فاعلية المؤمن: المفهوم والصور والعوامل والصوائن

0

فاعلية المؤمن

المفهوم والصور والعوامل والصوائن

في حوار مع الدكتور زيد بوشعراء

القسم الأول: مفهوم فاعلية المؤمن وصورها

المهام العلمية والإدارية:

vأستاذ التعليم العالي بشعبة الدراسات الإسلامية  بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة سابقا

vمندوب جهوي للشؤون الإسلامية بجهة الغرب الشراردة بني احسن حاليا.

vرئيس سابق لشعبة الدراسات الإسلامية وعضو بلجنة الخبرة والبيداغوجية بجامعة ابن طفيل.

vعضو سابق بالمجلس العلمي المحلي لإقليم القنيطرة.

vخطيب جمعة سابق بمسجد بدر بمدينة القنيطرة.

vرئيس الوحدة الإدارية الجهوية لمؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين.

vرئيس اللجنة الجهوية للتعليم العتيق.

vعضو سابق ممثل لوزارة الأوقاف فياللجنة الحكومية الخاصة بأخلاقيات العلم (Bioéthique).

المشاركات والمساهمات العلمية:

vكتاب “سنة الخلفاء الراشدين بحث في المفهوم والحجية ” ديبلوم الدراسات العليا.

vعوامل تغير الأحكام في التشريع الإسلامي رسالة الدكتوراه.

vأبحاث في مقاصد الشريعة.

vأبحاث في تفسير القران الكريم وتدبره.

vأبحاث حول فقه الواقع.

سؤال 01 : بداية نود منكم تحديد مفهوم فاعلية المؤمن.

       بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

       فاعلية المؤمن هي إيلاؤه مزيدا من العناية الفكرية والعملية لنوع خاص من” الصالحات” المطلوبة من كافة المؤمنين تلك التي يتعدى نفعها فاعلها وتعود بركاتها على الأمة ودينها وتكون بالنسبة لزمان فعلها ومكانه هي المناسبة التي تمس الحاجة إليها أكثر وتكون عند تعارضها، وتعذر الجمع بينها، هي الأعم نفعا والأثقل وزنا والأسرع تحققا والأدوم أثرا.

 والمؤمن الفاعل، وهو ينحو هذا المنحى في الترجيح، يتراوح سعيه المبارك بين جلب مصالح معتبرة معطلة في الأمة  وإحيائها، وجلب مصالح مرسلة مفقودة فيها واكتسابها، وحفظ مصالح قائمة وتنميتها وتكثيرها، وإزالة مفاسد واقعة أو تقليلها، وبدون ذلك المنحى في الترجيح لا يكون المؤمن فاعلا بل يكون، من حيث لا يشعر، فاعلا في الاتجاه المعاكس مؤخرا لنهضة أمته.

سؤال 02: عندما نتحدث عن فاعلية المؤمن يتبادر إلى الفهم أننا بصدد الكلام عن المؤمن فردا ومؤسسة. فكيف ترون العلاقة بين فاعلية الفرد وفاعلية المؤسسة؟

     الفاعلية الفردية: ضرورة حضارية ليس العمل التعاوني المشترك بمغن عنها ولا ببديل لها وما ينبغي له ذلك.

 والفاعلية الفردية هي الأصل: هي الأصل في انطلاق مشاريع الإصلاح في المجتمعات والأصل في انطلاق الإنجازات الحضارية عبر التاريخ، والعمل المشترك إنما يأتي مسندا لها ومعينا ومرشدا لها ومطورا.

 والعمل المؤسسي لا يقاس نجاحه فقط بمدى قدرته على تقديم أعمال صالحة ناجمة عن تكامل أفراده وتعاونهم وتشاورهم، ولكن يقاس أيضا بمدى وفائه لأصل نشأته الفردية أي بمدى قدرته على تأهيل كل فرد من أفراده للنهوض بصالحات ذات بال وقدرته على إطلاق المباردة الفردية وتعهدها وتنميتها، بحيث يصبح الفرد أحسن فاعلية مما كان عليه قبل اندماجه بالعمل المؤسسي.

  والعمل المؤسسي الذي يؤول إلى الحد من القوة الفردية بالنقصان منها أو تجميدها في مستواها القبلي، أو ينتهي إلى أن يصبح مجموعة من أفراده تشترك في إنجاز ما يكفي في إنجازه الفرد الواحد، هو عمل مختل فهما وتدبيرا.

 لذلك صار لزاما العمل على استعادة الفاعلية الفردية وتجديدها وتنميتها وصيانتها بعد التحجيم الذي لحقها من جراء العمل المؤسسي غير المؤهل بل لا بد أن يستعيد الفرد فاعليته سواء كان عاملا ضمن عمل مؤسسي أو كان عاملا بانفراد.

سؤال 03: إن الفاعلية التي تؤطرها المذهبية المادية غالبا ما ترتكز على ما يحققه المرء لنفسه من مكاسب – دون اكتراث لغيره من الناس – وتكون هي الحافز الأساس له على استفراغ الجهد لبلوغ أكبر قدر منها، لكن في المذهبية الإسلامية يحضر حافز مغاير لفاعلية المسلم كيف كذلك؟

 إن الأمة والإسلام يحتاجان في كل زمان ومكان إلى مؤمنين فاعلين يحسنون تحقيق (ما ينفع الناس) أولئك الذين هم أحب الخلق إلى الله كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:” خير الناس أنفعهم للناس” وقال:” أحب العباد إلى الله أنفعهم لعياله “.

 والمؤمن الفاعل نافع كله قوله وعلمه وفعله وماله وخلقه ولذلك شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالنخلة فقال:” مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك” وهو بهذا على النقيض من العبد الكَل الذي هو عاجز وثقيل وعبء على غيره وعديم النفع كما قال تعالى:” وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. (النحل 76)”.

  والمؤمن الفاعل ينهض بفعل الخير من منطلق  توطينه لنفسه أن ينهض بفعل ما هو في اعتقاده واجب أو مستحب ولو فعله وحده، غير أنه لا يرهن إحسانه بإحسان الناس أبدا وحاله بذلك على الضد من حال الإمعة الذي قبحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا ” إنه لا يقف من أمته وأحوالها موقف المتفرج ولا موقف منتظر الفرج ولكن موقف المتسبب في قدوم الفرج.

   والمؤمن قوي أو ضعيف، فيه خير كثير( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير )  كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمؤمن الفاعل قويا كان أو ضعيفا مؤثر في محيطه إلا أنه أعظم من غيره  قوة وأبرك تأثيرا ومن ثم  كانت فاعلية المجاهد المسلم القوي تعدل فاعلية عشرة رجال غير مؤمنين، وكانت فاعلية المجاهد المؤمن الضعيف لا تقل عن فاعلية رجلين من غير المؤمنين وذلك بالصبر وذكر الله وهو ما يشير إليه قوله تعالى:” إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن تكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين “–(الأنفال  66.67) وهذا التفصيل في فرق القوة ورد في الجهاد وأما في غير سياق الجهاد فقد أخبر الله أن قوة المرء بعد إيمانه أكبر من قوته قبله كما قال على لسان هود:” وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ “.(هود 52)

سؤال 04: من المعلوم اختلاف صور الفاعلية بحسب الآثار المحدثة في واقع الناس والحياة فعلى أي أساس يكون هذا الاختلاف؟

  ليس للفاعلية الفردية صورة واحدة ولا هي ذات مقادير محددة مطلوبة من جميع المؤمنين على نحو واحد ودرجة واحدة  وكم واحد، بل هي نسبية في صورها ومقاديرها تختلف باختلاف الأشخاص وتتفاوت بتفاوت قواهم ومؤهلاتهم.

 وفاعلية المؤمن كما تتصور في المبادرات النافعة، التي يمكن أن تصدر منه تلقائيا تتصور أيضا في التنفيذات المتقنة لما يوجه إليه من الطلبات والأوامر، أو يوكل إليه من المهام والمصالح.

  وأرقى أنواع الفاعلية ما جمع فيه المؤمن بين حسن المبادرة التلقائية وحسن التنفيذ، يليه النوع الثاني وهو ما جمع فيه بين المبادرة والتنفيذ، مع تفاوت بين النوعين في قيمة المبادرة ودرجة أداء التنفيذ، والنوع الثالث ما انحصر في حسن المبادرة أو في حسن التنفيذ، وأما اقتصار عطاء المؤمن على ردود الأفعال والاستجابة للاستفزازات فهو أقرب إلى اللافاعلية منه إلى الفاعلية.

   ويتعذر حصر صور فاعلية المؤمن ولكنها  أنواع أبرزها فاعلية الهداية والإقناع أي اجتهاد المؤمن، حيثما كان، في إقناع غير المسلمين بالإسلام، عن طريق التعريف بمعجزاته وخصائصه ومقاصده، وإقناع العصاة من المسلمين بحاجتهم إلى الطاعة والمتذبذبين منهم  بالحاجة إلى الاستقامة ومحاورة المتشككين وأصحاب الشبهات ومعتنقي الأوهام وإقناعهم والتسبب في اهتدائهم وتعهد كل من اقتنع واهتدى منهم بالتوجيه والنصح حتى يحسن إسلامه  ويصلح دينه، وليس ثمة فاعلية أعظم من هذه إذ هي التي فضلها الله تعالى بقوله:” ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين:” وهي من الفاعليات القليلة المخصوصة في الإسلام باكتساب صاحبها الأجر المتنامي عير الزمان فقد قال فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام:” من دعا إلى هدى كان له من الأجر  مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا”.

 ولو فرضنا أن مسلما جعل هذا هو شغله الشاغل أو قصر فاعليته على هذا الواجب لكان من أحسن  الفاعلين، لكنه يكون أفضل فاعلية لو زاد عليه سعيه إلى أن يكسب إلى عالم الإسلام من يرجى فيهم نفع كبير من الأغنياء والأذكياء والخبراء والزعماء ونحوهم من أصحاب المؤهلات الشخصية الفذة أو المكانة المرموقة فإن توبتهم واهتداءهم يجلب لعملية الإصلاح خبرات جيدة وإمكانيات إضافية وزيادة رشد في التدبير ويجعل الإسلام يكسب أفرادا كل واحد منهم هو كالأمة إذا اهتدى كان مفتاحا لأتباعه أو المعجبين به وأمكنه بيسر أن يستميلهم إلى صراط الله المستقيم، وأكثر منه فاعلية من يجتهد في جعل من اهتدى على يده هاديا لغيره يحضه على ذلك ويعينه عليه ويؤهله له وهذا من أقصر الطرق إلى نشر الإسلام وهداه وهو أسهل من السعي إلى كسب كل فرد من أتباع هؤلاء على حدة ومن هنا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العناية بخيار الناس فقال:” خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا “.

سؤال 05: نلاحظ تركيز القرآن على فاعلية الخطاب حيث جعله مقابلا لحالة اللافاعلية عامة في قوله تعالى:“وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”[النحل: 76] فكيف تكون الخطب والمواعظ والفتوى أيضا فعالة ومحققة لأهداف الخطاب الإسلامي؟

  إذا اجتهد الخطيب في خطبته حتى صار محسنا في اختيار المواضيع، التي يحتاج إليها عموم مخاطبيه في زمانهم ومكانهم، ومحسنا في إعداد الخطب، ومحسنا في إلقائها، بحيث يشمل خطابه جميع أنواع مخاطبيه، ويؤثر فيهم عمليا بحيث يخاطبهم بالمنهجية والتعبير، اللذين يتمكنون بهما من فهمه ونشر فحواه في الناس، إذا أحسن هذا الإحسان فإنه يكون مصلحا لأحوال الحاضرين والغائبين معا، ويكون المسجد تبعا لذلك مصلحا ونافعا لمحيطه  روحيا وفكريا وسلوكيا واجتماعيا وأمنيا، وتلك فاعلية عظمى  لأن شعيرة الجمعة تأطير أسبوعي جماهري ملزم، يأتيه المسلمون معتقدين وجوب الإتيان وقد هيأهم الله للإنصات والاستفادة.

أما فاعلية الإفتاء والتعليم فهي أن المؤمن العالم يمكن أن يكون فاعلا في مجتمعه عن طريق الإفتاء أو التعليم. ففاعليته في الإفتاء أن يأتي بفتوى مطابقة للواقع محققة لمقاصد الشارع، (فتوى أو مشروع فتوى إن كان عاملا ضمن هيئة علمية) مبنية على اجتهاد لا تقصير فيه ولا عجلة، بحيث تكون ثمرة فهم دقيق للنازلة وما يقترن بها وفهم صحيح للحكم الشرعي الذي نزله عليها وذلك بعد بذله جهدا كافيا تفكيرا وبحثا واستشارة.

  فهذه الفتوى هي التي يكون لها الأثر الطيب المبارك في المجتمع إذا أتى بها العالم المؤمن في الوقت المناسب، بحيث لا يتأخر البيان عن وقت الحاجة، وبالصيغة الملائمة بحيث لا يكون لها عند الناس تأويلات ولا تستعمل من قبل بعضهم في غير ما قصده منها صاحبها.

  وأما فاعلية التعليم فهي مبادرة العالم إلى التواصل مع عموم المسلمين، عبر كافة المنابر المشروعة، بقصد إفادتهم من ثمرات علوم الإسلام وتاريخه ما تصح به اعتقاداتهم وعباداتهم ومعاملاتهم، ويحسن تدينهم بالتركيز على المسائل التي يجهلون حكمها أو معناها أو حكمتها، والمسائل التي يخطئون في فهمها أو في تطبيقها، والمسائل التي تشتبه عليهم ويحارون فيها، والأحداث التي يحتاجون إلى معرفة عبرها، وهذه الطريقة الانتقائية هي الطريقة المقتدية بمنهج الله في تنزيل القرآن، أي تنزيله عند الحاجة وبقدر الحاجة، وهي التي تبنى الشخصية الدينية للمجتمع وتحصنها من عوامل الانحراف في وقت معقول مناسب واعتمادها هو الذي يحقق للتعليم فاعليته.

سؤال 06: في الآية 76 من سورة النحل نجد ارتباط الفاعلية المطلوبة بالأمر بالعدل وإعطائه الأولوية في الخطاب الدعوي على باقي الفضائل الأخرى، نود منكم توضيحا في الموضوع؟

   نعم، الأمر بالعدل هي الصفة التي ميز الله تعالى بها المؤمن الفاعل عن الكل العاجز وهي صفة للنفع المتعدي لأن صاحبها ليس فقط عادلا في معاملاته بل هو مناصر للقضايا العادلة سواء كانت قضايا أفراد أو قضايا فئات أو قضايا شعوب وسواء كان المظلومون مسلمين أو غير مسلمين يناصرها بشكل فردي أو يحض غيره على نصرتها ضمن هيآت، فهو لا يظلم ولا يسكت عن الظلم بل قوام بالقسط وآمر به.

   وكلما وجه المؤمن أمره بالعدل إلى من كان ظلمه أعم وظلمه مصدر لظلم غيره كان فاعلا أكثر وكان مزاولا لأحسن أنواع  الجهاد وذلك أنه بأمره إياه بالعدل قد يتسبب في إنهاء ظلم عام أو التقليل منه أو المنع من استفحاله أو تكرره.

   هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن نزاهة القاضي وحكمه بالعدل أمر جبلت النفوس على حبه وتبجيل صاحبه. والقاضي المؤمن الذي يحرص على عدم الميل لأي من الخصمين ولا يبالي بما قد يتعرض له من الإغراء أو التهديد ولا يميل إلى أحد الخصمين لقرابته أو صداقته أو لكونه من أهل ملته أو وطنه ولا ينحاز ضد أحدهما لكونه عدوا أو بعيدا أو من غير أهل البلد أو الملة. القاضي المسلم الذي يثبت على نزاهته أمام هذه المؤثرات يفعل ذلك تقوى لله واستجابة لأمر ربه الذي يقول “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”(المائدة 8). وهو بصنيعه هذا يجلب الاحترام للدين ويعلي قيمة الإيمان ويثير الانتباه إلى جدواه في حياة الناس وتلك فاعلية هدائية مارسها القضاة في تاريخ الإسلام وبقي لها أثر  إشعاعي حسن وصدى حضاري يتردد.

سؤال 07 : لقد ربط القرآن الكريم خيرية الأمة الإسلامية بقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف تكون فاعلية المؤمن في النهوض بهذه المهمة الجليلة؟

  إن هذه الفاعلية لها صور، ومن هذه الصور: فاعلية الدلالة على الخير التي تشمل المبادرة إلى دلالة أرباب الأموال، من  المحسنين  والمستثمرين، على المصارف والمشاريع التي تمس حاجة بناء الأمة إليها ودلالة الجمعيات على المجالات المحتاجة إلى أنشطة أو المفتقرة إلى الخدمات، ودلالة الباحثين على قضايا البحث العلمي ذات الأولوية، ودلالة طالبي الرزق على طرق تحصيله ومواطنه الطيبة المناسبة لقدراتهم وأماكن توفره، ودلالة أولي الأمر على المصالح المعطلة والمرسلة التي تستجلب بسلطان الدولة، ونحو ذلك من أنواع الدلالة المشمولة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم” إن الدال على الخير كفاعله ” وقوله:”من دل على خير فله مثل أجر فاعله”.

  أما فاعلية النهي عن المنكر فلها صورتان: أولاهما مسارعة المؤمن إلى النهي عن السوء أو المنكر عند أول نشوئه بدائرة مسؤوليته، من أسرة أو حي أو مؤسسة، ومحاصرته إياه وعمله على إجهاضه قبل أن يستحكم في محدثيه وقبل أن ينتشر في سواهم، وهذا نوع مهم من الفاعلية لأن المبادرة المبكرة لا تتطلب من الوقت والجهد ولا تلاقي من المقاومة ما تتطلبه وتلاقيه المعالجة المتأخرة وذلك أن المبادرة المبكرة تصادف المنكر في حال ضعف بسبب قلة المتعاطين له وهشاشة ارتباطهم به وعدم وصولهم بعد إلى حال الاعتياد له وهو ما يسهل القضاء عليه.

والصورة الثانية هي: القيام بالإنكار وفق شروطه أي بما لا يزيل المنكر ويخلفه شر منه أو مثله ولكن بما يزيله ويخلفه ضده أو بما يقلله.

سؤال 08: بعض الناس ترتفع فعاليتهم كلما تعلق الفعل بما يأمرون به أو ينهون عنه غيرهم وإذا تعلق الأمر بما يلزم أن يقوموا به هم أنفسهم تراجعت فعاليتهم، وتقاعسوا في إتقان ما يترتب في حقهم من واجبات فهل تؤكدون هذه الملاحظة؟

         من أساس الفاعلية اجتهاد المؤمن في أداء الواجبات الشخصية بإحسان، وعلى رأسها مهنته الدنيوية التي يلزمه التفاني في إتقانها على الوجه المطلوب عرفا أو عقدا أو قانونا، وحرصه على البلوغ فيها إلى درجة الإبداع وتقديم المقترحات ومخالقة المتعاملين فيها بخلق حسن قصدا إلى أداء الأمانة وابتغاء لمرضاة  الله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:” إن الله  يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه ”  وقوله صلى الله عليه وسلم:” وخالق الناس بخلق حسن” وهذا إذا حصل من المؤمن فإنه:

v يجدد الثقة بجدوى الإيمان وأثره الحسن في حياة الناس.

v يبعث على التنافس في إتقان الأعمال ويقلل من حالات الإهمال وعدم الشعور بالمسؤولية.

v يطور قطاعات الحياة التي يجتهد فيها المؤمنون.

v يهدي الناس إلى الله بما يكشف لهم من آياته وسننه الكامنة في مجال المهنة لا سيما إذا كانت المهنة ذات طابع علمي تعليما أو تطبيبا أو هندسة …

        ومن الفاعلية أيضا في هذا الصدد مبادرة المؤمن الغني، عندما تكون الزكاة غير منظمة من قبل الدولة، إلى العمل على إحياء التنظيم المؤسسي للزكاة، ومبادرته بالموازاة مع ذلك وبالتنسيق مع من يعرفهم أو بشكل فردي إن تعذر التنسيق، إلى صرف الزكاة في الأهم فالأهم من المصالح بحسب الأولويات المستخلصة من  دراسته لأوضاع الأمة بما يجعل الزكاة مسهمة في إصلاح أحوالها ونصرة دينها من قبيل صرفها على الطلبة الفقراء النجباء الذين يتابعون دراستهم في تخصصات مهمة تحتاج الأمة إليها.

v وكذا مبادرة المؤمن إلى صرف الزكاة على الأحوج فالأحوج من المحتاجين بطريقة تجتث فقرهم وتقضي عليه نهائيا أي توظيفها في إيجاد أعمال لهم ذات دخل دائم وكاف بدلا من صرفها عليهم في شكل نقود تكفي لاستهلاك أيام معدودة كأنها أقراص مسكنة للآلام لا غير.

v وكذا صرفه لصدقاته في بناء المساجد حيث لا توجد وفي المواقع المناسبة وبطريقة في البناء تسر الناظرين وتجلب الراحة للمرتادين.

v وكذا صرفه إياها في إنجاز المؤسسات والوسائل التي تسهم في تجديد رسالة الأسرة ورسالة التعليم وتجعلهما مصدرين لإمداد بلاده بالنوعية التي تحتاج إليها من الرجال والنساء.

v وكذا مبادرته إلى تحبيس بعض أمواله وممتلكاته على الأولى والأحوج إليه من الصالحات، ونحو ذلك من وجوه الحكمة في الإنفاق من حيث هي وضع المال في موضعه المناسب، وذلك أن هذه الحكمة مطلوبة شرعا بدليل أن قوله عز وجل: “يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”(البقرة 269) قد سيق في ثنايا الحديث عن الإنفاق في سبيل الله. 

سؤال 09: يمكن إدراج ما تحدثتم عنه في إطار الفاعلية الذاتية التي ترتبط بالقدرات والخصائص والتكاليف التي ترتبط بالذات المؤمنة، لكن الفاعلية تكون أيضا بحسن توظيف الوسائل والتقنيات وأساليب التنظيم والإدرة والتخطيط والتسيير وما شابه ذلك، فهل لكم تقديم توضيحات لهذا النوع من الفاعلية الخارجية أو الإجرائية إن صح التعبير؟

    إن الفاعلية الكاملة هي التي تتساند وتتناسق فيها الفاعلية الذاتية بفاعلية الإمكانيات الخارجية، والتي قد يتوافر منها الكثير بين يدي الفاعل فيوظفها في رفع قدرته على الإنجاز السريع والمتقن في ذات الآن، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

1 – فاعلية التدبير:

    إن من أهم الفاعليات الفردية عمل المؤمن عندما يحمل مسؤولية ما على وضع مشروع لبناء مؤسسته وإصلاح مجتمعه من خلالها وجلب الوسائل المحققة لمقاصد المشروع واستعمال الصلاحيات التي أوتيها في ذلك باتباع ما يلي:   

ــ تكوين فريق عمل مؤهل ومنسجم

ــ توسيد الأمر إلى المؤهلين وتنصيبهم في المناصب خلفا لغير المؤهلين.

ــ سن السنن الحسنة أو إحياء العمل بما أميت منها على نحو يجعلها تنتشر في المجتمع وتستمر من بعده عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:” من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا “.

ــ درء ما يمكنه درؤه من المفاسد المتوقعة.

ــ إزالة ما يمكنه إزالته من المفاسد الواقعة.

2 – فاعلية إعداد الوسائل:

   من الفاعلية الاجتهاد، ابتكارا وتنقيبا، في إعداد الوسائل الأنسب والأنجع والأسرع والأوسع في تحقيق المقاصد الشرعية وإنجاز المشاريع الإصلاحية والتنموية.

3 – فاعلية إعداد الرجال:

   من الفاعلية الاجتهاد في تأهيل خواص الناس لأن يكونوا رجال الأمة وذلك من خلال تعليمهم وتزكيتهم:

ــ تعليمهم العلوم والمهارات التي تكسبهم القدرة على حسن التفكير وحسن التعبير وحسن التدبير وحسن التأثير.

ــ تزكيتهم وتعهدهم بالمواعظ التي ترسخ خوف الله في القلوب وتحمل على مجاهدة أنفسهم ونهيها عن الهوى وتجعلهم من المتقين المباركين وهذه فاعلية كبرى لأنها تجدد في الأمة فاعلية نبيها محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين “ (الجمعة 2).

4 – فاعلية إعداد المعلومات:

        من الفاعلية إعداد المعطيات المناسبة والمضبوطة أي مبادرة المؤمن، عن طريق التفكير والبحث العلمي،  إلى إعداد مقترحات حلول علمية وثقافية لمشاكل الأمة النظرية والعملية أو مبادرته، عن طريق رصد الظواهر وتقييم الأوضاع وتتبع المنشورات، إلى تجميع المعطيات المتعلقة بها وتحليلها وفحص أسبابها ومقاصد أصحابها وتوقع  مآلاتها ضمن مؤسسات يسعى إلى تأسيسها لهذا الغرض أو يحض على إنشائها قصد تنوير من يهمه أمر الأمة.

5 – فاعلية الاقتباس:

       من الفاعلية اجتهاد المؤمن في تتبع ما ينتجه الفكر البشري والحضارات الأخرى من المعارف والأنظمة والعمل على تقييمها في ضوء الموازين الإسلامية واقتباس الحكمة منها وتقريبها إلى المسلمين ترجمة وشرحا وتحليلا ونقدا ونشرا ضمن مؤسسة يسعى إلى إنشائها لهذا الغرض وقد روي أن:” الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها أخذها “

6 –  فاعلية الاستثمار الراشد:

   من الفاعلية مبادرة المؤمن الغني إلى استثمار أمواله على النحو الذي يؤول به إلى أن يصبح فاعلا اقتصاديا، واستثماره إياها في إنتاج الطيبات البديلة عن خبائث السوق، وفي إنشاء المؤسسات الحضارية في المجالات التعليمية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والترفيهية ونحوها، واستثمارها عامة في ما يحقق التنمية الشاملة.

7 –  فاعلية الخدمة المجانية الهادية:

   من الفاعلية الاجتهاد في تقديم خدمات اجتماعية عملية بدون مقابل لمن يحتاج إليها تطبيبا أومحاماة أو جبرا للخواطر أو إعارة أو إعانة بالبدن أو شفاعة حسنة من وساطة أو شهادة أو نحو ذلك من الخدمات المشفوعة بالتذكير بالله وباليوم الآخر، فذلك هو الذي يجعل الخدمة فعالة لأنها تجمع بين حل مشاكل اجتماعية للأفراد وتحقيق الهداية لهم، وهو العمل الموافق لمراد الله، فقد ذكر القرآن أن يوسف عليه السلام لم يجب صاحبي السجن عن سؤاليهما حتى دلهما على الله وذكرهما به وبنعمه وفضله مغتنما حالة تشوقهما لمعرفة الجواب وانتظارهما له لكي يدعوهما إلى الله.

والخدمة المجانية هي المشمولة بقوله صلى الله عليه وسلم ” والله في عون العبد ما  كان العبد في عون أخيه” وبقوله تعالى:” من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها “(النساء 85).

8 –  فاعلية التوسط في النزاعات: 

    من الفاعلية المبادرة إلى التوسط بين فئتين من الأمة متنازعتين قصد إصلاح ذات بينهما ودرء الشقاق عنها والتوفيق بينهما وذلك أن هذا التوسط يعود بالنفع على الدين ويقيه من شر مستطير وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”.

 9 – فاعلية إتقان المهنة

 من الفاعلية اجتهاد المؤمن في أداء مهنته الدنيوية على الوجه  المطلوب عرفا أو عقدا أو قانونا، وحرصه على البلوغ فيها إلى درجة الإتقان والإبداع وتقديم المقترحات و مخالقة المتعاملين فيها بخلق حسن قصدا إلى أداء الأمانة وابتغاء لمرضاة  الله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :” إن الله  يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه ”  وقوله صلى الله عليه وسلم :” وخالق الناس بخلق حسن  ” وهذا إذا  حصل من المؤمن فإنه :

– يجدد الثقة بجدوى الإيمان وأثره الحسن في حياة الناس. 

– يبعث على التنافس في إتقان الأعمال ويقلل من حالات الإهمال وعدم الشعور بالمسؤولية.

– يطور قطاعات الحياة التي يجتهد فيها المؤمنون .

يهدي الناس إلى الله  بما يكشف لهم من آياته وسننه الكامنة في مجال المهنة لا سيما إذا كانت المهنة ذات طابع علمي تعليما أو تطبيبا أو هندسة …

 

التعليقات

#1أبو صفاء2013-11-11 10:47

بداية أشكر موقع الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية، على حسن اختيارهذا الحوار القيم، الذي يقدم لنا أفكارا عميقة لمعالجة ظاهرة الكساح التي استشرت في الأمة عامة والمغاربة خاصة، كما أشكر الدكتور زيد بوشعراء الذي يبدو من إجاباته السديدة اهتمامه بالموضوع وقدرته على تناوله بعمق وشمولية، وبما أن الحوار سيستمر في حلقة ثانية، فإنني أرجو أن يلامس بعض الإشكالات التي سأحاول الإشارة إليها في هذا التعليق.
إنه ما من شك أن المسلمين هم أكثر الأمم تدينا في الأرض، لكن سلوكهم الذي يطبعه التواكل واستثقال العمل والميل إلى الراحة والكسل والإحجام عن بذل الجهد والإبداع والإتقان، يصور حال الأمة في عينها وعين غيرها على أنها لاتملك مقومات الفاعلية المطلوبة، التي تمكنها من منافسة الحضارة الغربية، التي أضحت بفضل فاعليتها وحيويتها البارزتين في مجالات التنمية والإنجاز الحضاري، تبهر العقول وتجذب النفوس لاقتفاء أثرها والسير على نهجها، من طرف جميع شعوب الأرض وضمنهم الشعوب الإسلامية التي باتت هي الأخرى عالة على الحضارة الغربية، بحيث لاترى إمكانيات الإقلاع الحضاري وملاحقة التقدم العلمي إلا من خلال ما تجود به هذه الحضارة المادية، التي بدأت تدخل مرحلة العقم والتراجع والانحدار المتسارع.
لذلك أود أن يتطرق الحوار إلى إبراز ما ينطوي عليه الإسلام من مقومات خلق الفاعلية وتنميتها واستدامتها، حتى تتحرر الأمة من عقدة الانهزامية والدونية والتبعية للآخر، والاقتناع بقدراتها الذاتية التي أهلتها سابقا وتؤهلها حاضرا ومستقبلا لتتبوأ مكانة السيادة والريادة بعد ما عانته من تعثر وانحسار ردحا من الزمان.

#2أحمد عروبي2013-11-14 10:26

شكرا للموقع على هذا الحوار النوعي الذي استطاع فيه الدكتور شيخنا بوشعراء كعادته أن يكشف عن قيم راسخة في الإيمان ولكنها ظلت مغيبة لمدة طويلة من الزمن …
نأمل أن يأخذ هذا الفكر طريقه الواسع نحو كل مواطن مغربي مسلم … عبر وسائل التنشئة والتربية المعروفة والتي منها مناهج التعليم
وفقكم الله

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.