بجميع مكوناتها ومستوياتها تتخبط في فك رموزه ومفاهيمه لعشرية كاملة دون تحقيق أهداف الإصلاح المعلنة الذي جاء بتلك المقاربات والبيداغوجيات، ولوفي حدها الأدنى، وما تحقق منها، حتى لا نعمم الحكم، فهومن قبيل الاتفاق والصدفة ، لأن التطبيق لتلك المقاربات كان في الأغلب الأعم عن طريق التقليد والمحاكاة، وليس عن وعي واستيعاب، ولأن الجميع يعلم كيف مرت تلك ( التكوينات ) المنظمة لفائدة هذه الفئة أو تلك، وحجم الإكراهات المحيطة بها، والسرعة التي أنجزت بها، إضافة إلى ضبابية الرؤية حتى لدى المكونين بالمجزوءات التي فرضت الإدارة التربوية التكوينعلى مضامينها، ناهيك عن الغموض الذي لف الأغلفة المالية المرصودة لتلك الغاية، والطريقة التي كانت تصرف بها بعيدا عن تكافؤ الفرص، كل ذلك كان كافيا لأي وزير وطني جديد، ينتمي إلى أية حكومة وطنية منتخبة، أن يتحمل مسؤوليته لإنقاذ السياسة التعليمية من التردي في مهاوي العبث والاستخفاف بالعقول، وهدر المال العام، تحت دعاوى الإصلاح، وإيهام الرأي العام والخاص – من خلال التوظيف الذكي للشعارات الجوفاء من: المخطط الاستعجالي، والمخطط الاستراتيجي ، إبهامهم بالرغبة (الصادقة ) في الإصلاح، والذي ظل الناس ينتظرون نتائجه لسنوات، دون جدوى، نعم كان حريا بوزير التربية الجديد أن يصدر مثل تلك القرارات الجريئة لإيقاف النزيف المتمثل في هدر الزمن المدرسي، والمال العمومي، والتوظيف السيئ للسياسة التعليمية على أكثر من صعيد، ما أدى إلى انسداد الآفاق والإحباط في جميع الأوساط.
ثم لماذا لا تفسر تلك القرارات بأنهاجاءت نتيجة استشعار الوزارة المعنية بعمق الخلل والتدهور الحاصل في المنظومة التربوية، واستشراء الفساد وسوء التدبير في إدارتها؟ ذلك الخلل الذي عبر عنه وبقوة الخطاب الملكي في ذكرى ثورة الملك والشعب، يوم 20 غشت 2012، والذي خصص حيزا كبيرا للحديث عن المدرسة العمومية، مؤكدا أن قضية التربية والتكوين ما زالت أولوية وطنية، وإصلاحها يعتبر تحدّيا كبيرا في الظرفية الراهنة (كما ذكر بعض من كتب في الموضوع)
لكن مع كل هذه المحامد التي قد تنعت بها هذه القرارات غير المسبوقة في سرعة اتخاذها رغم كبر حجمها وثقل آثارها وتعدد أبعادها … فإن الموضوعية تقتضي تسمية المسميات بأسمائها، فمعظم القرارات الصادرة من مثل: قرارإلغاء بيداغوجية الإدماج وما تبعها من توقيف التأليف وفقها، والتي تعتبر-فرضا أو جدلا- إطارا منهجيا لتطبيق مقاربة الكفايات، دون تقديم بديل / بدائل تشتغل عليها المنظومة تدريسا وتقويما ، معظم تلك القرارات كانت مربكة للفعل التربوي برمته، وهذا الإرباك لا يشفع له ما تمت الإشارة إليه من وضع حد للنزيف والتلاعب بالمصالح العليا للوطن، إذ الأمرأكبر من ذلك ،حيث تحتاج مثل هذه المواقف – مسبقا – إلى الروية والنظر إلى آثارها، وأن تأتي في سياق استراتيجية محكمة، تنقذ ـ فعلا- المنظومة مما تعانيه من الاختلالات، وليس إلى مجرد إصدار قرار توقيف العمل بشكل من أشكال العمل التربوي دون طرح البديل الأمثل، والذي تراه الجهة المشرفة أجدى للمرحلة ، لأن مثل هذه القرارات قد تؤدي إلى الفوضى، وتفتح الباب لردود أفعال لا تحمد عقباها، إذ من واجب الممارس التربوي في جميع حلقات المنظومة (التأطير التربوي –التدريس – الامتحانات والتقويم… )أن يستجيب للقرارالوزاري ، احتراما لمصدر القرار ، لكن في الوقت نفسه له الحق في المطالبة بالبديل ، تجنيبا للمنظومة من الدخول في الفراغ القاتل ، والارتجال المقيت الذي يعرف الجميع مآلاته، وإلا سوف لا يتحمل مسؤولية ما قد يحدث –لا قدر الله – من نتائج غير مرضية؛
ونفس الشيء يؤخذ على قرار وقف الترخيص ـ مؤقتا- لهيئة التدريس بالقيام بساعات إضافية بمؤسسات التعليم الخصوصي، والذي لم يفعل على الأرض، فأدى ذلك إلى اللامبالاة بالقرار، واستمرت الهيئة في عملها بمؤسسات التعليم الخصوصي كما لو لم يصدر أي شيء في الموضوع، وهذا الموقف المربك خلق نوعا من العلاقة غير الطبيعية بين أطراف المنظومة لدرجة ضرب مصداقية قرارات الإدارة، وهذا سلوك لا ينبغي أن يحدث على الإطلاق، وإن حدث فلا بد من معالجة أسبابه دون تأخير، حتى تعود المياه إلى صفائها، والقلوب إلى رضاها، والنتائج إلى المستوى الذي يستجيب للطموحات والانتظارات.
{jcomments on}