الدكتور محمد بنينير في حوار حول:
البعد التربوي للعبادات الإسلامية
السيرة العلمية والمهنية:
الدكتور محمد بنينير، من مواليد 1960 بابن جرير.
vحاصل على الإجازة في اللغة العربية من كلية الآداب ـ الرباط1985م
vحاصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية من كلية الآداب ـ الرباط 2000م
vحاصل على الدكتوراه في الأدب العربي من كلية الآداب بنمسيك الدار البيضاء 2003م
vمتخرج من المدرسة العليا للأساتذة – التقدم – الرباط.
vأستاذ اللغة العربية حاليا بثانوية إدريس الأول بالقنيطرة.
vأستاذ متعاون بكلية الآداب – جامعة ابن طفيل بالقنيطرة.
vخطيب جمعة وواعظ بمساجد القنيطرة.
vمشارك ومساهم في عدة جمعيات ثقافية وتربوية وأدبية واجتماعية ودعوية محليا ووطنيا.
vصدرت له عدة مقالات تربوية وفكرية ببعض المنابر الإعلامية المغربية.
السؤال 01: يسجل المدقق في أمر العبادات انصراف الكتابات والتآليف منذ القدم إلى ما يتعلق بفقه العبادات، والذي حاز النصيب الأكبر من اهتمام العلماء والباحثين، في حين يلاحظ ضآلة البحث في الأبعاد التربوية، فإلى ماذا يعود السبب في ذلك؟
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على البشير النذير والسراج المنير سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الكرام الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
للإجابة عن هذا السؤال، يمكن أن نذكر عدة أسباب:
1ـ التأثر بمرحلة تدوين العلوم الإسلامية ابتداء من القرن الثاني الهجري التي طغى عليها جمع المادة العلمية الصرفة، ولذلك تم التركيز على الأحكام الشرعية (فقه العبادات) مجردة من خلفياتها التربوية الإيمانية التي طبعت الأجواء التي تنزلت فيها هذه الأحكام، لأن تنزل الحكم الشرعي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مقترنا بالتوجيه التربوي، حيث يتضافر النص الإلهي مع القدوة النبوية.
2 ـ كما أن التأصيل الشرعي لفقه العبادات وأحكامها، غلب عليه في هذه المرحلة طابع الجدل العقلي الكلامي المحض، حيث تم فصل عملية العقل عن القلب بخلاف ما أصله القرآن من اندماجهما معا، قال الله تعالى: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوَ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْاَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ »(الحج: 46). ولعل أجواء الجدل اللاهوتي المسيحي واليوناني والإشراقي (الفلسفات الإشراقية) ساهم في جر التأصيل الشرعي إلى هذه الوجهة غير المحببة تربويا، ولذلك جاءت الثورة على هذا النهج من الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه الإحياء الذي حاول إعادة تأسيس فقه العبادات على قواعد البحث التربوي، لأنه بعقله الفلسفي الموسوعي أدرك خطورة ما حدث من انزياح عن الأصول في هذا الميدان.
3 ـ تحول مفهوم الفقه وارتكازه على عملية الفهم الجافة التي تنحصر في المعرفة الفقهية للأحكام والتفريعات وما سواهما، بعدما كان مرتبطا بمعرفة الله وخشيته، وطلب ما عنده من الخير، واجتناب ما عنده من العقوبة والعذاب، حيث ارتبط في بداية الإسلام بمعرفة الله وخشيته قال تعالى: «لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَفْقَهُونَ» (الحشر: 13).
ولذلك كان أول من راجع هذا المفهوم وصححه هو الإمام الغزالي نفسه رحمه الله، وتابعه في ذلك كثير من العلماء المعاصرين كالشيخ يوسف القرضاوي في كتابه “العبادة في الإسلام” وغيرهم.
السؤال 02: ما هي من وجهة نظركم الاعتبارات العلمية التي يمكن أن تتأسس عليها مسوغات البحث في الأبعاد التربوية للعبادات؟
الاعتبارات العلمية التي يمكن أن يبنى عليها البحث التربوي في موضوع العبادات كثيرة، ونذكر منها:
1 ـ أن هذه العبادات جعلها الله سبحانه وتعالى وسيلة للتقوى والتزكية والتطهر بالنسبة للفرد، فالعبادة من جهة هي حق محض لله عز وجل كما جاء عن معاذ رضي الله عنه قال: “كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: يا معاذ هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا، فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس، قال لا تبشرهم فيتكلوا”[1].
ولكن هذه العبادات جعل الله سبحانه وتعالى فيها منافع للإنسان، إذا بحثنا في الحكمة منها نجد أنها شرعت لتحقيق مقاصد كبيرة، من هذه المقاصد التربوية أن العبادة تزكي النفس وتهذب الأخلاق، ولذلك ربط الله جميع العبادات بالأخلاق قال تعالى:«وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» [العنكبوت/45] والصدقة تعلم التواضع، قال تعالى« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ» (البقرة/264) . كما أنها تعلم الإيثار وتطهر، قال تعالى:« خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(التوبة: 103). والحج أيضا هو تطهير من الفواحش وتربية على الصبر في معاشرة الآخرين، قال تعالى « الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ» (البقرة 197:)، ونفس الشيء بالنسبة للصيام:” عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله:”كل عمل ابنآدمله إلا الصيامفإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه “[2].
2 ـ التربية على التضامن والتكافل لأن العبادة المحضة هي أداء لحق الله تعالى فالصلاة مثلا هي أداء لحق البدن، أما الزكاة فهي أداء لحق المال، وفيها تكافل مع الفقير والمحتاج يقول الله تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا» (النساء/36)
إذن يلاحظ أن الناس غالبا ما يمتلكون المال للتفاخر، ولكن المسلم يمتلك المال لينفقه في سبيل الله، ومع امتلاكه للمال لا بد أن يكون متواضعا لأن المال مال الله وهو مستخلف فيه ولعباد الله حق معلوم في ذلك المال، إذن فهذه كلها تربية، ولذلك فالبعد التربوي واضح في كل العبادات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، سواء العبادة بمعناها الخاص المتمثل في أداء الشعائر التعبدية المفروضة فرضا مباشرا عليهم. أو العبادة بمفهومها الواسع في الإسلام، والتي تشمل كل سلوكات الإنسان مع نفسه وأخيه، فنجد أن القرآن كما نبه إلى أن المقصد من الصيام والصلاة والشعائر التعبدية الأخرى هي التقوى، فقد سلك نفس المنوال في جميع شؤون حياة الإنسان الدنيوية كالزواج وتربية الأولاد والطلاق، وعلاقة الجوار والمصاهرة والرحم…. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا » (النساء/1) إذن فحتى الزواج سلوك تعبدي وتربوي معا، وقد انتبه سيد قطب رحمه الله في تفسيره لسورة الطلاق إلى أن الله كرر التنبيه إلى التقوى بشكل ملفت للنظر أثناء حديثه عن الطلاق، رغم أن الطلاق حدث اجتماعي يعبر عن خصومة وشقاق داخل الأسرة، وهو أبغض الحلال عند الله، وهو حدث لا يرتاح إليه الإنسان، ولكن مع ذلك الله سبحانه وتعالى عالجه معالجة تربوية، بمعنى أنه حتى أثناء الخصومة ينبغي أن نتقي الله وأن نقيم العدل وأن نمارس السلوك التربوي في أبعد معانيه «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة/231).
إذن فالتربية تنغرس في العبادة بكلياتها وجزئياتها، وفي كل الأحكام التشريعية.
السؤال 03: أشار القرآن الكريم إلى كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) (العنكبوت: 45) فهل يمكن تفسير كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر ؟
يمكن تفسير ذلك أن الصلاة هي صلة وقربة وتقرب إلى الله عز وجل، وكلما اقتربنا منه سبحانه وتعالى ازددنا حياء منه فنبتعد عما حرم، فالصلاة تربي على خلق الحياء الذي يعصم من الفواحش.
كما أن الصلاة هي ذكر دائم لله، قال تعالى:«وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي» (طه/14) وقال تعالى: «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» (العنكبوت/45). فالصلاة تذكرنا بحقوق الله، وبما فرضه الله عز وجل علينا، ومن ثم فالصلاة تعصمنا من الغفلة والنسيان اللذان يوقعان في المعصية «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا» (طه/115)، ثم إن الصلاة تزكية وتطهير من صغائر الذنوب، ومن حمل الهم لذنوبه الصغيرة فهو من باب أولى لا يفكر في الكبائر لأن خوفه من الوقوع فيها يكون أكبر. ثم إن الصلاة هي مناجاة لله، والمناجي لله لا بد أن يتخلص من موانع القبول التي تحجبه عن الله وهي الفواحش، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها و هو مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم»[3].
إذن كما أن الفواحش تحجب عن الإيمان فلا يليق بالمصلي أن يدخل في مناجاة مع الله وهو يرتكب هذه الفواحش التي تصبح حجابا بينه وبين الخالق سبحانه وتعالى.
السؤال 04: من المعلوم أن الصلاة مكونة من كيفيات وهيئات مشحونة بعدة رموز غايتها على ما يبدو ترسيخ صفات إيمانية وأخلاقية معينة في نفس المصلي، فهل لكم توضيح هذه الصفات؟
إذا تأملنا في صفة الصلاة نجد أنها مباني وأشكال (أيقونات) ترمز إلى معاني وأسرار: ونبدأ بالقيام، والقيام ينبغي أن يصطحبه الخشوع قال تعالى «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ» (المؤمنون/1، 2) وقال تعالى: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ» (البقرة/238) ، فالقائم واقف بين يدي الله عز وجل كما جاء في الحديث الصحيح في سنن الترمذي «…فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت…»، فلا يلتفت بجسده ولا يلتفت بقلبه لأنه في حالة خشوع، في حالة رهبة، فموقف القيام بين يدي الله في الصلاة يذكرنا بموقف المثول بين يدي الله غدا يوم القيامة للحساب، كما يوحي أيضا بالخشية والخوف من الله ويوحي بالسكينة والوقار، فالمسلم هو خاشع في الصلاة، وخاشع خارج الصلاة، فالخشوع يصبح صفة دائمة للإنسان المؤمن، قال تعالى: «وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ» (الأحزاب/35) . والنبي صلى الله عليه وسلم ركز على معنى السكينة في قوله صلى الله عليه وسلمفيالجامع الصغير «إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة و لا تأتوها و أنتم تسعون، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» .
ثم إذا أخذنا القراءة كعملية تدبر بين يدي الله سبحانه وتعالى لكتابه عز وجل؛ فالصلاة لا تصح إلا بالقراءة وأقل القراءة قراءة الفاتحة أم الكتاب، ولا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب، وأم الكتاب هي أعظم سورة في القرآن الكريم، ويقول العلماء أنها لخصت معاني القرآن أو المعاني التي تدور عليها أحكام الآيات في القرآن الكريم من عقائد وعبادات وأخلاق إلخ…وجاء في الحديث القدسي «قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد (الحمد لله رب العالمين )
قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال ( الرحمن الرحيم )
قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال ( مالك يوم الدين )
قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال ( إياك نعبد وإياك نستعين )
قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )
قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل »[4].
وهكذا فالقراءة لها أهمية حتى سميت الصلاة قراءة في هذا الحديث، لأن القراءة مدخل إلى الفهم، والفهم مدخل إلى العلم، والعلم مدخل إلى التطبيق، والتطبيق هو التربية بعينها، والتربية هي السلوك والأخلاق. وفيها إشارة أيضا إلى أن المسلم يعبد الله على علم، فهو يقرأ القرآن ليتفقه في آيات الله التي نزلها على عبده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتكون دستورا وبيانا للناس، والعلم هو أساس الدين وأساس الحياة. إذن فالمسلم يتعلم حب العلم من خلال هذه العبادة العظيمة.
وكذلك الركوع والسجود فهما علامة ودليل على الخضوع والاستسلام لمشيئة الله وإرادته اضطرارا واختيارا، فالمسلم مستسلم لله بكليته في كل شؤونه، فهو يركع ويسجد بين يدي الله كما تفعل سائر الكائنات «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ»(الرعد/15)، إذن فهو يتذلل بين يدي الله، ويعلن خضوعه واستسلامه لله، وهذا الخضوع والاستسلام لله هو سر عزة المؤمن في الدنيا والآخرة، لأنه من تواضع لله رفعه، كما أن الركوع والسجود هو شكر لله على أفضاله، فالمؤمن يقيم الصلاة بالذكر ويكثر من الدعاء أثناء السجود لأنه يتوجه إلى الله بطلباته ورغباته ويعلن افتقاره إليه وهذا في حد ذاته يورثه التواضع والاستسلام لله رب العالمين، وهذه كلها معان تربوية يكون لها عظيم الأثر على حياة الإنسان المسلم.
السؤال 05: نرى أن الصلاة هي العبادة التي تلازم المكلف خمس مرات في اليوم والليلة، خلاف غيرها من العبادات الأخرى، فما هو البعد التربوي لتكرارها يوميا؟
كون الصلاة عبادة تلازم المكلف خمس مرات في اليوم والليلة فهذا له أثر كبير في التربية، والله سبحانه وتعالى جعلها كذلك لأنها أولا هي أداء حق الله الذي هو العبادة، ومعنى العبادة يختزل في الصلاة في كل الأديان والشرائع، لأن الصلاة هي أم العبادات وهي في الإسلام عمود الدين وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح في سنن الترمذي «…رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد…» فهي في الركن الثاني من أركان الإسلام، ثم إن الله عز وجل جعلها سهلة الأداء، ويسر متطلباتها خلاف العبادات الأخرى، فالمؤمن يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة بوضوئها وركوعها وخشوعها، وهذا أمر ميسر ثم إن الله عز وجل جعل رخصة التيمم لمن لم يجد الماء، وجعل رخصة الصلاة قاعدا أو حتى مضطجعا لمن لم يقدر عليها قائما أو جالسا، وهكذا، ولا يعذر أحد لتأخيره للصلاة؛ إلا المرأة الحائض أو النفساء، أو المغمى عليه، أو حالتي النوم والنسيان، وهذان الأخيران عذرهما الله سبحانه وتعالى فيؤديان صلاتهما وقت تذكرهما لها.
ثم أيضا هذه الصلاة شكر على نعمة الحياة والبدن، فمن أعظم النعم أو أصول النعم كما يقول الإمام الرازي رحمه الله نعمة الحياة والبدن ونعمة الوقت، ولذلك الصلاة هي شكر لهذه النعم الدائمة التي تتجدد فيتجدد معها واجب الشكر لله رب العالمين، ثم إن الصلاة هي مجلبة للرزق وطمأنينة للنفس، فالمؤمن مفتقر إلى الله، يقف بين يدي الله ويسأله مختلف حاجاته المادية والمعنوية، ثم إن الصلاة تكسب النفس القدرة على التحمل والمواجهة لكل الصعاب. قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (البقرة/153) وكان صلى الله عليه وسلم إذا اشتد عليه أمر فزع إلى الصلاة.
إذن نحن المحتاجون للصلاة وليس الله هو المحتاج لصلاتنا، فالصلاة كلها فعل تربوي يوجه سلوك الإنسان وأخلاقه دائما نحو الأحسن والأفضل، أما ما يصل الله من هذه الصلاة فهو التقوى والإيمان والإقرار بالعبودية لله رب العالمين.
السؤال 06: نص القرآن على الهدف التربوي من صيام رمضان في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (البقرة: 183) فكيف تتحقق التقوى من خلال الصيام؟
الصيام من أعظم العبادات وله فوائد تربوية كثيرة، فالتقوى التي هي المقصد العام للصيام تتحقق من خلال عدة أشياء:
أولا: الصيام هو ترك للشهوات الحلال خلال نهار رمضان، وهذا جعله الله سبحانه وتعالى وسيلة تقوي فينا عزيمة الترك، وتقوي عزيمة الترك لدى الإنسان لكل ما هو حرام، لأن ترك الحلال في رمضان ترك مؤقت لا يتجاوز يوم رمضان، أما ترك الحرام فينبغي أن يكون في رمضان وفي غير رمضان بالنهار وبالليل وفي جميع الأوقات، إذن فهذا الصيام يقوي هذه العزيمة على ترك ما حرم الله، وعلى التضييق على الشهوة، لذلك فالصيام تضييق على الشهوة والغريزة لصالح الروح والعقل أي أنه إعادة التوازن بين المادة والروح في حياة الفرد والمجتمع، لأن الحياة ليست مادة وحدها وليست روحا وحدها، بل لا بد أن يكون بينهما تكامل وتوازن، ثم إن الصيام تقوية لجانب المراقبة الذاتية، فالصائم يراقب الله طول مدة الصيام؛ التي قد تتجاوز أحيانا ستة عشر ساعة، وهذا يقوي فينا المراقبة الذاتية التي غالبا ما تضعف عند الناس وتؤدي إلى الانحرافات الخطيرة.
ثم إن الصيام اكتشاف لطاقات الجسم والروح التي يجهلها الإنسان، فالإنسان أحيانا قد يرى نفسه عاجزا عن الصيام في ظروف معينة؛ كظروف الصيف التي يكون فيها اليوم طويلا وشديد الحرارة، ولكن حينما يأتي شهر الصيام يصوم المؤمن ويتحمل هذه الظروف كلها، والحمد لله نخرج من صيامنا بكل الخير وبكل الرحمة التي جعلها الله في هذه العبادة، وهذا يجعلنا نكتشف الطاقة المخبوءة في الجسم والنفس، والتي بواسطتها يمكن للإنسان أن يصنع المعجزات فوق هذه الأرض، وهذا كله يوسع من مجال الفعل التربوي في هذه الشعيرة العظيمة، ويجعل من قوة العزم والإرادة كل شيء في حياة المسلم بعد التوكل على الله تبارك وتعالى«فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(آل عمران/159).
وغاية الصيام هي كسر الشهوة فقط وليس إلغاؤها، ولذلك فالمريض والعاجز عن الصوم لعذر ما لا يجوز له الصيام ويعوضه بالقضاء أو الفدية، فالعبادة في الإسلام لتهذيب النفس لا لتعذيبها ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم نذر رجل «أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ويستظل، ولا يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه».
كما حرم الإسلام صيام الدهر لأنه يحول الصيام إلى عادة فيفقد معناه التعبدي الذي عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما أراد أن يصوم النهار ويقوم الليل بصفة دائمة، فقال له«فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا. لا صام من صام الدهر». فالشعار التعبدي هنا هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم “صم وأفطر، وقم ونم”. لأن مسافة الانتقال ما بين الصيام والإفطار، وما بين النوم والقيام، هي مجال الابتلاء، وهو أن تكسر عادة بعادة لتحقق معنى العبادة، والعبادة تدور على الابتلاء والاختبار ومخالفة النفس.
السؤال 07: يقرن القرآن الكريم دائما بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فهل لكم أن تبسطوا لنا السر في ذلك؟ وما هي المقاصد التربوية للزكاة؟
سر الجمع بين الصلاة والزكاة يمكن شرحه أولا من خلال اشتراك العبادات كلها في تحقيق مقصد التقوى التي هي مقصد عام لكل العبادات، يقول الله عز وجل: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة/21) فالتقوى مقصد المقاصد في الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك، وقد لخص الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله:«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة/177).
ثم إن الصلاة والزكاة كلاهما وسيلة للتطهر والتزكية، فمثل الصلاة كالنهر يغتسل فيه المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، يتطهر من الذنوب، وكذلك الزكاة هي أيضا تطهير من الذنوب والخطايا، كما في قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(التوبة/103)، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا»
ثالثا: أن الصلاة والزكاة بينهما تكامل في تحقيق غاية الشكر لله رب العالمين، فالعبادة هي الشكر، قال تعالى:«بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (الزمر/66). فالصلاة أداء لحق البدن وشكر على نعمة الحياة والإيجاد، أما الزكاة فهي أداء لحق المال وشكر لنعمة الرزق والعطاء من الله عز وجل.
إذن فالصلاة فيها اعتراف بنعم الله الخاصة وأداء لحق الله ولحق البدن لقوله … «إن لجسدك عليك حقا ولربك عليك حقا»، أما الزكاة فهي أداء لحق المال وهو لله، وأداء لحق الغير لأن المال يؤدى لصالح الفقراء والمساكين:«وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ» (النور/33)، «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (المعارج/24، 25)، وتدخل فيه حقوق الغير الواجبة والحقوق المندوبة لقوله صلى الله عليه وسلم « ولضيفك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا»، ولقوله…« دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك »[5].
والخلاصة: أن النظام الاجتماعي في الإسلام يتكون من مراعاة حقوق الله من جهة، وحقوق العباد من جهة أخرى، وهذا يمثله لنا هذا التكامل بين الصلاة والزكاة، لدرجة أنهما مقترنتان ولا يمكن التفريق بينهما، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة” لإيمانه الراسخ بأن النظام الاجتماعي الذي يجسد أحد أسس بناء المجتمع الإسلامي، لا يمكن أن تنفصل فيه شعيرة الصلاة عن شعيرة الزكاة «إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (البقرة/277)
السؤال 08 : انطلاقا من الطابع التعبدي لتلاوة القرآن ما هي الأهداف التربوية المتحققة من تلاوته وتدبره داخل الصلاة وخارجها؟
بدون شك أن تلاوة القرآن هي من الأعمال التعبدية المشرعة في الصلاة وخارج الصلاة، وليس شيء تلاوته تعتبر تعبدا إلا القرآن الكريم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف »[6]. والتلاوة أمر شرعه الله سبحانه وتعالى منذ بداية تنزل القرآن وجاء فيه أمر مباشر:«وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا»(المزمل/4).
وتلاوة القرآن قبل كل شيء علامة على الإيمان والاستقامة يقول تعالى:« الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» (البقرة/121) فلا يقرأ القرآن قراءة صحيحة إلا من آمن به وعمل به، إلا أنه قد يقرأ القرآن الكافر أو المنافق أو الفاجر كما جاء في الأحاديث ولكنها قراءة شكلية، وليست قراءة عميقة؛ أما القراءة العميقة فهي قراءة المؤمن وهي تزيد المؤمن إيمانا لأنها تفتحه على المعاني العظيمة الموجودة في كتاب الله، يقول صلى الله عليه وسلم» مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر»[7]، وفي رواية:« المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة ».
والمؤمن كما يقرأ كتاب الله المسطور (القرآن)، فكذلك يقرأ كتاب الله المنظور (الكون)؛ فهو يوازن ويقارن بين آيات القرآن وآيات الكون ليصل إلى حقيقة الإيمان وما يتفرع عليها من إقبال على الله وعبادته، قال تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (آل عمران/191).
كما أن تلاوة القرآن هي ترسيخ لسلوك القراءة التي هي مدخل للفهم والتعلم، وأول ما نزل من القرآن” إقرأ” والقراءة أعم من التلاوة؛ لأن التلاوة هي قراءة الألفاظ والمباني فقط، أما القراءة فهي قراءة الألفاظ والمعاني؛ يعني التعمق في المباني والمعاني للوصول إلى الخلاصات والاستنتاجات التي تفتح إدراك الإنسان المسلم، وتوسع هذا الإدراك وتعمق فهمه للدين والحياة، ولكل ما يشغل حياته في هذه الدنيا، ولكل ما يتطلع إليه في مستقبله الدنيوي والأخروي.
أيضا قراءة وتلاوة القرآن هي سكينة وترويح عن النفس:«الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد/28)، ولذالك فالمسلم يقرأ القرآن ويتغنى بقراءته، وهذه القراءة سكينة للنفس، وطرد للهم والغم والأحزان، وشحذ للقلب بقيم التوحيد والإخلاص والصدق والمحبة…الخ، وهي زاد روحي عظيم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا، قال: فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها » رواه أحمد .
فالقرآن هو أفضل الذكر على الإطلاق كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله؛ فهو يذكر الإنسان الذي من طبيعته النسيان، يذكره بالله وبحقه عليه، ويذكره بالدار الآخرة التي هو صائر إليها وفيها مستقبله وخلوده، ويذكره بغاية وجوده في هذا الكون وفي هذه الدنيا وما يجب عليه فيها، ولذلك فتلاوة القرآن هي تذكير بقواعد الهداية الربانية وعصمة من ضلالات الهوى؛ لأن القرآن يحتوي أسس الهداية، فهذا سيدنا موسى يسأل الله عز وجل:”أي عبادك أهدى” قال الله سبحانه وتعالى:” الذي يتبع الهدى”، والذي يتبع الهدى هو الذي يتبع أحكام القرآن؛ لأن القرآن هو كتاب الهداية، قال تعالى: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا» (الإسراء/9) والتلاوة بصفة عامة هي من أقوم العبادات ولها آثار تربوية عميقة في نفس الإنسان المسلم، لأنها تربطه بمصدر الهداية والعناية الربانية الذي لا يجف ولا ينضب، قال تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً»(الإسراء/82)
السؤال 09: يمكننا أن نميز عند تصنيف الأهداف التربوية لمختلف العبادات بين الأهداف الخاصة بكل عبادة على حدة والأهداف العامة، التي تتضافر جميع العبادات لتحقيقها، والتي نود منكم تحديد أهمها في نظركم؟
فيما يخص الأهداف العامة للعبادات يمكننا أن نحدد المقاصد العامة للعبادة في الإسلام كأهداف تربوية ينبغي التركيز عليها أولا، وقد أشرت فيما سبق إلى أن التقوى مقصد المقاصد، وتأتي بعدها مقاصد أخرى كالشكر والذكر والتزكية والاستقامة والتكافل وغير ذلك، لكن تصنيف هذه الأهداف والمقاصد التربوية يحتاج إلى جهد علمي وتربوي دقيق، ويمكن الانطلاق من بعض الكتابات المعاصرة التي اشتغلت على موضوع البحث في مقاصد العبادات، ومنها كتاب “العبادة في الإسلام” للشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله وبارك فيه، والعمل الرائع الذي قام به أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله وشد من أزره في كتابه القيم “الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية”، وكذلك الكتابات التربوية الرائعة لمعلمة الفكر التربوي الإسلامي في عصرنا الحديث الدكتور ماجد عرسان الكيلاني حفظه الله وزاد من عطائه، ولا ننسى ما كتبه الأستاذ محمد قطب وأخوه سيد قطب رحمهما الله، وغيرهم كثير على أي حال، لذلك يمكن أن نتحدث عن مرحلة جديدة من الكتابة التربوية، تنطلق من رؤى الإسلام ومفاهيمه، ويكون ديدنها التربية بالقيم والمقاصد، حيث يكون موضوع البحث في العبادات وغاياتها ومقاصدها التربوية قاعدة لذلك، وننتقل من التعميم إلى التخصيص، وهنا لا بد أن أنوه بالجهد الذي قام به الأخ عبد السلام الأحمر في كتابه بعنوان “الصيام والتربية على التقوى”.
السؤال 10: في ضوء ما تم بيانه بخصوص الأبعاد التربوية للعبادات هل لكم تقديم بعض المقترحات بشأن تدريسها للنشء.
أولا: يمكن أن نعتبر ربط الأحكام التعبدية بغاياتها ومقاصدها كما تداولناه في الأجوبة السابقة، في غاية الأهمية، لأننا بذلك نكون قد ربطنا العبادة بأهدافها التربوية؛ التي من ثمارها السلوك المستقيم للفرد المسلم، وحتى يفهم المسلم أن العبادة لها غاية توجيهية وتربوية في حياته وأنها ليست فقط طقسا جامدا يؤديه بشكل بارد ولا علاقة له بحياته.
ثانيا: لا بد من الجمع بين المقاصد الدينية المحضة والمقاصد الاجتماعية، وكل ذلك يحقق لنا غاية التعبد؛ لأن المقاصد الدينية المحضة التي قلنا في مقدمتها التقوى لا تختلف عن المقاصد الاجتماعية التي هي في حد ذاتها تقود إلى التقوى، وبذلك يتكامل السلوك الفردي مع السلوك الاجتماعي، فيثمر لنا رؤيا تربوية إسلامية واضحة في هذا الشأن، وتكون العبادة هي المحرك لهذه الرؤية، وهي الصانع لها ولما يترتب عليها من سلوك.
ثالثا: أن نجعل العبادات مدخلا لتهذيب الروح وتحسين المعاملات؛ فالعبادات كما رأينا سابقا ترتبط ارتباطا مباشرا بالأخلاق، ولذلك يمكن أن نجعل منها سبيلا إلى استقامة الذوق واستقامة المعاملات، وبهذا نصل إلى التصور والمفهوم السليم لدور العبادة التربوي في حياة المسلم.
رابعا: ينبغي أن نجعل من العبادة مدخلا لزرع القيم الإيجابية عند ناشئتنا، ونجعل منها وسيلة للتحسيس بالكرامة الإنسانية وعزة النفس، ثم إشاعة قيم المحبة والتسامح والتعاون، لأن هذه المفاهيم اليوم هي الرائجة والمتداولة ضمن المنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وديننا الحنيف أول من تكلم عن الكرامة الإنسانية «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(الإسراء/70)؛ فكرامة الإنسان تنطلق من السلوك التعبدي أولا وقبل كل شيء؛ لأن السلوك التعبدي يربط الإنسان بالخالق، ويربط الإنسان بأخيه الإنسان، ثم إن العبادة هي التي تبعث في الإنسان الإحساس بهذه الكرامة الإنسانية الحقيقية، قال تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (التين/4-6).
خامسا: أن نجعل من العبادة وسيلة لإشاعة قيم المحبة والتسامح والتعاون، التي تواجه قيم الكراهية وقيم العنف التي قد تطفو على السطح بين الفينة والأخرى في المجتمع وتؤدي إلى نتائج كارثية، لأنه بقدر ما نغرس القيم الإيجابية نتحرر من أمراض العقول والنفوس التي تشكل خطرا على استقرار المجتمع، وقيم الإسلام تتكامل فيما بينها، وهنا أختم بهذا الحديث العجيب الذي جمع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بين عدة معان وقيم كلها مستوحاة من منهج العبادة في الإسلام الذي جسده أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام أحسن تجسيد، كما في هذا النص المروي عن سيدنا موسى عليه السلام: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«سأل موسى ربه عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة والسابعة لم يكن موسى يحبها:
قال: يا رب أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكر ولا ينسى
قال: فأي عبادك أهدى ؟ قال: الذي يتبع الهدى
قال فأي عبادك أحكم ؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه
قال: فأي عبادك أعلم ؟ قال: عالم لا يشبع من العلم يجمع علم الناس إلى علمه
قال: فأي عبادك أعز ؟ قال: الذي إذا قدر غفر
قال: فأي عبادك أغنى ؟ قال: الذي يرضى بما يؤتى
قال: فأي عبادك أفقر ؟ قال: صاحب منقوص»
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:
«ليس الغنى عن ظهر (أي ظهر مال)، إنما الغنى غنى النفس وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه، وإذا أراد الله بعبد شرا جعل فقره بين عينيه»[8]
نسأل الله أن يبارك لنا في عبادتنا وأن يجعلها عبادة مثمرة تربويا في حياتنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] – رواه الشيخان
[2] – رواه البخاري
[3] – حديث رقم : 7707 في صحيح الجامع.
[4] – رواه مسلم
[5] – رواه مسلم
[6] – رواه الترمذي والحاكم
[7] – متفق عليه
– أخرجه الألباني رحمه الله في السلسة الصحيحة.[8]
التعليقات
#1عبد الله2013-08-19 19:08
أثمن عاليا ماورد في هذا الحوار القيم، والذي تطرق إلى قضية في غاية الأهمية، وهي البعد التربوي للعبادات، والذي مازال يعتبرموضوعا بكرا، يحتاج أن يبحث بعمق وتوسع، وأود أن ألفت الانتباه إلى العلاقة المتينة بين العقيدة والعبادة، والتي تجسد معاني العقيدة وتخرجها من طور الاعتقاد القلبي الخفي، إلى طور الإحساس الوجداني الدافق، وإلى الترجمة الرمزية عبر حركات الجسد المعبرة، فالركوع والسجود يجسدان تمام العبودية لله والاستسلام الكامل لأمره وإرادته، والاستكانة والخشوع بين يديه، كما أن رفع اليدين في تكبيرة الإحرام يجسد التحية لله والثناء عليه بأنه أكبر من الدنيا ومشاغلها ومباهجها وملذاتها، وإعلان الدخول في صلة وتواصل مع الخالق، وإقبال عليه بالقلب والبدن معا، والانقطاع لذكره ومناجاته، والضراعة له ودعاؤه ورجاؤه.
وهكذا يمكن للمصلي أن يتحسس مثل هذه المعاني الاعتقادية، المجسدة في أفعال الصلاة وأقوالها، رابطا بين حال القلب وحال البدن من بداية الصلاة إلى نهايتها، لتكون صلاته حقا نافعة تربويا ومقبولة تعبديا.
#2أبو عبد الرحمان2013-09-06 20:00
شكر الله لأستاذنا الفاضل هذه المعالجة القيمة لموضوع الآثار التربوية للعبادات الإسلامية حيث أنها ستفتح أعين الكثيرين وتبصرهم بالبعد التربوي والمقاصد المرجوة من هذه العبادة التي لا يقتصر مفهومها في الإسلام على مناسك التعبد المفروضة والمعروفة، من صلاة وزكاة وصيام وحج..وإنما هي أعم من ذلك وأشمل؛ إنها العبودية الخالصة لله .. والتلقي منه سبحانه في أمر الدنيا والآخرة ..ثم هي الصلة الدائمة بالله في هذا كله….
والعبادة بهذا المعنى تشمل الحياة؛ إنها لا تقتصر على اللحظات القصيرة التي تشغلها مناسك التعبد، وما كان هذا هو القصد من الآية الكريمة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِن وَالإِنس إِلا لِيَعْبُدُونِ)]الذاريات -56[
أما عن الآثار والفوائد التربوية للعبادة الإسلامية، فهي كثيرة لدرجة يصعب حصرها أو الإحاطة بها، وهي موجزة على النحو التالي:
v العبادة تربية اعتقادية إيمانية، وحب لله واتصال دائم به.
v العبادة تنمية وتزكيه للروح، وتوثيق لصلة الإنسان بخالقه.
v تربية للإرادة القوية بما يفيد الفرد والمجتمع.
v تربية اجتماعية على المستوى الأُسري والمحلي وعلى مستوى المجتمع والإنسانية.
v تربي العبادة في الإسلام العقل وتنميه؛ فتوجهه ليتغذى بالغذاء العقلي السليم، وتبعده عن كل ما يفسده ويضره، وتربيه على الوعي واليقظة الدائمة، وعلى التفكر في الكون والانفتاح عليه.
v تحقق العبادة في الإسلام الاطمئنان والراحة النفسية، وتعين على تخطي الأزمات النفسية.
v تربية صحية؛ فتقوم العبادة في الإسلام على الطهارة والنظافة؛ حيث الوضوء والاستحمام والتطهر من النجاسة، ونظافة الثوب والمكان بجانب نظافة البدن، وكل ذلك له تأثيرة الإيجابي على الصحة.
v تربية أخلاقية؛ حيث تربي العبادة المسلم على قدر من الفضائل الثابتة المطلقة، والصالحة لتربية الإنسان وبناء الإنسانية.
v تربية سياسية؛ تقوم على التعاون والتناصح، وعلى العدل والمساواة ونبذ الفرقة والتمييز العنصري، وعلى طاعة المحكومين للحاكم ونصحهم له متي ضل الطريق، وعلى الشورى والاحترام المتبادل بين الجميع، واحترام آرائهم وأفكارهم وعدم السخرية منها.